المعرفة في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبداد
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
أسفرت الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة عن أكثر من 75 ألف شهيد ومفقود، و125 ألف جريح، وفناء مئات العائلات وشطبها من السجل المدني.
كما أدت إلى تجويع مفتعل بلا سابقة في تاريخ المشرق، ونزوح وتشتيت مليوني إنسان مرات عديدة خلال أشهر أو أسابيع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"العطر والدولة" لكمال القصير يبحث في تناقضات وتحولات الوعي العربيlist 2 of 2روي كاساغراندا: تحالف الصهيونيتين اليهودية والمسيحية صفقة مع الشيطانend of listوشهد القطاع دمارا واسعا في البنية التحتية، إذ تضرر نحو 80% من المساكن والأسواق والمستشفيات والمدارس والجامعات ومراكز الخدمات وآبار المياه ومنشآت الصرف الصحي والطرق والشوارع.
وانهارت المنظومة الطبية والبلدية وشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، إلى جانب المؤسسات المالية والاقتصادية.
كما لحقت أضرار جسيمة بالأرض المزروعة والإنتاج الزراعي والحيواني ومرافق الصيد البحري من مرافئ ومراكب، مما تسبب في تهجير مئات الآلاف إلى خارج القطاع، فضلا عن خسائر وكوارث أخرى لا تُحصى.
وعندما جاءت اتفاقية نهاية الحرب قبل انتصاف أكتوبر/تشرين الأول 2025، وتراجعت وتيرة العدوان، كان ذلك إيذانا بانتقال المعاناة إلى مرحلة أخرى، بعد انتظار القتل احتراقا بصاروخ إسرائيلي يستهدف خيمة أو مخبزا أو تحت أنقاض منزل أو قصفا لدى انتظار كيس دقيق من مصيدة الموت المسماة "مؤسسة غزة الإنسانية" الأميركية الإسرائيلية.
فبدأ الناس يعودون من دائرة الفناء والجوع والنزوح إلى ديار مدمرة وأرزاق مندثرة وأحياء وطرقات غارقة تحت الدمار بلا ملامح، وأوضاع لا تقل سوءا وظلاما وكآبة عن الغارات والقصف والقتل اليومي، ليواجهوا مصيرا مجهولا وأسئلة حائرة بلا إجابة. وقد وصفهم موقع "ميديابارت" الفرنسي المستقل بـ"أرواح مهشمة تعيش بين الأنقاض تصارع من أجل البقاء بلا أفق".
في ضوء كل ذلك، تساءل باحثون ومعلقون ومؤثرون عما يمكن تقديمه لهؤلاء الضحايا من علاج وإعادة تأهيل للتعافي من كروب الصدمة واضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة ونوبات الغضب والاكتئاب واليأس وانعدام الأفق والهلاوس والفصام واعتلالات الذهان، وما ينجم عنها من اعتلالات جسدية عديدة.
إعلانوهل لدى علماء النفس والأطباء النفسيين والاختصاصيين الاجتماعيين وخبراء التربية والتدريب والتنمية البشرية من ذخيرة تعين الضحايا على التعافي من النكبة الجديدة وتجاوز عواقبها الكارثية؟
سلطت هذه التساؤلات الكبرى الضوء على أزمة معرفية أكبر وأكثر أهمية. ففي نطاق العلوم الاجتماعية الغربية، يبدو ما يسمى "علم النفس" أو السيكولوجيا من أكثر الحقول الأكاديمية والبحثية عبثية وعدم جدوى والتباسا معرفيا واضطرابا أخلاقيا واختزالا لاإنسانيا. بل ومن أكثرها ارتباطا بالمشروع الإمبريالي الغربي، داخل الغرب وخارجه.
وعلم النفس في ذلك شأنه شأن علوم الأناسة (الأنثروبولوجيا) في القرن الـ19، الذي ازدهر في حقبة صعود حركة الاستعمار البريطاني والفرنسي خاصة.
ولئن تمكن أنثروبولوجيون، إنسانويون وماركسيون وتقدميون، من الإفلات من قبضة المدرسة الاستعمارية، وهذا يُحسب لهم، فإنهم لم يفلتوا من أغلال الرؤية الكونية الغربية العلمانية المادية، بمختلف روافدها وتعبيراتها وفلسفاتها: الحداثية، والنينشوية، والداروينية، والعنصرية، والفاشية، والإمبريالية، والرأسمالية، أو بعض هذه الأغلال على الأقل.
