من هو هذا الشخص الغريب (حي بن يقظان) الذي يحمل اسما مختلفا فريدا؟ وهل هو شخص واقعي عرفه المؤلف، أم هو من تلك الشخصيات السردية التي يختلقها المؤلفون اعتمادا على الخيال الخصب، من أجل أن تؤدي وظيفة فكرية أو تحمل مضمونا معينا عند المؤلف؟

من هو ابن طفيل أيضا؟ وما هي حكايته مع بطل قصته؟ ومن أين جاء بالبطل وبالقصة؟ وكيف تمكن في وقت مبكر، وقبل عصر ازدهار القصة والرواية، من تأليف هذا العمل الخالد الذي يظل شاهدا كبيرا على اهتمام العرب بالسرد والنثر، وعلى تأثيرهم في ثقافات أخرى.

أحمد بن طفيل: الفيلسوف والعالم الأندلسي

مؤلف قصة (حي بن يقظان) هو أحمد بن طفيل، فيلسوف عربي أندلسي الأصل، ولد في منطقة قريبة من غرناطة تدعى (وادي آش)، وكان ميلاده في بدايات القرن السادس الهجري (قبل عام 506هـ).

وقد نشأ منذ طفولته على محبة العلم، فدرس آثار من سبقوه في مجالات شتى، ونال تعليما حسنا في العلوم الدينية واللغوية والأدبية، واهتم بالفلك وعلوم الطب والرياضيات وغيرها، فتكونت لديه ثقافة موسوعية كفلت له التميز في شبابه.

أما في مجال العمل أو الوظيفة، فقد تنبه سلاطين دولة الموحدين إلى علمه ومعرفته، فقربوه وأدنوه، فعمل طبيبا مقربا من أولئك السلاطين، وربما أسندت إليه أعمال أخرى في مجال الحكم والسياسة.

وتروي بعض الكتب له أشعارا قليلة، مما يشير إلى ملكته الشعرية، وربما كانت له أشعار أخرى غيبتها الأيام فلم تصل إلينا. كما تروي الكتب عن ابن طفيل اهتمامه بالفلك، وله بعض الآراء والإسهامات الرائدة في هذا المجال.

القصة الفلسفية: حي بن يقظان

أشهر إنتاج ابن طفيل -على الإطلاق- قصته التي نعرض لها، أي قصة (حي بن يقظان)، وهي قصة فلسفية تجمع بين أسلوب السرد، بما فيه من شخصيات وصراع وتطور وحركة، وبين الآراء الفلسفية التي شغلت ابن طفيل.

وبدلا من أن يكتبها أو يناقشها في قالب الرسالة الفكرية أو المؤلف الفلسفي، أعرض عن ذلك مستندا إلى مقدرة أدبية فذة، ومعرفة واسعة بأصول الحكاية وشروط القصة، ربما هربا من جفاف الفلسفة، وطلبا لمتعة الأدب، وما يتيحه من مجال لإطلاق الخيال وتحرير المخيلة.

إعلان

وكما يشير موسى سليمان في مؤلفه التأسيسي (الأدب القصصي عند العرب)، فقد كان الهم الأكبر لابن طفيل في حياته أن يجد حلا لقضية الدين والفلسفة: هل يتفقان؟ هل يختلفان؟ لماذا يختلفان؟ أيجب أن يتفقا؟ وهذا موضوع شائك وعويص، عالجه قبل ابن طفيل كثير من الفلاسفة، فلم يصلوا إلى حل نهائي.

فهل يصل هو إلى الحل؟ وهكذا كتب ابن طفيل قصته (حي بن يقظان) جوابا على هذا السؤال، مجتهدا في تأملاته من خلال الأسلوب الرمزي، الذي قد يفتح مجالا لحل المشكلات وتجاوز ما يعرض من الصعوبات.

ولكن من أين جاء ابن طفيل بشخصية حي بن يقظان؟ هل اختلقها هو، أم أخذها من غيره؟ يجيب موسى سليمان بأن الفيلسوف العربي ابن سينا، الملقب (بالشيخ الرئيس)، قد كتب قصة عن شخص يدعى (حي بن يقظان)، ومعنى ذلك أن ابن سينا قد استخدم هذه الشخصية قبل ابن طفيل، لكنه لم يبلغ شأوا بعيدا، ولم يصل بها إلى حد مقنع، فأراد ابن طفيل أن يتجاوز آراء ابن سينا وأن يعارضه باستخدام شخصية وردت عنده.

ويجدر بنا أن نذكر أن شهاب الدين السهروردي قد لجأ إلى الشخصية نفسها بعد ابن طفيل، كما صاغها الفيلسوف والطبيب ابن النفيس وعدل اسم الشخصية إلى (فاضل بن ناطق)، أي أن في التراث العربي عدة قصص عن هذه الشخصية، كتبها فلاسفة يعالجون بالسرد هموم الفكر والوجود.

وأشهر هذه القصص ما كتبه ابن طفيل، فقد تفوق فيها وبلغ بها مستوى متقدما في الأسلوب القصصي وفي التأمل الفلسفي، فضلا عن أن قصة ابن طفيل هي الأطول والأكبر حجما، في حين أن القصص الأخرى (لابن سينا والسهروردي وابن النفيس) أميل إلى القصر والغموض.

