يبدو أن الرئيس السوري أحمد الشرع لن يغادر منصبه قبل أن يسلم كثيرين إلى الجنون الكامل!
ولا شك أن كثيرين، وهم يرونه الآن وقد فُتحت له الولايات المتحدة الأمريكية أبوابها على الرحب والسعة، أصابهم الخفيف (وهو درجة من درجات الجنون)، وقد سافر إلى هناك بعد رفع العقوبات عن اسمه واسم وزير داخليته أنس خطاب، ووصل الودّ إلى حد أن يلعب كرة السلة مع قادة أمريكيين، الأمر الذي ينقل هذه الزيارة من كونها رسمية إلى أن تبدو ودّية للغاية!
القرار ذاته اتخذه مجلس الأمن بشأن الرجلين، وسبق ذلك إلغاء العقوبات عن سوريا، على نحو يمثل إجراء عمليا لدمج سوريا الجديدة بنظامها الحالي في المجتمع الدولي، وقد فُتِحت للنظام الجديد الأبواب المغلقة، التي أُغلِقت في وجه التجارب الإسلامية في بلاد الربيع العربي، مع أن أصحابها ينتمون إلى فصيل مسالم، يتقبل المجتمع الدولي ولا يناصبه العداء، ولديه رغبة حقيقية في الاندماج، وهو توجه كان جزءا من مشهد تقبّل المحتل الأمريكي في العراق، وتحالف مع المحتل الدولي لأفغانستان.
ما يسهّل مهمة الكاتب في محاولة فهم المشهد، أن أحدا لا يشكك في الموقف السابق لأحمد الشرع تحت اسم "الجولاني"، ومن مقاومته للوجود الأمريكي. ومن المفارقات العجيبة في هذا الصدد أن الإسلامي الذي قاوم احتلال العراق يُستقبل على الرحب والسعة في واشنطن، ويصفه الرئيس الأمريكي الحالي بأنه رجل قوي، بينما العراقي الذي تماهى مع مشهد ما بعد الاحتلال حاله من حالنا، حالي أنا -على وجه الدقة- يعيش غريبا بعيدا عن وطنه!
الإجماع ضد الشرع:
بيد أن هؤلاء ليسوا سواء، فقد جمع الموقف من الشرع الأضداد، ومن لم يكونوا ليُجمعوا على شيء، فلا شك أن نجاح التجربة السورية مقلق للبعض، خوفا من انبهار الشعوب بها، وإلى وقت قريب كانت سوريا تُضرب بها الأمثال على ضعف الدولة بسبب الثورات. وقد حاولنا أن نثبّت فؤادهم بأن تجربة الشرع ليست لها امتدادات خارجية، فهي تجربة عاقر، وليست ودودا ولودا كتجربة الإخوان المسلمين، لكن دون جدوى.
هؤلاء يرون أن الحملة على الشرع وتشويهه هي ضمن حملتهم على الإخوان التي بدأت منذ أزمة آذار/ مارس 2011، وانضم إليها آخرون بعد حزيران/ يونيو 2013، فلا بد من حرق الشرع وتجربته، وتقديمه على أنه عميل غربي. وقد بنوا مشروعهم على أن النظام الذي كان مستقرا قبل ثورة يناير 2011، وعاد بدرجة أو بأخرى في تموز/ يوليو 2013، هو النظام الوحيد الذي يرضى عنه الغرب، وأي تفكير خارج الصندوق درسه قائم من خلال الإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي، ولكن ها هي تجربة في بلاد الشام تنهي مصدر قوة الأنظمة القائمة!
ولا ننسى أن رجل نظام مبارك مصطفى الفقي، عندما أراد أن يصطف مع مشروع التوريث، أشاع في البرية أن رئيس مصر القادم لا بد أن توافق عليه إسرائيل أولا، في إشارة لا تخطئ العين دلالتها على الانصياع للمشروع، فمن يمكنه الحصول على هذه الموافقة من القوى السياسية القائمة؟ وذلك لقطع الطريق على من يشطح خياله وينطح ويتصور أن رئاسة مصر بعيدا عن المسار القائم ممكنة!