بل وتجاهلوا أن الفطرة الإنسانية الحقيقية تجد معنى وجودها ومنطلق فعلها وحركتها في عقيدة التوحيد والنبوة المنزلة من عالم الغيب وحيا من خالق الكون سبحانه وتعالى.
بدوره، حاز الأنثروبولوجي/السوسيولوجي البريطاني، السير جيمس فريزر، قصب السبق والريادة في صياغة المدرسة الاستعمارية في الأنثروبولوجيا، وهو الذي بلور فرضياتها وموضوعاتها وسماتها ومقولاتها المبكرة في كتابه الأشهر "الغصن الذهبي"، كدراسة موسعة في الأساطير والأعراف الوثنية بحثت في المعتقدات البدائية.
وزعمت الدراسة اكتشاف جذور شجرة "مفترضة"، خبيثة في الحقيقة، ليست شجرة التوحيد أو النبوات والرسالات، بل شجرة الوثنية والبدائية والميثولوجيا بأساطيرها وخرافاتها وشركها وطاغوتها، وأن البشرية تعيش على أغصانها الآن!
واجه الكتاب موجة احتجاج واسعة، مما اضطر فريزر إلى حذف مواد أثارت السخط العام، وقد طواه النسيان بعد ذلك بقرن، مع تراجع الظاهرة الاستعمارية، واضمحلال أهمية أفكاره وصياغاته في سيرة الاستعمار.
رأى فريزر أن البشرية تمارس عادات لا تعرف أصلها، فتعطيها مبررات سطحية. لكننا -بزعمه- بدائيون بشكل ما. هذا التمحور التفكيكي الاختزالي حول البدائية والوثنية والتطورية كان سائدا في القرن الـ19، عصر الاستعمار الأنجلوساكسوني والفرانكفوني بامتياز، ومترافقا مع تمدد المشروع الإمبريالي الغربي إجمالا.
وفي ذات السياق الزماني والمكاني أيضا، جاءت الداروينية الاجتماعية، وهي أكثر أهمية وتفكيكا وعنصرية ودلالة من أصلها، أي من الداروينية البيولوجية التي تلقت شكوكا كشفت شقوقا وتلفيقات أكبر لا تستر ورقة التوت الأكاديمية.
تقع هذه النظريات أو الصياغات الوثنية لقصة الإنسان وسردية وجوده ورسالته في صلب أيديولوجية الاستعمار وديباجاته ومبرراته الحافلة بمزاعم تفوق الشعوب البيضاء، وعبء الرجل الأبيض في حكم الشعوب البدائية والارتقاء بها، وحق الغزو والفتح الروماني الذي ورثته الإمبريالية الأنجلوأميركية، ومفهوم "الحرب العادلة" في ذات السياق والإطار.
اتخذت هذه النظريات والفرضيات صياغات "شبه معرفية" أو "شبه علمية"، وبقيت في مركز نطاق العلوم الاجتماعية الغربية، كامنة أو صريحة، تعكس بشكل لا لبس فيه اعتلال رؤية معرفية إمبريالية علمانية "سيكوباتية"، بسماتها الرئيسة:
إعلان إنكار التكريم والاستخلاف الإلهي للإنسان ونزع القداسة عنه، بما يُشرعن ظلمه ونهبه واستغلاله وقهره واضطهاده واستعباده واختطافه بعشرات الملايين، بل وإبادته واستباحته وتحويله لمادة استعمالية بلا حصانة ولا محرمات ولا شريعة ضامنة، وهذا هو جوهر المشروع الإمبريالي الغربي منذ انطلاقه قبل 5 قرون. التمحور حول الذات الأوروبية (الغربية)، أو بتعبير آخر المركزية الأوروبية (الغربية)، وجوهرها النظر إلى العالم من منظور أوروبي غربي أحادي والاعتقاد أن ثقافة المجتمعات الأوروبية والغربية، وامتداداتها إجمالا، وقيمها أسمى وأرقى من ثقافة المجتمعات الأخرى في آسيا وأفريقيا والأميركتين قبل إبادة شعوبهما تمهيدا لاستعمارهما واستيطانهما. وفي سياق هذه المركزية، يُعتبر التاريخ الأوروبي النموذج الأمثل الملهم، الذي يحتذى لصياغة تاريخ وموضوعات ونظريات العلاقات الدولية والقانون الدولي والاقتصاد وأشكال الفنون والإنتاج الثقافي.ورغم أن شرق أوروبا والبلقان وغرب آسيا وشمال أفريقيا وجنوب صحرائها الكبرى قد تمتعت بـ4 قرون ونيف من السلام والأمان العثماني، بينما كانت نيران المجاعات والأوبئة والاستبداد والحروب الدينية وسط وغرب أوروبا -التي أطلقتها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي- تفني ثلث شعوبها!
