كيف نسافر إلى مكان ما؟ نحدد الوجهة بالطبع؛ ولكننا نحدد أيضًا المسار الذي سنسلكه لنصل إليها، والوقت الذي ستستغرقه الرحلة. وقد يكون هذا إطارا مفيدا للتفكير في المسار المستقبلي للتضخم وأسعار الفائدة -وهي رحلة لها تداعيات عامة على تكلفة رأس المال، والتقييمات والمضاعفات، والقدرة على تحمّل الديون، وغير ذلك.
إن الخطوة الأولى في هذه الرحلة هي أن نفهم كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. فبعد رفع القيود التي فُرضت خلال فترة الجائحة، ارتفع الطلب عبر مختلف قطاعات الاقتصاد العالمي، الذي عززته إلى حد ما الميزانيات العمومية السليمة للأسر والشركات، مما يُظهر الدعم المالي السخي الذي قدمته الحكومات خلال الجائحة.
ولكن التوسع المالي تسبب أيضا في ارتفاع حاد لمستويات الديون السيادية -مما ستكون له عواقب مستقبلا. عندما ارتفع الطلب في مرحلة ما بعد الجائحة، لم يتمكن جانب العرض من مواكبته، فتفاقمت الضغوط التضخمية. وكانت بعض الاضطرابات في جانب العرض -أو ما يسمى بالعوائق المؤقتة- ناجمة عن عمليات الإغلاق واختلال التوازن التي سببتها الجائحة، وسرعان ما تراجعت. ولكن ثبُت أن بعضها الآخر كان أكثر حدة، وكانت علمانية، وهيكلية. وظل الطلب الزائد مستمرا بإلحاح. وفي نهاية المطاف، تدخلت البنوك المركزية الكبرى، وسرعان ما رفعت أسعار الفائدة لتقييد الطلب الكلي. ويبدو أن جهودها قد كُللت بالنجاح؛ فقد بدأت معدلات التضخم في الانخفاض.
ماذا سيحدث بعد ذلك؟ يخبرني خبراء إدارة الأصول -وأنا لا أملك الخبرة في هذا المجال- أنه من عجيب المفارقات أن التنبؤ بالمسار الدقيق للتحولات غالبا ما يكون أصعب من التنبؤ بوجهتها. وهذا مثال على سمة عامة للتحليل الاقتصادي: غالبا ما يمكن وصف التوازنات التي تستقر فيها الأسواق بدقة أكبر مقارنة مع فترات تحولها. لذلك، دعونا نحدد وجهتنا. سوف يبلغ التضخم أو يقترب من معدل 2 في المائة، وهو الهدف الذي التزمت به البنوك المركزية، والذي تتوقعه الأسواق؛ ويكون سعر الفائدة الحقيقي عند مستوى يحافظ على توازن العرض والطلب إلى حد معقول (ومن ثم القضاء على السبب الجذري للضغوط التضخمية).
واستنادا إلى اتجاهات التضخم الأخيرة، يبدو أن هذا التوازن يمكن تحقيقه بالكامل من دون حدوث انكماش اقتصادي حاد أو حتى معتدل. والسؤال هو كم سيكون سعر الفائدة الحقيقي؟ يبلغ معدل التضخم في الولايات المتحدة حاليا 3.4 في المائة، ويبلغ سعر الفائدة الأساسي لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي 5.25 في المائة إلى 5.5 في المائة. وهذا يضع سعر الفائدة الحقيقي عند معدل 2 في المائة تقريبا. وحتى الآن، لا يبدو أن هذا المستوى كان له أي تأثير سلبي كبير على نمو الناتج المحلي الإجمالي أو تشغيل العمالة.
ومع أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قرر في اجتماعه الأول لعام 2024 إبقاء سعر الفائدة القياسي ثابتا، إلا أن الأسواق كانت تتوقع العودة إلى هدف التضخم المحدد بـ2 في المائة بحلول نهاية العام. وإذا خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الخصم بنسبة 1.5 في المائة هذا العام، إلى نطاق 4 في المائة، فإن سعر الفائدة الحقيقي سوف يظل عند مستوى 2 في المائة تقريبا. ويتسق هذا المسار الذي تتخذه أسعار الفائدة، والمتمثل في ستة تخفيضات بنسبة 0,25 في المائة في كل واحدة في عام 2024، مع توقعات السوق، ويتسم بحدة أكبر إلى حد ما مما توقعه بنك الاحتياطي الفيدرالي نفسه، وفقا لأحدث مخطط نقطي له.