ومنذ عهد السادات، كانت هناك محاولات للتأكيد على أن النظام الحاكم يحظى بودّ الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يُنشر داخليا عن الفتور الذي استُقبل به في آخر زيارة له أثناء حكم ريغان. الأمر نفسه حدث مع مبارك عندما لم يستقبله الرئيس الأمريكي في مكتبه، وإنما أُخذ إلى حديقة البيت الأبيض، وقد وجد من بين كتّابه من يفسّر هذه الإهانة على أنها دليل أخوّة!
والآن هناك قبول أمريكي، يتبعه قبول غربي، بمشروع من سياق مختلف، وهذا ما يخيف. لكن هذا الخوف يمكن تفكيكه، فالتجربة السورية غير قابلة للتصدير، والمشروع الإسلامي في مصر بتنويعاته ليس فيه هذه الحالة، ومصر ليست أرضا خصبة لنموها. وقد انتهى الجولاني رئيسا تُفتح له الأبواب المغلقة ويمشي على السجاد الأحمر، بينما مات أستاذه المصري أيمن الظواهري في جبال تورا بورا مطاردا من الولايات المتحدة الأمريكية.
العداء للمشروع الإسلامي:
الخائفون من تصدير الحالة السورية، ويهاجمون الإخوان بحجة أنهم يمثلون امتدادا لها في مصر، لا يدركون أنهم يقدمون خدمة جليلة لخصومهم، عندما يتم تصوير أحمد الشرع على أنه عميل أمريكي بالأساس، وربما تم تجنيده من قبل المخابرات الأمريكية في وقت لاحق. فليس أكثر ما يزعج هؤلاء الخصوم من تصويرهم على أنهم فشلوا في إدارة الحكم في بلاد الربيع العربي، لذا لا بد من شماعة، وكانت هذه الشماعة طيلة السنوات الماضية هي أن ضربهم جزء من معاداة الغرب للإسلام، فهم ضحايا وليسوا فاشلين، لكن الحفاوة بأحمد الشرع تنسف هذه السردية.
التنازلات التي قُدمت لم تُتقبل منهم، وكانت أي حكومة في المغرب مثلا ستجد صعوبة قد تصل إلى الاستحالة للتوقيع على اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، لكن فعلها الحكم الإسلامي الرشيد. كما أن النموذج الذي قدمته النهضة في تونس ليس معاديا من أي باب للمشروع الغربي، فحتى في أزمة المواريث لم تُدل قيادة النهضة بدلوها، لكن من تصدى لدعاة تغيير القانون هي المرجعية الدينية التقليدية، بجانب الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وهو ابن المدرسة العلمانية. ومع كل هذا كانت النهاية الأليمة للتجربة.
أفغانستان بعيدة عن العين، فمن الطبيعي أن تكون بعيدة عن القلب، ولو كانت حاضرة لأمكن إلى حدّ ما فهم الموقف الغربي من تجربة أحمد الشرع، وإن كانت قدرة الشرع على الانفتاح أكبر.
هناك بطبيعة الحال فريق آخر ضد الشرع، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهم أرامل النظام السابق، الذين يصورون الأمر كما لو أن هضبة الجولان احتلت في العهد الحالي، وكأن الجيش السوري المنحل كان يقف على خط النار في مواجهة إسرائيل، مع أن خطاب المواجهة لم يتغير من الأسد الأب إلى بشار إلى الشرع؛ ألم يكن الخطاب السوري التاريخي عند كل عدوان إسرائيلي: "لن نسمح للعدو أن يحدد لنا موعد الحرب، ونحتفظ بحق الرد"؟ مات الأب ورحل الابن، ولا يزال حق الرد في الحفظ والصون!