لكن في سياق المركزية الغربية، لم يشهد العالم سلاما أو نظاما إقليميا أو دوليا راسخا بمعنى الكلمة، قبل معاهدة وستفاليا (عام 1648) التي أنهت الحروب الدينية، وأطلقت قيام الدول القومية (الحديثة) التي دشنت وجودها بأساطيل الإبادة منطلقة نحو الأميركتين وأستراليا وسواحل أفريقيا والهند والصين وجزر الهند الشرقية والهند الصينية.
بل إن ما وُصِفَ بـ"سلام ما بعده سلام"، وعنوَن به المؤرخ البريطاني ديفيد فرومكن كتابه حول نهاية الدولة العثمانية (A Peace to End All Peace)، هو بالطبع "السلام البريطاني" (Pax Britannica).
وقد شهدنا في المشرق ما ذاقته الأمة، لأكثر من 100 عام، من إهانات وإذلال وأهوال ودمار السلام البريطاني ثم الأميركي، اختراقا واحتلالا واستعمارا وتجزئة وإخضاعا واستيطانا، وأحدث صور ذلك الإبادة الإسرائيلية في فلسطين وامتداداتها في سوريا ولبنان واليمن وقطر، واعتداءاتها على أي دولة عربية أو مسلمة تنشد التنمية والاستقلال وتأمين وسائل الردع والدفاع عن النفس. و"حسبك من شرٍ سماعُه!" فكيف بمن يراه صباحا ومساء رأي العين.
ورغم أن الهند، مثلا، في القرن الـ16، زمن الحكم المغولي، وقبل الغزو والاستعمار البريطاني -الذي لم تتعاف منه حتى الآن- كانت أكبر منتِج ومُصدر للسلع المصنعة في العالم، فإن المركزية الغربية تصر على أن لا تصنيع عالميا قبل الثورة الصناعية الأوروبية (عام 1850).
بل إن كارل ماركس ذاته، الذي توجه فكره نحو توزيع الثروات المنهوبة وفائض القيمة القادم من مزارع التبغ والقطن وقصب السكر ومناجم الذهب والفضة والفحم وتجارة العبيد بالمستعمرات، بالعدل بين المُستعمِرين في المتروبوليتان الأوروبي، دعا لاستعمار الجزائر وتغيير نظامها الإنتاجي وإلحاقها بنمط الإنتاج الاستغلالي الأوروبي، وجعلها مصدرا للنبيذ والمحاصيل المهمة لأوروبا، ودعا لاختراق الصين وتدمير نمط الإنتاج الآسيوي بها ليستبدل به نظام إنتاج على النمط الأوروبي، ربما لتصبح قابلة ماركسيا للدراسة والاستشراف والقياس والتنميط بالمعايير الأوروبية!
إعلان اختزال وتنميط الظواهر الإنسانية والحضارية والاجتماعية: لقد ورثت الدولة القومية، الدولة الأمة، في الغرب تقاليد استبداد الكنيسة والملوك وأمراء الإقطاع، واستوعبت مظاهره كيانا وروحا ومؤسسات. لم تشهد الأمم الأوروبية عبر تاريخها الممتد، خاصة تحت سيطرة الكنيسة والملوك والإقطاع، تنوعا ثقافيا أو دينيا أو اجتماعيا، رغم وجود مقوماته الطبيعية في أوروبا.كما افتقرت طويلا إلى الأسس الدستورية والتقاليد التشريعية التي ترسخ مبدأ الضوابط والتوازنات في العلاقة بين الأمة والدولة، وكذلك مبدأ الفصل الحقيقي بين السلطات وضمانات الحقوق في مواجهة تغول السلطات. ورغم تشريع هذه القضايا بدءا من القرن الـ19، فإنها تشهد موجات مد وجزر، وتخضع لتحيزات أيديولوجية وعرقية ومكارثيات وإحياء لروح محاكم التفتيش، مما يؤدي لانكماش الحقوق والضمانات العدلية والإجراءات القانونية الوجبة.