قصة حي بن يقظان لابن طفيل هي قصة رمزية تصور رحلة الإنسان في طلب المعرفة من الفطرة والعقل إلى الإيمان بالله (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)رحلة البحث عن المعرفة

تقوم قصة حي بن يقظان لابن طفيل على فكرة البحث عن المعرفة: كيف تكون؟ وما هي وسائلها؟ وهل بوسع الإنسان أن يتعلم ويتأمل معتمدا على ملكته وفطرته؟ ويقول أحمد أمين إن ابن طفيل أراد أن يثبت أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول إلى الله، بحيث يستطيع بعقله أن يصل إلى معرفة العالم ومعرفة الله، فالمعرفة عند ابن طفيل قسمان أو نوعان:

معرفة حدسية (مبنية على الكشف والإلهام). معرفة نظرية مبنية على المنطق.

والأولى يمكن الوصول إليها برياضة النفس (وبالعبادة) وبالتوجه الروحي الفطري إلى الخالق، أما النوع الثاني (المنطقي العقلي) فيمكن الوصول إليه من نتائج علمية باستخدام العقل والمنطق، أي بدراسة العالم المادي وموجودات الكون المحيطة بالإنسان.

أما أحداث قصة (حي بن يقظان) كما تخيلها ابن طفيل، فتبدأ بسؤال الميلاد، أي ميلاد شخصية القصة. ولأن أبطال القصص لهم ميلاد مختلف، فإن حي بن يقظان قد ولد أو وجد وفق احتمالين:

الأول: أنه ولد ولادة ذاتية، فهناك "جزيرة من جزر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد فيها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء… فيمكن أن يكون حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب". أما الرواية الثانية لاحتمال ميلاده، فإن أميرة تزوجت سرا دون رضى شقيقها، ثم إنها حملت ووضعت طفلا ذكرا، ثم خافت أن يفتضح أمرها ويكشف سرها، فوضعت الطفل في تابوت أحكمت إغلاقه بعد أن أرضعته وأروته من حليبها، ثم قذفت بالتابوت وفيه الطفل إلى عرض البحر، وأسلمت أمره إلى الله (مما يقربها من قصة النبي موسى عليه السلام من ناحية إلقائه في اليم). إعلان

وقد حمل الماء الطفل إلى ساحل جزيرة أخرى، ونتيجة للمد والجزر، علق التابوت وسط غابة كثيفة من الشجر.

فلما اشتد به الجوع أخذ في الصراخ على نحو ما نعرف من أمر الأطفال، فلما سمعته إحدى الظباء أو الغزلان حنت عليه بعد فقدها لابنها، وتتبعت صوته حتى وصلت إليه، وأرضعته من لبنها، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى، حتى صارت له الظبية أما جديدة، وهو الذي لا يعرف أمه الأولى ولا يتذكرها.

ظل حي بن يقظان يواصل تجاربه ومشاهداته وظل عقله يساعده في كل مرحلة على نحو ذاتي من غير أن يكون حوله أهل أو بشر يتعلم منهم (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)في صحبة الظباء

تربى حي بن يقظان وسط الظباء وعالم الحيوان، فقد ظل يتغذى بلبن الظبية، حتى بدأ يكبر شيئا فشيئا، وبدأ يتعلم لغة الظباء عن طريق تقليد الأصوات، فألفته الحيوانات وألفها، ولم تنكره ولم ينكرها.

ثم بدأ ينتبه بالتدريج إلى اختلافه عن هذا العالم المحيط به، فما أغربه من عالم! وما أصعبها من معيشة! لاحظ مثلا أن الحيوانات مكسوة بالشعر والوبر وأنواع الريش، أما هو فليس على جسمه شيء من ذلك، وكانت سريعة العدْو، ولها أسلحة في جسمها كالقرون والأنياب والمخالب، أما هو فليس له ما يشبهها. وقد سعى لاستكمال ما ينقصه، فاستخدم أوراق الشجر لباسا لجسمه، وصنع من أغصان الشجر عصيا يدافع بها عن نفسه.

وازدادت غربته عما حوله عندما بلغ من العمر 7 سنين، ويبدو أن الحيوانات بدأت تتحاشاه وتهابه، فصار لا يدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي أرضعته وربته.

ولكن الظبية لم تلبث أن أسنت (أي كبرت في السن)، فكل حي له نهاية، وبدأت الظبية تضعف حتى سكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها. فلما رآها الصبي على تلك الحال، حزن حزنا شديدا، وحاول إيقاظها، وفحص أعضاءها لاكتشاف سبب موتها إن كان بمقدوره أن يعرف السبب.

وهكذا اهتدى إلى علم التشريح [وفي هذا الجزء يستفيد المؤلف من خبرته كطبيب إفادة عظيمة].

وفي كل مرحلة يتطور الصبي، فيعرف أشياء جديدة اعتمادا على ملكته العقلية وفطرته التأملية، وهنا يكون للمشاهدات والتجارب دور كبير في تعليمه وهدايته إلى معارف جديدة.

فموت الظبية علّمه معنى الموت وأسبابه، وضرورة دفن الميت، بعد أن رأى فعل الغراب بصاحبه (كما هو الحال في قصة قابيل وهابيل ابني آدم)، كما عرف أن القلب مركز الجسد وفيه سر الحياة، وبتوقفه تتوقف حياة المخلوقات جميعها.

ومن التجارب الأخرى اكتشافه النار مصادفة، فقد انقدحت في شجر جاف واشتعلت، فعرف النار وفعلها وقوتها في جميع الأشياء التي يلقيها فيها، ثم إنه اكتشف الشواء والطبخ عندما ألقى فيها بعض الأسماك، فاشتم لها رائحة مميزة لذيذة.