إسرائيل تمارس العدوان على سوريا، والشرع يطأطئ الرأس، وهناك من يريده أن يحارب، ليس انطلاقا من قاعدة الكرامة العربية، ولكن لتمكين إسرائيل من إنهاء وجوده، بما يمكن من عودة بشار. وهم لم يطالبوا بشار برد العدوان وتحرير الجولان مع وجود الجيش الباسل، وكأنهم لا يدركون أن سوريا الآن بلا جيش، ولو دخلت في حرب فسوف تتجاوز الخسائر حرب 1967 التي كانت من نتائجها احتلال الجولان، ضمن ما احتل من الأراضي العربية!
الشرع يمارس سياسة ضبط النفس، لأنه قرر ألا يدخر سبيلا لنجاح تجربته، وقد وجد الأبواب مفتوحة له دون أن يطرقها، فدخلها، وهو -وإلى وقت طويل- لن يكون إضافة للقضايا العربية في جانبها النضالي، ولن يكون دعما للمقاومة، وإنما قد تكون تجربته بردا وسلاما على المواطن السوري المشرد في الأصقاع، وهو من أجل هذا يمكنه أن يذهب إلى آخر الدنيا من أجل إنجاح تجربته، وحدودها سوريا، وهذا هو مربط الفرس!
والمعركة الآن ليست في أن الشرع براغماتي، وأنك مبدئي، ولا مجال للنقاش على قواعد القيم، غاية ما في الأمر أن فريقا ينحاز للأنظمة القائمة فيرى أنها صاحبة الحق الأصيل في احتكار التنازلات، ومن ثم فإن منافستها في هذا الجانب هي دخول على مجالها الحيوي ومنافسة على قواعد السياسة، فضلا عن أن هناك من قدموا التنازلات في دول الربيع العربي بدرجة أو بأخرى، ومع ذلك جرى ما جرى، وأي تنازل يمكن تقديمه بحجم ما قدمته حكومة حزب العدالة والتنمية في المغرب؟! إذن القبول به لا يعني سوى أنه عميل، وليس الأمر مرده إلى التنازلات!
قوة الشرع والإقليم:
مصدر قوة أحمد الشرع أنه استغل الظروف السياسية المواتية وفرض وجوده، وكان محظوظا بالجار التركي الذي تكفل بتقديمه للأطراف الخارجية، قبل أن تدخل المملكة العربية السعودية على الخط، وقبِله الإقليم كله بتناقضاته، فكان من قدمه للرئيس الأمريكي الجديد (ترامب) هو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
أزمة الربيع العربي أنه مثّل تهديدا للإقليم، ولأنه بدا كما لو كان يمهد لسقوط الأنظمة التقليدية إيذانا بمرحلة جديدة، ومع الحماس الثوري بدأ كلام كهذا يجد طريقه إلى النشر، وأنه لا بد من تصدير الثورة، دون وعي بأن الثورة الإيرانية ضُربت بفتوى الخميني بتصديرها، وكان موقف الإقليم حاسما في حصارها، وفي الدخول في حرب ممولة قام بها الرئيس صدام حسين لصالح العراق ونيابة عن الإقليم.
وإذ تقدم الإخوان الصفوف في الربيع العربي، ومثلوا البديل للأنظمة القائمة، وهي جماعة منتشرة في الأصقاع، فكان للخوف ما يبرره. أما الشرع فهو وإن كان إسلاميا، فهو جماعة نفسه، وليس معروفا إن كان أركان حكمه يتبنون أفكاره الدينية، أو جمع بينهم تنظيم واحد في مرحلة أبو محمد الجولاني.