كذلك، لم تألف أو تقبل الدولة القومية مبدأ تعدد الهويات، والولاءات الفرعية، والخصوصيات المحلية، والنتوءات الإثنية، لأنها لا تخدم القولبة الضرورية لإمداد المشروع الإمبريالي بالموارد، وتتناقض مع سعي الدولة لزيادة فائض القوة والولاء المطلق.
من مظاهر الاختزال والتنميط الثقافي والإثني، مثلا، عندما تكون نيجيريًا في نيجيريا، فأنت إما أن تكون إيبو أو يوروبا أو هاوسا أو فولانيا بكل ما في ذلك من حمولة ثقافية، وخصوصية لغوية وإثنية، وتقاليد اجتماعية، وأمثال شعبية. لكنه في لندن هو نيجيري، وفي نيويورك مجرد أفريقي. هكذا يكون الاختزال والتنميط بناء على قوالب ومعايير إمبريالية صلبة توظف العرق أو اللون أو المهارات الاقتصادية المرتبطة تاريخيا بإدارة استعمارية تقولب البشر وفقا لفائدتهم واستعمالهم وموقعهم في دورة الإنتاج والاستيعاب لتحقيق أعلى درجات الربح وأقل التكاليف.
فمثلا، اختطفت شركات الاستعمار وقراصنته عشرات الملايين من ساحل غرب أفريقيا لتستعبدهم بالمناجم ومزارع التبغ والقطن وقصب السكر بالجنوب الأميركي والإنديز وجزر الكاريبي، وجاءت بمثلهم من الهنود وشعوب جزر الهند الشرقية ليؤدوا الأعمال نفسها في المناطق والأقاليم نفسها، لكن من دون مسمّى العبودية والعبيد.
كذلك، يروي أحد كبار أدباء نيجيريا وأفريقيا، لعله تشينوا أتشيبي، أنه عندما كان يتلقى تعليمه في بريطانيا خلال الخمسينيات قبل استقلال بلاده عن الاستعمار البريطاني، أراد إرسال بعض الكتب بالبريد لصديق في بلاده. فنظرت موظفة البريد لعنوان المرسل إليه، وسألت: "نيجيريا.. نيجيريا! هل هي لنا أم للفرنسيين؟" فأجابها: "بل هي لك سيدتي!".
في ظل رؤية معرفية كهذه، تنشأ مزاعم تفوق العرق الأبيض على غيره من الأعراق، والعنصرية واحتقار منجزات وقيم الحضارات الأخرى. بل إن فيلسوفا أوروبيا مهما، مثل الألماني جورج فريدريش هيغل (1770-1831)، أنكر في القرن الـ19 أي فضيلة للشرق في إنتاج العلم والحكمة باستثناء ما أنجزه الإغريق القدماء!
لا ترى الرؤية المعرفية الإمبريالية حدودا لاستباحة العالم غزوا واختراقا وإبادة واستغلالا واستهلاكا. كما لا تعترف للآخر غير الغربي بأي حقوق ثابتة في الحياة أو الوجود أو الاستقلال، خاصة إذا لم يمتلك القوة الرادعة المكافئة لقوة الاجتياح الإمبريالي وأساطيله ومدافعه، أو ما يسمى تاريخيا بدبلوماسية البوارج الحربية.فالقوة، قوة الإبادة، هي معيار الحق والمرجعية النهائية لهذه الرؤية المعرفية. ومنذ انطلاق الثورة الصناعية عام 1850، ألقى الغرب الصناعي بمليارات الأطنان من ملوثات البيئة والغلاف الجوي والبحار والمحيطات ومن غازات الاحتباس الحراري، وتسبب بالاحترار الكوني الذي أدى لاضطرابات مناخية وفيضانات وتصحر، ودمر أنماط الإنتاج الزراعي العالمي والأمن الغذائي للبشرية. بل إن معدل إنتاج نفايات الغرب الناجمة عن هذه الرؤية المعرفية بلغ مستويات تقتضي حيزا لاستيعابها يعادل عدة كواكب بحجم كوكب الأرض.