وتبدو توقعات أسعار الفائدة -الاسمية والحقيقية- بعد عام 2024 أكثر إشكالية. إذ يتوقع المخطط النقطي إحداث تخفيضات إضافية كبيرة في أسعار الفائدة في عامي 2025 و2026. وإذا صحت التوقعات، فسوف ينخفض سعر الفائدة الحقيقي ويستقر عند (أو يقترب من) 0.5 في المائة. ويبدو هذا مستبعدا جدا، نظرا للقيود البنيوية المستمرة في جانب العرض (بما في ذلك نقص العمالة، والشيخوخة السكانية، وتراجع الإنتاجية)، وارتفاع التكاليف الناجمة عن التوترات الجيوسياسية، والصدمات، والتنويع السريع والمكلف لشبكات العرض العالمية.
وفي هذا السيناريو، سوف ترتفع أسعار الأصول، تماما كما كانت في العقد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وسوف يتوسع نطاق الائتمان، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع الطلب. ولكن من دون زيادة في العرض في العمالة أو الإنتاجية، فمن المحتمل أن يتراجع العرض وتعود الضغوط التضخمية إلى الواجهة، وهو ما من شأنه أن يدفع أسعار الفائدة الحقيقية إلى الانخفاض بحدة أكبر.
ومن المؤكد أن زيادة الإنتاجية أمر ممكن، وخاصة في ظل الاختراقات التي تحققت في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي. ولكن متى؟ وحتى أولئك الذين يتوقعون زيادة في نمو الإنتاجية بفضل الذكاء الاصطناعي لا يتوقعون حدوث ذلك بسرعة؛ بل يبدو حدوث ذلك أكثر احتمالا في الجزء الأخير من العقد منه في السنتين أو السنوات الثلاث القادمة. ولكن مجرى الأحداث قد يتغير. إذا تحققت زيادة الإنتاجية بفضل الذكاء الاصطناعي بسرعة، فمن شأنها أن تزيد كثيرا من مرونة جانب العرض في الاقتصاد. وهذا من شأنه أن يحدث أثرا انكماشيا، تماما مثل ذلك الذي أحدثه نمو الاقتصادات الناشئة -والذي أضاف قدرة إنتاجية هائلة إلى الاقتصاد العالمي- في العقود الثلاثة إلى الأربعة الماضية.
ولكن خلال هذه المرحلة، يبدو مستبعدا أن تتضمن رحلتنا العودة إلى نمط ما قبل الجائحة المتمثل في انخفاض أسعار الفائدة الاسمية والحقيقية، إلى جانب بلوغ معدل 2 في المائة أو أقل منه في مستويات التضخم. فقد ظل الطلب متضائلا على مدى سنوات بعد الأزمة المالية العالمية، وذلك نظرا لفترة مطولة من إصلاح الميزانيات العمومية، وخاصة في قطاع الأسر المعيشية. ولكن الدعم المالي خلال الجائحة حال دون وقوع أضرار مماثلة، لذلك يمكن تحفيز الطلب بسهولة اليوم. ونظرا لأن التحولات البنيوية أدت إلى تقليص قدرة جانب العرض على الاستجابة لضغوط جانب الطلب، فسوف تكون هناك حاجة إلى تحديد أسعار فائدة حقيقية أعلى لإبقاء الطلب -ومن ثم القوى التضخمية- تحت السيطرة. وإذا انخفضت أسعار الفائدة الحقيقية إلى ما دون 0.75 في المائة، فمن المحتمل أن يرجعنا مسارنا إلى التضخم المرتفع.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بنک الاحتیاطی الفیدرالی أسعار الفائدة جانب العرض فی المائة
إقرأ أيضاً:
الذهب يتراجع بسبب الهدنة التجارية بين الولايات المتحدة والصين وتباطؤ التضخم
تراجعت أسعار الذهب بالأسواق المحلية خلال منتصف تعاملات اليوم الأربعاء، بفعل تراجع الأوقية بالبورصة العالمية، نتيجة ضعف الطلب، عقب الهدنة التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وتباطؤ معدلات التضخم الأمريكية، وفقًا لتقرير منصة «آي صاغة».