وقد ظل حي بن يقظان يواصل تجاربه ومشاهداته، وظل عقله يساعده في كل مرحلة على نحو ذاتي، من غير أن يكون حوله أهل أو بشر يتعلم منهم، أي أن كل ما اهتدى إليه هو بفعل الفطرة الإنسانية والملكة العقلية التي ميز الله بها الإنسان عن الحيوان، وجعلها ميزة للكائن البشري، حتى لو عاش منعزلا في جزيرة بعيدة كما هي الحال في قصة (حي بن يقظان).

وقد علم حي بن يقظان بالمشاهدة والمراقبة أن كل حادث لا بد له من محدث، وأن كل فعل لا بد له من فاعل، فبدأ يتعرف إلى الخالق الذي أوجد كل حوادث الدنيا وكل موجوداتها.

وهذه المعرفة شهدت يقظة القلب والحس وتقهقر العقل، أي أن (حي بن يقظان) بدأ مرحلة جديدة من التعلق الوجداني والروحاني بالفاعل الأول في الكون.

ويبدو في هذا الجزء من رحلة حي بن يقظان أن المؤلف يتخذ من الشخصية قناعا فكريا ووجدانيا لتأملاته الشخصية، ولمكابداته نحو طريق خاص للإيمان، كأن حي بن يقظان هو ابن طفيل ذاته، في اختياره طريق القلب عوضا عن العقل، أو استكمالا له فيما لا يستطيع أن يبلغه.

إعلان

ولعل هذا ما سماه ابن طفيل نفسه: (الحكمة الإشراقية) التي تملأ القلب ولا يستطيع العقل أن يتسع لها. وهكذا تتكامل شخصية حي، ويبلغ سن الشباب بعد أن جمع الحقائق وفهمها، دون أن يتصل بأحد من الناس.

حي بن يقظان يلتقي (أبسال) ويعود للعالم البشري لكنه يختار الانعزال بعد فشل تعليم الناس (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)الاندماج في عالم البشر

ومثلما فصل ابن طفيل شخصية بطله (حي بن يقظان) عن البشر، ليثبت مقدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة الخالق وعبادته والإيمان به دون تأثيرات خارجية، فإنه يصله بالبشر بعد أن يبلغ معرفته الكاملة، وبعد أن يتكامل وعيه.

وهكذا يدفع برجل تقي يسمى (أبسال) من جزيرة مجاورة إلى حيث يقيم حي بن يقظان. وكان أبسال يؤمن بالعزلة وبضرورتها لمن أراد طريق الحق، أما صاحبه (سلامان)، وهو الذي صار ملكا للجزيرة التي جاء منها أبسال، فيؤمن بعكس ذلك، أي بأن الإنسان يجب أن يظل بين الناس ولا يعتزلهم أو يبتعد عنهم.

والمهم أن (أبسال) يصل إلى جزيرة حي، ولا يلبث أن يصادق الشاب الغريب، ويكتشف عنده ما لم يهتد إليه من قبل، مثلما تتطور معرفة حي بن يقظان، ويدرك أنه من جنس أبسال نفسه. وينتهي الأمر بعودته مع أبسال إلى الجزيرة المأهولة التي يحكمها (سلامان) صديق أبسال.

فكيف استقبل الناس حي بن يقظان؟ وهل أخذوا عنه طريقته في المعرفة؟ وهل وثقوا أن طريقته في الإيمان تناسبهم؟

يقول ابن طفيل: "ما زال حي بن يقظان يستلطفهم ليلا ونهارا، ويبين لهم الحق سرا وجهارا، فلا يزيدهم ذلك إلا نبوا ونفارا، مع أنهم كانوا محبين للخير، راغبين في الحق، إلا أنهم لنقص في فطرتهم كانوا لا يطلبون الحق من طريقه، ولا يأخذون بجهة تحقيقه".

وقد يئس حي بن يقظان من صلاحهم، ورأى أن كل حزب بما لديهم فرحون، فقرر مع صاحبه أبسال اعتزال الناس مجددا. وهكذا اختار طريق الانفصال مرة أخرى، بعد أن طلب من الناس نسيان كلامه وطريقته، وأن يظلوا فيما هم فيه، وفيما اعتادوا عليه، ربما لأنه أدرك صعوبة تغيير الجماعة وتبديل قناعاتها. فانتهى أمره متعبدا معتزلا مع أبسال في الجزيرة غير المأهولة.

ويختتم ابن طفيل قصته بالقول: "وأنا أسأل إخواني الواقفين على هذا الكلام أن يقبلوا عذري فيما تساهلت في تبيينه وتسامحت في تثبيته، فلم أفعل ذلك إلا لأني تسنمت شواهق يزل الطرف عن مرآها، وأردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق".

ولقد تركت هذه القصة أثرا مدويا في الآداب الإنسانية كلها، ولذلك نجد لها عشرات الترجمات إلى لغات العالم المختلفة (اللاتينية، الإنجليزية، الألمانية، الإسبانية، الفرنسية، الروسية، وغيرها). ويذهب بعض الدارسين إلى أنها الأساس الذي بنيت عليه القصة الأجنبية المشهورة (روبنسون كروزو) لمؤلفها دانييل ديفو.

ومن المؤكد أن قصة (حي بن يقظان) قد شكلت، مع غيرها من القصص العربية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية، أحد الأسس المتينة التي هيأت لظهور الرواية الحديثة في العالم كله. وما تزال حتى اليوم تحتفظ بجاذبيتها، وتواصل خلودها، بسبب ما أودعه المؤلف فيها من أسباب التميز والحياة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات حی بن یقظان ابن سینا ابن طفیل بعد أن من غیر

إقرأ أيضاً:

المعرفة في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبداد

أسفرت الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة عن أكثر من 75 ألف شهيد ومفقود، و125 ألف جريح، وفناء مئات العائلات وشطبها من السجل المدني.