ومنذ بواكير البحث في الظاهرة السيكولوجية، لم تفرّق مناهجها كثيرا بين الإنسان والحيوان، وتم اعتبار التجارب السلوكية والغرائزية التي أجريت على الحيوانات مؤشرا معتمدا في فهم نفسيات وسلوكيات البشر، منذ التجارب على الكلاب، التي أجراها إيفان بافلوف الروسي (1849-1936) لدراسة الاستجابة الشرطية، مرورا بتجارب سيليغمان وماير (1967) لدراسة العجز المكتسب بالتعلم.
إعلانومعظم تلك التجارب لم تنصرف إلى فهم السلوكيات والمشاعر والاستجابات بقدر ما انصرفت إلى السيطرة على نفسيات الحيوانات والبشر وصياغتها من الخارج قسرا وإكراها وتنميطا. وتجنح كثير من هذه الدراسات إلى تفسير سلوك الإنسان تفسيرا بيولوجيا وكيميائيا يرد دوافعه إلى استجابات شَرطية، تُعزى بدورها إلى هرمونات وإنزيمات وبروتينات وأدرينالين ودوبامين وسيروتونين وأكسوتوسين، وهكذا. وكأنه آلة بلا روح أو نفس أو قيم أو أشواق أو غايات أو أخلاق!
وكانت الكاتبة والأكاديمية الكندية، نعومي كلاين، قد خصصت كتابا كاملا حول "مبدأ الصدمة وصعود رأسمالية الكوارث"، تناولت فيه العلاج بالصدمة الذي يستخدمه أطباء نفسيون، وكشفت علاقات مذهلة بين السياسات الاقتصادية، وحروب "الصدمة والترويع"، وتجارب سرية مولتها وكالة الاستخبارات المركزية تتعلق بالصدمات الكهربائية والحرمان الحسي في خمسينيات القرن الماضي.
وهي أبحاث ساعدت في كتابة إرشادات التعذيب المستخدمة بمعتقل خليج غوانتانامو وغيره حول العالم. ورسمت كلاين خطا واضحا يربط تعذيب السبعينات بأميركا اللاتينية بالتعذيب في أبوغريب (العراق) وغوانتانامو (كوبا) وباغرام (أفغانستان).
قارنت نعومي كلاين السياسة الاقتصادية الرأسمالية المتطرفة بالعلاج بالصدمة الذي يستخدمه أطباء نفسيون. وعقدت مقابلة مع جيل كاستنر، أحد ضحايا تجارب أساليب استجواب سرية أجراها عالم النفس الأميركي الأسكتلندي، إيوين كاميرون (1901-1967) لصالح الاستخبارات المركزية. كانت فكرته استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية لكسر إرادة المرضى؛ ثم تُعاد برمجتهم. لكن بعد أن كسر كاميرون مرضاه لم يستطع أبدا إعادة بنائهم.
وهكذا تبدو الدروس المستفادة واضحة: تصاب البلدان بصدمات الحروب والإرهاب والانقلابات العسكرية والكوارث الطبيعية، ثم تصاب بصدمة ثانية بواسطة شركات وسياسيين يستغلون الخوف والارتباك الناجم عن الصدمة الأولى لتمرير العلاج بالصدمة الاقتصادية.
أحيانا، عندما لا تنجح الصدمتان الأوليان في القضاء على المقاومة، تُستخدم صدمة ثالثة: الكهرباء في زنزانة السجن أو بندقية الصدمات الكهربائية "تيزر" في الشوارع لمن يجرؤ على المقاومة.
كان ميلتون فريدمان (1912-2006) المنظر الأكبر للرأسمالية النيوليبرالية المتغولة والمنفلتة، وتُنسب له كتابة قواعد الاقتصاد النيوليبرالي العالمي المعاصر، ويُعتبر بحق "خبير الصدمات الاقتصادية" الأبرز.
ففي الخمسينيات، بينما كان إيوين كاميرون يجري تجاربه حول العلاج بالصدمة، كانت مدرسة شيكاغو في الاقتصاد تطور أفكارها. في إحدى مقالاته الأكثر تأثيرا، صاغ فريدمان العقار السري التكتيكي للرأسمالية النيوليبرالية، أي "مبدأ العلاج الصدمة".