ولو درسنا سِير الأولين لوجدنا أن الغرب لم يكن يمانع في حكم من تفرزه الانتخابات في بلاد الربيع العربي، لكن "عدم الممانعة" لا تعني تأييدا، ولم يؤوّب الغرب كله في البداية مع الانقلاب العسكري، فقد ظل الأمر بين أخذ ورد، وانقسمت الإدارة الأمريكية على نفسها، لكن الإقليم كان مصدرا من مصادر الإقناع بقبول ما جرى، وواشنطن قد تجد أمانها في حكم الجيش، لكن إذا نجحت قوى أخرى فلن تتدخل لإسقاطها، وإن تمنت ذلك، لكنها لن تحميها إذا تقرر داخليا أو إقليميا إسقاطها. ولو نجح خصوم الشرع في إسقاط حكمه فلن يذرف عليه الأمريكيون دمعة واحدة!
فمصدر قوة الشرع أنه عقيم، ليس مشغولا بشبر خارج حدود سوريا، وهو لذلك يمارس السياسة كما ينبغي أن تمارس، حتى الجانب غير الأخلاقي منها، فلا يغضب لاعتقال معارض جاء إلى دمشق ليشاركهم الفرح في إسقاط الطاغية، وقد لا يمانع في تسليم معارضين آخرين لدول الإقليم تقربا منهم بالنوافل. فهذه هي السياسة، والمروءة ليست مبحثا في أطروحة النظرية السياسية، لكنها في عالمنا العربي نسق قيمي مرده إلى قيم المجتمع. وآفة الإسلاميين أنهم شكلوا مجتمعات موازية لمجتمعاتهم وقبائلهم، فتحرروا من كل ما يربطهم بها من قيم، وصار لهم نسقهم الأخلاقي الخاص، الذي يتحول إلى براغماتية متحررة من كل قيد إذا أتقنوا العمل السياسي وامتلكوا المهارات اللازمة لممارسته.
وانظر في دروس التاريخ، فإن الأنظمة القبلية هي التي امتنعت عن تسليم ضيوفها، وليست الأنظمة الراديكالية، بل كانت هذه الأنظمة تطالب بمعارضيها، ولم تستوعب لغة القوم، وبدا كل نظام -القبلي والراديكالي- يتحدث لغة لا يفهمها الآخر.
لا أريدك أن تحب الشرع، فهدفي أن تفهمه!
x.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الشرع سوريا العربي سوريا اخوان عرب الشرع مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الربیع العربی أحمد الشرع على أنه فی بلاد على أن
إقرأ أيضاً:
أحمد إسماعيل: مشاركتي في افتتاح المتحف الكبير كانت رسالة للعالم عن تنوع مصر الثقافي
قال الفنان النوبي أحمد إسماعيل، إنّ مشاركته في حفل افتتاح المتحف المصري الكبير كانت بمثابة شرف كبير له، ورسالة مهمة إلى العالم كله عن عمق وتنوع النسيج الثقافي المصري، مشيراً إلى أن الغناء باللغة النوبية في هذا الحدث العالمي يعكس جزءًا أصيلاً من هوية مصر التي تجمع بين لغات وثقافات متعددة.
وأضاف إسماعيل، في لقاء ببرنامج صباح جديد، من تقديم الإعلاميين ومحمد جاد آية الكفوري، عبر قناة القاهرة الإخبارية، أنّ الفن النوبي يمثل أحد أركان هذا التنوع، قائلاً إن مشاركته كانت تجسيدًا حيًا لفكرة أن مصر هي «أم الدنيا» لأنها تضم بين أبنائها مختلف الثقافات واللغات والفنون التي تشكل مجتمعة ملامح الشخصية المصرية الفريدة.
وتابع، أنّ أن مشاركته في الحفل لم تكن مجرد غناء على المسرح، بل مسؤولية كبيرة، إذ شعر أنه يمثل النوبة ومصر كلها أمام أنظار العالم، خاصة أن هذا الحدث كان يحظى بمتابعة دولية واسعة، موضحًا، أنه خلال لحظات وقوفه على المسرح تذكر مشواره الفني الذي بدأه عام 2007، ورأى أن حلمه بالوصول إلى جمهور أوسع أصبح واقعًا.