كما أدت إلى تجويع مفتعل بلا سابقة في تاريخ المشرق، ونزوح وتشتيت مليوني إنسان مرات عديدة خلال أشهر أو أسابيع.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"العطر والدولة" لكمال القصير يبحث في تناقضات وتحولات الوعي العربيlist 2 of 2روي كاساغراندا: تحالف الصهيونيتين اليهودية والمسيحية صفقة مع الشيطانend of list

وشهد القطاع دمارا واسعا في البنية التحتية، إذ تضرر نحو 80% من المساكن والأسواق والمستشفيات والمدارس والجامعات ومراكز الخدمات وآبار المياه ومنشآت الصرف الصحي والطرق والشوارع.

وانهارت المنظومة الطبية والبلدية وشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، إلى جانب المؤسسات المالية والاقتصادية.

كما لحقت أضرار جسيمة بالأرض المزروعة والإنتاج الزراعي والحيواني ومرافق الصيد البحري من مرافئ ومراكب، مما تسبب في تهجير مئات الآلاف إلى خارج القطاع، فضلا عن خسائر وكوارث أخرى لا تُحصى.

وعندما جاءت اتفاقية نهاية الحرب قبل انتصاف أكتوبر/تشرين الأول 2025، وتراجعت وتيرة العدوان، كان ذلك إيذانا بانتقال المعاناة إلى مرحلة أخرى، بعد انتظار القتل احتراقا بصاروخ إسرائيلي يستهدف خيمة أو مخبزا أو تحت أنقاض منزل أو قصفا لدى انتظار كيس دقيق من مصيدة الموت المسماة "مؤسسة غزة الإنسانية" الأميركية الإسرائيلية.

التساؤلات حول علاج ضحايا الصدمة تثير أزمة أعمق تكشف عن قصور علم النفس الغربي وارتباطه بالإمبريالية (رويترز)

فبدأ الناس يعودون من دائرة الفناء والجوع والنزوح إلى ديار مدمرة وأرزاق مندثرة وأحياء وطرقات غارقة تحت الدمار بلا ملامح، وأوضاع لا تقل سوءا وظلاما وكآبة عن الغارات والقصف والقتل اليومي، ليواجهوا مصيرا مجهولا وأسئلة حائرة بلا إجابة. وقد وصفهم موقع "ميديابارت" الفرنسي المستقل بـ"أرواح مهشمة تعيش بين الأنقاض تصارع من أجل البقاء بلا أفق".

في ضوء كل ذلك، تساءل باحثون ومعلقون ومؤثرون عما يمكن تقديمه لهؤلاء الضحايا من علاج وإعادة تأهيل للتعافي من كروب الصدمة واضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة ونوبات الغضب والاكتئاب واليأس وانعدام الأفق والهلاوس والفصام واعتلالات الذهان، وما ينجم عنها من اعتلالات جسدية عديدة.

إعلان

وهل لدى علماء النفس والأطباء النفسيين والاختصاصيين الاجتماعيين وخبراء التربية والتدريب والتنمية البشرية من ذخيرة تعين الضحايا على التعافي من النكبة الجديدة وتجاوز عواقبها الكارثية؟

سلطت هذه التساؤلات الكبرى الضوء على أزمة معرفية أكبر وأكثر أهمية. ففي نطاق العلوم الاجتماعية الغربية، يبدو ما يسمى "علم النفس" أو السيكولوجيا من أكثر الحقول الأكاديمية والبحثية عبثية وعدم جدوى والتباسا معرفيا واضطرابا أخلاقيا واختزالا لاإنسانيا. بل ومن أكثرها ارتباطا بالمشروع الإمبريالي الغربي، داخل الغرب وخارجه.

جيمس فريزر مؤسس الاتجاه الاستعماري في الأنثروبولوجيا كرّس ذلك في كتابه الشهير "الغصن الذهبي" (الجزيرة)نظريات وصياغات وثنية

وعلم النفس في ذلك شأنه شأن علوم الأناسة (الأنثروبولوجيا) في القرن الـ19، الذي ازدهر في حقبة صعود حركة الاستعمار البريطاني والفرنسي خاصة.

ولئن تمكن أنثروبولوجيون، إنسانويون وماركسيون وتقدميون، من الإفلات من قبضة المدرسة الاستعمارية، وهذا يُحسب لهم، فإنهم لم يفلتوا من أغلال الرؤية الكونية الغربية العلمانية المادية، بمختلف روافدها وتعبيراتها وفلسفاتها: الحداثية، والنينشوية، والداروينية، والعنصرية، والفاشية، والإمبريالية، والرأسمالية، أو بعض هذه الأغلال على الأقل.

بل وتجاهلوا أن الفطرة الإنسانية الحقيقية تجد معنى وجودها ومنطلق فعلها وحركتها في عقيدة التوحيد والنبوة المنزلة من عالم الغيب وحيا من خالق الكون سبحانه وتعالى.

بدوره، حاز الأنثروبولوجي/السوسيولوجي البريطاني، السير جيمس فريزر، قصب السبق والريادة في صياغة المدرسة الاستعمارية في الأنثروبولوجيا، وهو الذي بلور فرضياتها وموضوعاتها وسماتها ومقولاتها المبكرة في كتابه الأشهر "الغصن الذهبي"، كدراسة موسعة في الأساطير والأعراف الوثنية بحثت في المعتقدات البدائية.