يرى فريدمان أن "الأزمات فقط، سواء حقيقية أو متصورة، تنتج تغييرا حقيقيا"؛ فعند وقوع كارثة أو بالأحرى إحداث الكارثة، تعتمد الإجراءات التي يتم اتخاذها على الأفكار المتاحة.
يقوم بعض الناس بتخزين سلع معلبة ومياه استعدادا لكوارث كبرى؛ بينما يخزن أتباع فريدمان أفكار السوق الحرة المتفلتة. بوقوع الأزمة، نجد فريدمان مقتنعا بضرورة التحرك سريعا، لفرض تغيير دائم قبل عودة المجتمع الذي اجتاحته الأزمة إلى الوضع السابق أو ما يسميه "طغيان الوضع القائم". وهو تنويع على نصيحة ميكيافيلي بوجوب إيقاع "الأضرار كلها مرة واحدة".
رغم أهمية وبلاغة ما قدمته كلاين في نقد رأسمالية الكوارث ومبدأ العلاج بالصدمة لكسر إرادة الأمم وإخضاعها لأشد السياسات الاقتصادية إيلاما وإفقارا وبؤسا في أوقات الأزمات الكارثية، فإنها تعتقد بشيء من التبسيط أو السذاجة، أن لا حاجة للأسواق لأن تكون أصولية متطرفة، في إشارة لإمكانية تعايش المطالب الاجتماعية واقتصاد السوق الحرة الأقل شراسة وعدوانية.
وهو طرح يبدو معقولا لأول وهلة، إذ إن هناك تجارب ومذاهب اقتصادية غربية تبدي عقلانية وتوازنا في إدارة الاجتماع البشري، أو تتبنى اقتصادا تراحميا، أو تطرح رؤى عدالة اجتماعية أو اشتراكية غير قائمة بالضرورة على الصراع الطبقي ودكتاتورية البروليتاريا وحكم الحزب الواحد.
لكن لماذا لا تجد هذه الاتجاهات (المعقولة) طريقها للحكم في سياق المسار التاريخي للتجربة الغربية؟ لماذا لم تلتفت كلاين للعلاقة الجدلية بين وحشية اقتصاد السوق الحر والرؤية الكونية أو المعرفية الإمبريالية الغربية بمختلف روافدها وتعبيراتها وفلسفاتها؟
وإذا كان نشوء الرأسمالية أهم نتائج مشروع النهب الإمبريالي، فلماذا لا تكون رأسمالية الكوارث هي التطور الطبيعي للرأسمالية الأولى والرؤية المعرفية الإمبريالية الكامنة وراءها والأكثر تمثيلا لها؟ بعد تجربة مدرسة شيكاغو الاقتصادية ونتائجها الكارثية على مجتمعات واقتصادات عديدة خلال أكثر من نصف قرن، والتي نظّرت لأسوأ الممارسات والسياسات الاقتصادية، هل لا تزال تنطبق صفة "العلم" على الاقتصاد وغيره من المجالات المعرفية التي تم إنتاجها في ظل التجربة الغربية الإمبريالية الطويلة المتواصلة منذ 5 قرون، ورؤيتها المعرفية الإمبريالية وفي خدمة مشروعها الاستعماري الذي لم يصل إلى محطته الأخيرة بعد؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات فكر القرن الـ19 فی القرن
إقرأ أيضاً:
ورشة عمل بجامعة عين شمس بالتعاون مع بنك المعرفة المصري .. الأحد
ينظم قطاع الدراسات العليا والبحوث بجامعة عين شمس، بالتعاون مع بنك المعرفة المصري (EKB)، ورشة عمل يومي الاثنين والثلاثاء 17 و 18 نوفمبر 2025، وذلك على مسرح كلية البنات بجامعة عين شمس.
يأتي ذلك في إطار حرص جامعة عين شمس على تعزيز الاستفادة من موارد بنك المعرفة المصري، ودعم مسيرة البحث العلمي والعملية التعليمية.
تحت رعاية الدكتور محمد ضياء زين العابدين، رئيس جامعة عين شمس، والأستاذة الدكتورة أماني أسامة كامل، نائب رئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا والبحوث.
تأتي الورشة في إطار جهود الجامعة لنشر ثقافة البحث العلمي، وتمكين الباحثين وأعضاء هيئة التدريس والطلاب من الاستخدام الأمثل لموارد بنك المعرفة المصري، بما يسهم في الارتقاء بمخرجات البحث والتعليم الجامعي.