قال سعيد إمبابي، المدير التنفيذي لمنصة «آي صاغة» لتداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت، إن أسعار الذهب بالأسواق المحلية تراجعت بنحو 65 جنيهًا، مقارنة بختام تعاملات أمس، ليسجل سعر جرام الذهب عيار 21 مستوى 4575 جنيهًا، في حين تراجعت الأوقية بقيمة 59 دولارًا، لتسجل مستوى 3191 دولارًا.
وأضاف، إمبابي، أن جرام الذهب عيار 24 سجل 5229 جنيهًا، وجرام الذهب عيار 18 سجل 3921 جنيهًا، فيمَا سجل جرام الذهب عيار 14 نحو 3050 جنيهًا، وسجل الجنيه الذهب نحو 36600 جنيه.
ووفقًا للتقرير اليومي لمنصة «آي صاغة»، ارتفعت أسعار الذهب بالأسواق المحلية بقيمة 35 جنيهًا خلال تعاملات أمس الثلاثاء، حيث افتتح جرام الذهب عيار 21 التعاملات عند مستوى 4605 جنيهات، واختتم التعاملات عند مستوى 4640 جنيهًا، في حين ارتفعت الأوقية بقيمة 12 دولارًا، حيث افتتحت التعاملات عند مستوى 3238 دولارًا، واختتمت التعاملات عند مستوى 3250 دولارًا.
أوضح، أن أسعار الذهب بالأسواق المحلية تراجعت بفعل تراجع الأوقية بالبورصة العالمية، وتراجع سعر صرف الدولار، لاسيما مع استمرار تراجع الطلب.
أضاف، أن الذهب تعرض لعمليات بيع مكثفة بالأسواق العالمية، بفعل انحسار التوترات الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وصدور بيانات التضخم الأمريكية.
تراجع مؤقت
تراجع سعر الذهب عقب انحسار مؤقت في التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث اتفقت الدولتان على تعليق الرسوم الجمركية المتبادلة لمدة 90 يومًا خلال محادثات في جنيف، كما أعلن البيت الأبيض عن خفض الحد الأدنى للشحنات منخفضة القيمة من الصين، وقد أدى هذا التحسن إلى ارتفاع في أسواق الأسهم العالمية، مما قلل من الحاجة إلى استثمارات الملاذ الآمن التقليدية مثل الذهب والفضة.
وكشفت بيانات اقتصادية، تراجع معدلات التضخم الأمريكية لشهر أبريل، ما دفع الأسواق إلى التوجه نحو الأصول عالية المخاطر، وخفف المخاوف بشأن تشديد نقدي حاد، ويتوقع المستثمرون الآن أن يُجري الاحتياطي الفيدرالي تخفيضات في أسعار الفائدة بنحو 53 نقطة أساس بدءًا من سبتمبر.
في حين أصدر دويتشه بنك تقريرًا يفيد بأن تخفيف القيود التجارية على الصين لن يُؤدّي إلى خفض سريع لأسعار الفائدة من قِبَل الاحتياطي الفيدرالي.
وخفض سيتي بنك سعر الذهب المستهدف لثلاثة أشهر من 3500 دولار إلى 3150 دولارًا، مشيرًا إلى انخفاض المخاطر الجيوسياسية واحتمال استقرار قصير الأجل بين 3000 و3300 دولار، ويتوقع البنك استمرار الطلب على صناديق الاستثمار المتداولة مدفوعًا بارتفاع المدخرات، ولكنه أشار أيضًا إلى ضغوط هبوط ناجمة عن ضعف الطلب على المجوهرات وزيادة المعروض.
وفي سياق متصل، تترقب الأسواق صدور بيانات مؤشر أسعار المنتجين الأمريكي، ومبيعات التجزئة الأمريكية؛ وطلبات إعانة البطالة الأسبوعية الأمريكية، ومسح إمباير ستيت الصناعي، ومسح التصنيع في فيلادلفيا، وتصريحات رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول في واشنطن العاصمة، غدًا الخميس، والمسح الأولي لثقة المستهلك لجامعة ميشيجان بعد غد الجمعة.