وزعمت الدراسة اكتشاف جذور شجرة "مفترضة"، خبيثة في الحقيقة، ليست شجرة التوحيد أو النبوات والرسالات، بل شجرة الوثنية والبدائية والميثولوجيا بأساطيرها وخرافاتها وشركها وطاغوتها، وأن البشرية تعيش على أغصانها الآن!

واجه الكتاب موجة احتجاج واسعة، مما اضطر فريزر إلى حذف مواد أثارت السخط العام، وقد طواه النسيان بعد ذلك بقرن، مع تراجع الظاهرة الاستعمارية، واضمحلال أهمية أفكاره وصياغاته في سيرة الاستعمار.

رأى فريزر أن البشرية تمارس عادات لا تعرف أصلها، فتعطيها مبررات سطحية. لكننا -بزعمه- بدائيون بشكل ما. هذا التمحور التفكيكي الاختزالي حول البدائية والوثنية والتطورية كان سائدا في القرن الـ19، عصر الاستعمار الأنجلوساكسوني والفرانكفوني بامتياز، ومترافقا مع تمدد المشروع الإمبريالي الغربي إجمالا.

وفي ذات السياق الزماني والمكاني أيضا، جاءت الداروينية الاجتماعية، وهي أكثر أهمية وتفكيكا وعنصرية ودلالة من أصلها، أي من الداروينية البيولوجية التي تلقت شكوكا كشفت شقوقا وتلفيقات أكبر لا تستر ورقة التوت الأكاديمية.

تقع هذه النظريات أو الصياغات الوثنية لقصة الإنسان وسردية وجوده ورسالته في صلب أيديولوجية الاستعمار وديباجاته ومبرراته الحافلة بمزاعم تفوق الشعوب البيضاء، وعبء الرجل الأبيض في حكم الشعوب البدائية والارتقاء بها، وحق الغزو والفتح الروماني الذي ورثته الإمبريالية الأنجلوأميركية، ومفهوم "الحرب العادلة" في ذات السياق والإطار.

العالم لم يشهد سلاما أو نظاما إقليميا أو دوليا راسخا بمعنى الكلمة، قبل معاهدة وستفاليا التي أنهت الحروب الدينية (شترستوك)رؤية معرفية إمبريالية علمانية

اتخذت هذه النظريات والفرضيات صياغات "شبه معرفية" أو "شبه علمية"، وبقيت في مركز نطاق العلوم الاجتماعية الغربية، كامنة أو صريحة، تعكس بشكل لا لبس فيه اعتلال رؤية معرفية إمبريالية علمانية "سيكوباتية"، بسماتها الرئيسة:

إعلان إنكار التكريم والاستخلاف الإلهي للإنسان ونزع القداسة عنه، بما يُشرعن ظلمه ونهبه واستغلاله وقهره واضطهاده واستعباده واختطافه بعشرات الملايين، بل وإبادته واستباحته وتحويله لمادة استعمالية بلا حصانة ولا محرمات ولا شريعة ضامنة، وهذا هو جوهر المشروع الإمبريالي الغربي منذ انطلاقه قبل 5 قرون. التمحور حول الذات الأوروبية (الغربية)، أو بتعبير آخر المركزية الأوروبية (الغربية)، وجوهرها النظر إلى العالم من منظور أوروبي غربي أحادي والاعتقاد أن ثقافة المجتمعات الأوروبية والغربية، وامتداداتها إجمالا، وقيمها أسمى وأرقى من ثقافة المجتمعات الأخرى في آسيا وأفريقيا والأميركتين قبل إبادة شعوبهما تمهيدا لاستعمارهما واستيطانهما. وفي سياق هذه المركزية، يُعتبر التاريخ الأوروبي النموذج الأمثل الملهم، الذي يحتذى لصياغة تاريخ وموضوعات ونظريات العلاقات الدولية والقانون الدولي والاقتصاد وأشكال الفنون والإنتاج الثقافي.

ورغم أن شرق أوروبا والبلقان وغرب آسيا وشمال أفريقيا وجنوب صحرائها الكبرى قد تمتعت بـ4 قرون ونيف من السلام والأمان العثماني، بينما كانت نيران المجاعات والأوبئة والاستبداد والحروب الدينية وسط وغرب أوروبا -التي أطلقتها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي- تفني ثلث شعوبها!

ما سُمّي "السلام البريطاني"، الذي تناولَه ديفيد فرومكن في "سلام ما بعده سلام"، جلب للعرب قرنا من القهر والاستعمار والدمار (الجزيرة)

لكن في سياق المركزية الغربية، لم يشهد العالم سلاما أو نظاما إقليميا أو دوليا راسخا بمعنى الكلمة، قبل معاهدة وستفاليا (عام 1648) التي أنهت الحروب الدينية، وأطلقت قيام الدول القومية (الحديثة) التي دشنت وجودها بأساطيل الإبادة منطلقة نحو الأميركتين وأستراليا وسواحل أفريقيا والهند والصين وجزر الهند الشرقية والهند الصينية.

بل إن ما وُصِفَ بـ"سلام ما بعده سلام"، وعنوَن به المؤرخ البريطاني ديفيد فرومكن كتابه حول نهاية الدولة العثمانية (A Peace to End All Peace)، هو بالطبع "السلام البريطاني" (Pax Britannica).

