عربي21:
2025-12-09@05:02:35 GMT

الإعلام الغربي أمام أخطر امتحاناته

تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT

لم تعد إسرائيل تكتفي باتهام الإعلام العربي، وخصوصا قناة الجزيرة، بالتحيز وترويج المزاعم المغرضة. بل إن من عناصر الجدة والمفاجأة التي واكبت العدوان الهمجي على شعب غزة أن إسرائيل صارت تتهم الجميع شرقا وغربا وتطلق النار في كل اتجاه وعلى كل هدف إعلامي. إذ لم تبق اليوم وسيلة إعلام غربية كبرى إلا خاصمتها حكومة الكيان الاستيطاني الصهيوني واتهمتها بالتحيز ضدها.

القائمة تطول: وكالة رويترز، وكالة الصحافة الفرنسية، النيويورك تايمز، قناة تي. في. 5 الفرنسية، بل وحتى السي. ان. ان التي يشهد لها الكون كله بالانحياز لإسرائيل!

وقد كانت البي. بي. سي أول أهداف القنص الإسرائيلي ضد وسائل الإعلام الغربية. ليس لأن البي. بي. سي قررت هذه المرة عدم استخدام نعت «الإرهاب» الذي تعوّد الإعلام الغربي أن يلصقه آليا بحماس، بل لأنها متهمة على الدوام في أوساط الجالية اليهودية في بريطانيا بأنها يسارية الهوى ومتحاملة، بالطبع والسليقة، على دولة إسرائيل. ومثلما جرت العادة، اضطلعت جريدة جويش كرونيكول بشن الموجة الأولى من الاتهامات.

والغريب أن رئيس تحريرها جايك واليس سايمنز قد وجد مجالا رحبا لترداد اتهاماته الشاذة في شططها عند صحافي مرموق هو رئيس التحرير السابق لجريدة الغارديان، ورئيس التحرير الحالي للشهرية الفكرية «بروسبكت» آلن راسبريدجر في بودكاسته الأسبوعي المخصص لشؤون الإعلام وشجونه.

وقد كان من نتائج الهجمة الإسرائيلية على كبريات وسائل الإعلام الغربية أن عادت إلى دائرة النقاش قضايا أخلاقيات العمل الصحافي، والحياد في نقل الأحداث، والتفريق الصارم بين وظيفة الأخبار والإعلام ووظيفة التعليق والتحليل. وقد استرعى انتباهي في خضم هذا النقاش الواسع نصان. الأول مقال نشره مدير وكالة فرانس-برس فابريس فريس في لوموند يرد فيه على الاتهامات الإسرائيلية بأنها صارت «وكالة فرانس-فلسطين» (ولو أنه لم يذكر إسرائيل بالاسم، وآثر الحديث بالتعميم والتنكير عن «اتهامات بالانحياز») من خلال التذكير بالمبادئ المهنية التي تلتزمها الوكالة منذ عقود طويلة.

أما النص الثاني فهو مجمل التصريحات التي أدلت بها الباحثة جيرالدين مولمان بمناسبة صدور كتابها «دفاعا عن الوقائع» الذي تحاول فيه الانتصار للصحافة الإخبارية ضد «الغزو الثقافي» الجارف المتمثل في تفشي التحيز والتزييف. ترى مولمان أن الصحافة تعاني اليوم أخطر الأزمات في تاريخها على الإطلاق بسبب اندثار «الوقائعية» (أي الالتزام بنقل الوقائع والأحداث كما هي) وسطوة الآراء (غير المستندة على معطيات يمكن التحقق منها) وغلبة الأهواء (التي هي نقيض الحق والحقيقة لأنها لا تأتي إلا ترجمة لتحيزات أو خدمة لأغراض). وتذكر مولمان أن انتشار أخبار زائفة بعيد 7 أكتوبر، مثل زعم إسرائيل أن حماس قتلت أربعين رضيعا إسرائيليا، هو من آثار ما تسميه «تحويل العالم إلى واقع افتراضي» بحيث يتم التخلص مما يسميه ماكس فيبر «الوقائع المزعجة» أي الوقائع التي من شأنها أن تفند الآراء أو الأوهام أو الأباطيل التي تتمسك بها إحدى الجماعات تمسكا مطلقا بصرف النظر عن مدى تطابقها مع أحداث العالم الحسي الملموس.

وقد تبين أن حنا آرندت كانت محقّة عندما بكّرت منذ الستينيات بالتعبير عن القلق على ما سمته «المادة الوقائعية». ذلك أن الأكاذيب غالبة اليوم على الوقائع في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه الغلبة هي من آثار غلبة الخطابات على السرديات. والخطاب، في تعريف جيرار جينيت، هو حديث الذاتية والمشاعر والأهواء، أما السردية فهي الحديث الذي يتوخى الموضوعية لأنه يسعى إلى إحراز القبول لدى الجميع. وقد اكتشفت الصحافة أن الحاجة الاجتماعية إلى السرديات عنصر مهم في الحياة الديمقراطية: حيث أدرك أرباب الصحف الأمريكية في أواخر القرن 19 أن الوصول إلى الجمهور العريض، أي إلى أفراد ليسوا بالضرورة متفقين، يقتضي تقديم سرديات تروي أحداثا ووقائع، لا خطابات تعرض آراء تبعث بالضرورة على الانقسام.

وهكذا تسنّى للصحافة أن تضمن الاتفاق حول الوقائع قبل أن تضمن حرية الاختلاف في الآراء. أي أن السرديات الصحافية قد كانت طيلة قرن ونصف هي القاعدة المشتركة التي وفرت شرط التدافع الديمقراطي. وترى مولمان أن ضامن الوقائعية وجنديّها هو المراسل الصحافي الموجود في الميدان وجودا فعليا، «شاهدا وسفيرا». كما تؤكد أن الحياد مثال ينبغي الطموح إليه، مذكّرة بأن فيلسوف التنوير الأسكتلندي آدم سميث هو الذي أسس نموذج «المشاهد المحايد» في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية».
(القدس العربي)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة فلسطين فلسطين الولايات المتحدة غزة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

أخطر من الإلحاد

ذات يوم وبعد انتهاء إحدى ندواتى الثقافية، اقترب منى رجل ستينى، مهندم الثياب، حزين الوجه، بدا متردداً وهو يصافحنى بعد أن قال لى إنه يريد استشارتى فى أمر خاص بعيداً عن موضوع الندوة. استحثنى تلعثمه لأرحب به وأحفزه لينتحى بى جانباً، ويقول لى بأسى شديد: إن ابنى الوحيد ملحد، ينكر الدين كلية، ويطرح أفكاراً غريبة، وقد جربت معه المقاطعة والخصام، فلم أفلح، وحاولت تهديده بالفضح لكنه لم يكترث، ولا أعرف ماذا أفعل.

سألته إن كان يقرأ، فقال : قليلاً، واستفسرت إن كان على استعداد لنقاش مع أحد، فأخبرنى بأنه استعان بمشايخ وأقارب للحوار معه، فاستفزهم بأسئلته، فكفروه، وفشلت المحاورات.

قلت له: لا تقاومه، ولا تلعنه، واترك جسراً دائماً للحوار معه، وحفزه على القراءة والبحث، ولا تغضب من تصوراته، وإنما ناقشها بهدوء ودون غضب. فابنك لديه الحق فى أن يفكر ويبحث ويشك ويسأل ويقرر معتقده بنفسه، وكثيرون قبلنا وحولنا مروا بلحظات شك عصيبة، فأصبحوا مفكرين عظاماً يهتدى بهم الناس.

تذكرت الرجل المهموم وأنا أقرأ حيثيات حكم محكمة القضاء الإدارى برفض دعوى مرتضى منصور بمنع عرض فيلم الملحد، استناداً إلى أن هيئة الرقابة على المصنفات الفنية وحدها هى صاحبة الحق فى الإجازة والمنع طبقاً لنصوص القانون. فالفيلم الذى يناقش قضية مهمة وحيوية فى المجتمع المصرى، تعرض لتعطيل عرضه بسبب إصرار بعض المتصدرين للمشهد على ممارسة حق الوصاية على الناس، والمجتمع، والدولة. وبمجرد إعلان الكاتب إبراهيم عيسى قبل عامين عن انتهائه من كتابة فيلم «الملحد» حتى اعتبر المنصبون أنفسهم أوصياء على الناس، العمل الفنى جرماً، وحظره ضرورة إسلامية، رغم أن أحداً منهم لم يره.

وقالت المحكمة فى حيثيات حكمها إنه من المعلوم بالضرورة أن حرية التعبير تنبع من فيض الكرامة الإنسانية التى أنعم بها المولى عز وجل على البشرية جمعاء، وهى تعد أحد الأعمدة الرئيسية فى بنيان الحقوق والحريات المصرى.

وأوضحت أن فن السينما من أهم وسائل التعبير عن الرأى، والفكر، ونشر الأخلاق، والقيم، والمفاهية الإنسانية، وحمايته باعتباره إحدى صور الإبداع لا يستقيم أمره أو يستوى على صحيح مقصده إلا بتقييمه فى إطار كونه عملاً فنياً.

وتدور قصة الفيلم حول شاب مسلم تمرد على الوسط المحيط به نتيجة التشدد الدينى الذى رباه عليه من والده، ومن ثم أعلن إلحاده تحدياً لوالده المتشدد، وما لبث أن توفى الأب حتى رجع الابن للبحث والتفكير ليصل إلى الإيمان باقتناع ورضا.

وأتصور أن الإلحاد يمثل موجة طبيعية تعانى منها المجتمعات المنغلقة، التى لم تعتد حواراً ولم تقبل نقاشاً. ولا شك فى أننا فى مصر- رغم رحابة العالم وثورة العقول وتطور التواصل - مازلنا نخشى من عمل فنى يناقش قضية مجتمعية خطيرة بمنطق ووعى.

ما المخيف فى استجلاء فلسفة الملحدين؟ وما المزعج فى مناقشة رؤاهم وتصوراتهم؟ إن التسليم وهز الرأس والانصياع لكل ريح هو تكرار لفكرة الكافرين بالأنبياء التى واجهوا بها رسالات السماء عندما كرروا عبارة «وجدنا آباءنا لها عابدين» كمبرر لعبادة الأوثان.

وهذا المنطق لا يمكن أن يصنع إيماناً حقيقياً، ولا أن يبنى مجتمعاً صلباً قوياً بشبابه ومتماسكاً بشيوخه، ومتسعاً بمحاورات الألباب فيه، وهذا يمثل خطراً ربما أشد من ظاهرة الإلحاد نفسه، فغياب التفكير والتدبر كفيل بانسحاق الإنسان. وأحسب أن تصريح الرئيس السيسى الأخير بشأن توارث معتقدات الناس، وكيفية ترسخها فى الأذهان دون بحث واقتناع جدير بالبحث والاهتمام.

والله أعلم.

 

[email protected]

مقالات مشابهة

  • مؤسسات إعلامية كبرى في «قمة بريدج»: المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي يعيدان تشكيل مستقبل الإعلام العالمي
  • ما موقف ألمانيا من الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة؟
  • «حاملة الطائرات التي لا تغرق: إسرائيل، لماذا تخشى السعودية أكثر مما تخشى إيران؟»
  • أونروا: إسرائيل طرف في اتفاقية امتيازات الأمم المتحدة التي تنص على حرمة المقار الأممية
  • أخطر من الإلحاد
  • صلاح: صنعت تاريخًا استثنائيًا مع ليفربول.. ولم أجد من يدافع عني أمام الإعلام الإنجليزي
  • ملك شعب «الخوسا» من إسرائيل: كنت سأمحو غزة!
  • وزير الخارجية السوري: قلقون من سياسات إسرائيل التي تتعارض مع استقرارنا
  • أمين عام الأطباء: قانون المسئولية الطبية يحمي الطبيب من التعسف والشكاوى الكيدية
  • رئاسة الجمهورية:ليس لدينا علم بقرارات وقوانين الدولة !!