وقد شهدنا في المشرق ما ذاقته الأمة، لأكثر من 100 عام، من إهانات وإذلال وأهوال ودمار السلام البريطاني ثم الأميركي، اختراقا واحتلالا واستعمارا وتجزئة وإخضاعا واستيطانا، وأحدث صور ذلك الإبادة الإسرائيلية في فلسطين وامتداداتها في سوريا ولبنان واليمن وقطر، واعتداءاتها على أي دولة عربية أو مسلمة تنشد التنمية والاستقلال وتأمين وسائل الردع والدفاع عن النفس. و"حسبك من شرٍ سماعُه!" فكيف بمن يراه صباحا ومساء رأي العين.

ماركس، رغم نقده للرأسمالية، دعا لاستعمار الجزائر واختراق الصين لفرض النمط الإنتاجي الأوروبي وجعل المستعمرات تابعة للنظام الاستغلالي الغربي (مواقع التواصل)

ورغم أن الهند، مثلا، في القرن الـ16، زمن الحكم المغولي، وقبل الغزو والاستعمار البريطاني -الذي لم تتعاف منه حتى الآن- كانت أكبر منتِج ومُصدر للسلع المصنعة في العالم، فإن المركزية الغربية تصر على أن لا تصنيع عالميا قبل الثورة الصناعية الأوروبية (عام 1850).

بل إن كارل ماركس ذاته، الذي توجه فكره نحو توزيع الثروات المنهوبة وفائض القيمة القادم من مزارع التبغ والقطن وقصب السكر ومناجم الذهب والفضة والفحم وتجارة العبيد بالمستعمرات، بالعدل بين المُستعمِرين في المتروبوليتان الأوروبي، دعا لاستعمار الجزائر وتغيير نظامها الإنتاجي وإلحاقها بنمط الإنتاج الاستغلالي الأوروبي، وجعلها مصدرا للنبيذ والمحاصيل المهمة لأوروبا، ودعا لاختراق الصين وتدمير نمط الإنتاج الآسيوي بها ليستبدل به نظام إنتاج على النمط الأوروبي، ربما لتصبح قابلة ماركسيا للدراسة والاستشراف والقياس والتنميط بالمعايير الأوروبية!

إعلان اختزال وتنميط الظواهر الإنسانية والحضارية والاجتماعية: لقد ورثت الدولة القومية، الدولة الأمة، في الغرب تقاليد استبداد الكنيسة والملوك وأمراء الإقطاع، واستوعبت مظاهره كيانا وروحا ومؤسسات. لم تشهد الأمم الأوروبية عبر تاريخها الممتد، خاصة تحت سيطرة الكنيسة والملوك والإقطاع، تنوعا ثقافيا أو دينيا أو اجتماعيا، رغم وجود مقوماته الطبيعية في أوروبا.

كما افتقرت طويلا إلى الأسس الدستورية والتقاليد التشريعية التي ترسخ مبدأ الضوابط والتوازنات في العلاقة بين الأمة والدولة، وكذلك مبدأ الفصل الحقيقي بين السلطات وضمانات الحقوق في مواجهة تغول السلطات. ورغم تشريع هذه القضايا بدءا من القرن الـ19، فإنها تشهد موجات مد وجزر، وتخضع لتحيزات أيديولوجية وعرقية ومكارثيات وإحياء لروح محاكم التفتيش، مما يؤدي لانكماش الحقوق والضمانات العدلية والإجراءات القانونية الوجبة.

كذلك، لم تألف أو تقبل الدولة القومية مبدأ تعدد الهويات، والولاءات الفرعية، والخصوصيات المحلية، والنتوءات الإثنية، لأنها لا تخدم القولبة الضرورية لإمداد المشروع الإمبريالي بالموارد، وتتناقض مع سعي الدولة لزيادة فائض القوة والولاء المطلق.

من مظاهر الاختزال والتنميط الثقافي والإثني، مثلا، عندما تكون نيجيريًا في نيجيريا، فأنت إما أن تكون إيبو أو يوروبا أو هاوسا أو فولانيا بكل ما في ذلك من حمولة ثقافية، وخصوصية لغوية وإثنية، وتقاليد اجتماعية، وأمثال شعبية. لكنه في لندن هو نيجيري، وفي نيويورك مجرد أفريقي. هكذا يكون الاختزال والتنميط بناء على قوالب ومعايير إمبريالية صلبة توظف العرق أو اللون أو المهارات الاقتصادية المرتبطة تاريخيا بإدارة استعمارية تقولب البشر وفقا لفائدتهم واستعمالهم وموقعهم في دورة الإنتاج والاستيعاب لتحقيق أعلى درجات الربح وأقل التكاليف.

رؤية الاستعمار تولّد مزاعم تفوق العرق الأبيض، والعنصرية، واحتقار الحضارات، بينما جورج فريدريش هيغل أنكر فضل الشرق في العلم والحكمة إلا الإغريق (غيتي)

فمثلا، اختطفت شركات الاستعمار وقراصنته عشرات الملايين من ساحل غرب أفريقيا لتستعبدهم بالمناجم ومزارع التبغ والقطن وقصب السكر بالجنوب الأميركي والإنديز وجزر الكاريبي، وجاءت بمثلهم من الهنود وشعوب جزر الهند الشرقية ليؤدوا الأعمال نفسها في المناطق والأقاليم نفسها، لكن من دون مسمّى العبودية والعبيد.

كذلك، يروي أحد كبار أدباء نيجيريا وأفريقيا، لعله تشينوا أتشيبي، أنه عندما كان يتلقى تعليمه في بريطانيا خلال الخمسينيات قبل استقلال بلاده عن الاستعمار البريطاني، أراد إرسال بعض الكتب بالبريد لصديق في بلاده. فنظرت موظفة البريد لعنوان المرسل إليه، وسألت: "نيجيريا.. نيجيريا! هل هي لنا أم للفرنسيين؟" فأجابها: "بل هي لك سيدتي!".

في ظل رؤية معرفية كهذه، تنشأ مزاعم تفوق العرق الأبيض على غيره من الأعراق، والعنصرية واحتقار منجزات وقيم الحضارات الأخرى. بل إن فيلسوفا أوروبيا مهما، مثل الألماني جورج فريدريش هيغل (1770-1831)، أنكر في القرن الـ19 أي فضيلة للشرق في إنتاج العلم والحكمة باستثناء ما أنجزه الإغريق القدماء!

لا ترى الرؤية المعرفية الإمبريالية حدودا لاستباحة العالم غزوا واختراقا وإبادة واستغلالا واستهلاكا. كما لا تعترف للآخر غير الغربي بأي حقوق ثابتة في الحياة أو الوجود أو الاستقلال، خاصة إذا لم يمتلك القوة الرادعة المكافئة لقوة الاجتياح الإمبريالي وأساطيله ومدافعه، أو ما يسمى تاريخيا بدبلوماسية البوارج الحربية.

فالقوة، قوة الإبادة، هي معيار الحق والمرجعية النهائية لهذه الرؤية المعرفية. ومنذ انطلاق الثورة الصناعية عام 1850، ألقى الغرب الصناعي بمليارات الأطنان من ملوثات البيئة والغلاف الجوي والبحار والمحيطات ومن غازات الاحتباس الحراري، وتسبب بالاحترار الكوني الذي أدى لاضطرابات مناخية وفيضانات وتصحر، ودمر أنماط الإنتاج الزراعي العالمي والأمن الغذائي للبشرية. بل إن معدل إنتاج نفايات الغرب الناجمة عن هذه الرؤية المعرفية بلغ مستويات تقتضي حيزا لاستيعابها يعادل عدة كواكب بحجم كوكب الأرض.

نعومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة" تكشف عن صلة الصدمات النفسية بالترويع والرأسمالية وسياسات التعذيب من أميركا اللاتينية لغوانتانامو وأبو غريب (الجزيرة)العلاج بالصدمة والعجز المكتسب

ومنذ بواكير البحث في الظاهرة السيكولوجية، لم تفرّق مناهجها كثيرا بين الإنسان والحيوان، وتم اعتبار التجارب السلوكية والغرائزية التي أجريت على الحيوانات مؤشرا معتمدا في فهم نفسيات وسلوكيات البشر، منذ التجارب على الكلاب، التي أجراها إيفان بافلوف الروسي (1849-1936) لدراسة الاستجابة الشرطية، مرورا بتجارب سيليغمان وماير (1967) لدراسة العجز المكتسب بالتعلم.

إعلان

ومعظم تلك التجارب لم تنصرف إلى فهم السلوكيات والمشاعر والاستجابات بقدر ما انصرفت إلى السيطرة على نفسيات الحيوانات والبشر وصياغتها من الخارج قسرا وإكراها وتنميطا. وتجنح كثير من هذه الدراسات إلى تفسير سلوك الإنسان تفسيرا بيولوجيا وكيميائيا يرد دوافعه إلى استجابات شَرطية، تُعزى بدورها إلى هرمونات وإنزيمات وبروتينات وأدرينالين ودوبامين وسيروتونين وأكسوتوسين، وهكذا. وكأنه آلة بلا روح أو نفس أو قيم أو أشواق أو غايات أو أخلاق!

وكانت الكاتبة والأكاديمية الكندية، نعومي كلاين، قد خصصت كتابا كاملا حول "مبدأ الصدمة وصعود رأسمالية الكوارث"، تناولت فيه العلاج بالصدمة الذي يستخدمه أطباء نفسيون، وكشفت علاقات مذهلة بين السياسات الاقتصادية، وحروب "الصدمة والترويع"، وتجارب سرية مولتها وكالة الاستخبارات المركزية تتعلق بالصدمات الكهربائية والحرمان الحسي في خمسينيات القرن الماضي.

وهي أبحاث ساعدت في كتابة إرشادات التعذيب المستخدمة بمعتقل خليج غوانتانامو وغيره حول العالم. ورسمت كلاين خطا واضحا يربط تعذيب السبعينات بأميركا اللاتينية بالتعذيب في أبوغريب (العراق) وغوانتانامو (كوبا) وباغرام (أفغانستان).

قارنت نعومي كلاين السياسة الاقتصادية الرأسمالية المتطرفة بالعلاج بالصدمة الذي يستخدمه أطباء نفسيون. وعقدت مقابلة مع جيل كاستنر، أحد ضحايا تجارب أساليب استجواب سرية أجراها عالم النفس الأميركي الأسكتلندي، إيوين كاميرون (1901-1967) لصالح الاستخبارات المركزية. كانت فكرته استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية لكسر إرادة المرضى؛ ثم تُعاد برمجتهم. لكن بعد أن كسر كاميرون مرضاه لم يستطع أبدا إعادة بنائهم.

ميلتون فريدمان (1912-2006) المنظر الأكبر للرأسمالية النيوليبرالية المتغولة والمنفلتة، وتُنسَب له كتابة قواعد الاقتصاد النيوليبرالي العالمي المعاصر (غيتي)

وهكذا تبدو الدروس المستفادة واضحة: تصاب البلدان بصدمات الحروب والإرهاب والانقلابات العسكرية والكوارث الطبيعية، ثم تصاب بصدمة ثانية بواسطة شركات وسياسيين يستغلون الخوف والارتباك الناجم عن الصدمة الأولى لتمرير العلاج بالصدمة الاقتصادية.

أحيانا، عندما لا تنجح الصدمتان الأوليان في القضاء على المقاومة، تُستخدم صدمة ثالثة: الكهرباء في زنزانة السجن أو بندقية الصدمات الكهربائية "تيزر" في الشوارع لمن يجرؤ على المقاومة.

كان ميلتون فريدمان (1912-2006) المنظر الأكبر للرأسمالية النيوليبرالية المتغولة والمنفلتة، وتُنسب له كتابة قواعد الاقتصاد النيوليبرالي العالمي المعاصر، ويُعتبر بحق "خبير الصدمات الاقتصادية" الأبرز.

ففي الخمسينيات، بينما كان إيوين كاميرون يجري تجاربه حول العلاج بالصدمة، كانت مدرسة شيكاغو في الاقتصاد تطور أفكارها. في إحدى مقالاته الأكثر تأثيرا، صاغ فريدمان العقار السري التكتيكي للرأسمالية النيوليبرالية، أي "مبدأ العلاج الصدمة".

يرى فريدمان أن "الأزمات فقط، سواء حقيقية أو متصورة، تنتج تغييرا حقيقيا"؛ فعند وقوع كارثة أو بالأحرى إحداث الكارثة، تعتمد الإجراءات التي يتم اتخاذها على الأفكار المتاحة.

يقوم بعض الناس بتخزين سلع معلبة ومياه استعدادا لكوارث كبرى؛ بينما يخزن أتباع فريدمان أفكار السوق الحرة المتفلتة. بوقوع الأزمة، نجد فريدمان مقتنعا بضرورة التحرك سريعا، لفرض تغيير دائم قبل عودة المجتمع الذي اجتاحته الأزمة إلى الوضع السابق أو ما يسميه "طغيان الوضع القائم". وهو تنويع على نصيحة ميكيافيلي بوجوب إيقاع "الأضرار كلها مرة واحدة".

كلاين تنتقد رأسمالية الكوارث، لكنها تتجاهل الصلة بين وحشية السوق الحر والرؤية الإمبريالية الغربية المستمرة منذ 5 قرون (رويترز)

رغم أهمية وبلاغة ما قدمته كلاين في نقد رأسمالية الكوارث ومبدأ العلاج بالصدمة لكسر إرادة الأمم وإخضاعها لأشد السياسات الاقتصادية إيلاما وإفقارا وبؤسا في أوقات الأزمات الكارثية، فإنها تعتقد بشيء من التبسيط أو السذاجة، أن لا حاجة للأسواق لأن تكون أصولية متطرفة، في إشارة لإمكانية تعايش المطالب الاجتماعية واقتصاد السوق الحرة الأقل شراسة وعدوانية.

وهو طرح يبدو معقولا لأول وهلة، إذ إن هناك تجارب ومذاهب اقتصادية غربية تبدي عقلانية وتوازنا في إدارة الاجتماع البشري، أو تتبنى اقتصادا تراحميا، أو تطرح رؤى عدالة اجتماعية أو اشتراكية غير قائمة بالضرورة على الصراع الطبقي ودكتاتورية البروليتاريا وحكم الحزب الواحد.

لكن لماذا لا تجد هذه الاتجاهات (المعقولة) طريقها للحكم في سياق المسار التاريخي للتجربة الغربية؟ لماذا لم تلتفت كلاين للعلاقة الجدلية بين وحشية اقتصاد السوق الحر والرؤية الكونية أو المعرفية الإمبريالية الغربية بمختلف روافدها وتعبيراتها وفلسفاتها؟

وإذا كان نشوء الرأسمالية أهم نتائج مشروع النهب الإمبريالي، فلماذا لا تكون رأسمالية الكوارث هي التطور الطبيعي للرأسمالية الأولى والرؤية المعرفية الإمبريالية الكامنة وراءها والأكثر تمثيلا لها؟ بعد تجربة مدرسة شيكاغو الاقتصادية ونتائجها الكارثية على مجتمعات واقتصادات عديدة خلال أكثر من نصف قرن، والتي نظّرت لأسوأ الممارسات والسياسات الاقتصادية، هل لا تزال تنطبق صفة "العلم" على الاقتصاد وغيره من المجالات المعرفية التي تم إنتاجها في ظل التجربة الغربية الإمبريالية الطويلة المتواصلة منذ 5 قرون، ورؤيتها المعرفية الإمبريالية وفي خدمة مشروعها الاستعماري الذي لم يصل إلى محطته الأخيرة بعد؟!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

مقالات مشابهة

  • تفسير رؤيا «القطط» في المنام لابن سيرين
  • أسئلة مراسلة أمريكية لابن سلمان حول خاشقجي تثير غضب ترامب (شاهد)
  • حفل توقيع لكتاب ممنوع
  • تحويل المعرفة إلى قوة استراتيجية
  • «خير أم شر».. تفسير رؤيا «خروج الماء من الأرض» لابن سيرين
  • رئيس جامعة المنصورة: قافلة جسور الخير 23 تجسد توجيهات القيادة السياسية لخدمة المناطق الحدودية
  • قراءة إسرائيلية في جدول أعمال اللقاء الوشيك لابن سلمان مع ترامب
  • «خير أم شر».. تفسير رؤيا «شرب الخمر» في المنام لابن سيرين
  • المعرفة في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبداد