الناظر بعمق إلى الهجرة النبويّة بمعانيها العظيمة يراها بنسخة جديدة في غزّة، هنا تتجلّى الهجرة ودونها أيّ مكان آخر يريد أهله أن يجسّدوا الهجرة ولو بمعنى واحد من معانيها، لننظر ونرَ:
فالهجرة هي بداية فكرة تمّ الانحياز التامّ لها إيمانا عقليا وشعورا قلبيّا وسلوكا عمليّا، ثم تم الاستعداد التام للتضحية من أجلها مهما بلغ حجم التضحيات بالروح والمال وكلّ ما يملكه صاحب هذه الفكرة ماديّا ومعنويّا.
وهذا ما فعله رسول الله ودعا أتباعه أن يفعلوه، فكرة وأيّ فكرة، فكرة من شأنها أن تحقّق حريّة الإنسان وكرامته، وأن تقيم العدل وتقطع دابر الظلم والفساد والجهل والضلال، فكرة هي بمثابة النور الذي سيبدّد كلّ الظلمات والآصار والأغلال الموروثة والمغروسة بتجذّر وعمق، فكرة ستحدث ثورة وانقلابا كاملا على كلّ ما كانت عليه الأوضاع التي تلخّص بكلمة واحدة: الحضيض الحضاري الآسن، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديّا وتربويا وثقافيا، ستبدل ذلك برقيّ حضاري ونهضة في جميع ميادين الحياة.
لذلك كانت الهجرة تسير بخطّين؛ خطّ عملي واضح للعيان بمسار رسول الله وصاحبه ومن تبعه من مكة إلى المدينة، وكان هناك مسار مواز في عالم الفكرة الجديدة التي تتعزّز وتتجذّر، فيهاجر أصحابها إليها سيرا حثيثا، طاردين بذلك كل الموروث الجاهلي وراحلين منه إلى عالم الفكرة الجديدة التي منها ستنطلق أمّة عزيزة مجيدة حرّة كريمة ذات سيادة وريادة وقيادة للبشرية جمعاء.
إذا كان المسار الظاهر في جغرافية محدّدة المعالم (من مكة إلى المدينة)، فإن المسار الثاني مسار عالميّ يؤسس لنهضة أمّة ستقود البشرية وتهاجر بها إلى معالم هذه الفكرة، وهو ما نجحت به بالفعل وتمّت الهجرة بقيادة رسول الله وأتباعه من بعده لتحقّق الهجرة بكلّ أبعادها
فإذا كان المسار الظاهر في جغرافية محدّدة المعالم (من مكة إلى المدينة)، فإن المسار الثاني مسار عالميّ يؤسس لنهضة أمّة ستقود البشرية وتهاجر بها إلى معالم هذه الفكرة، وهو ما نجحت به بالفعل وتمّت الهجرة بقيادة رسول الله وأتباعه من بعده لتحقّق الهجرة بكلّ أبعادها، وقد حقّقت فيما بعد ديار الإسلام المهجر الذي يُهاجر إليه كلّ من يريد أن يتعلّم علوم ومعارف الحضارة الإنسانية العالمية التي سادت على البشرية جمعاء.
غزة اليوم تسير ذات الخطى:
الفكرة آمنت بها ثلّة من الشباب، هي ذات الفكرة بذات المفاهيم الحركية والدلالات الثورية، فهموا فكرة التوحيد على أنّها طريقة عمل لتحقيق الحريّة، هي خميرة ثورة لا تبقي في النفس أية ذرّة من مهانة أو خضوع أو استسلام لغير الله، استعداد تام لحملها وللتضحية الشاملة من أجلها، بالنفس والمال والولد والبيت وكلّ شيء، وسارت بهم الهجرة مسارين كما كانت في سيرتها الأولى؛ المسار ذا المعالم الجغرافية المحدودة، وبما أوتوا من جهد وبأس، في نطاق قطاع غزّة ومحيطه، في تدافع المهاجرين الحرّ لهذه الكلمة العظيمة. وقد نجحوا في ذلك أيّما نجاح، طاردهم المجرمون من كل أنحاء العالم وجاءتهم أمريكا وأوروبا مع قصّاص الأثر؛ هذه الدويلة المارقة، حتى إذا وقفوا على فتحة النفق، بمكرهم الذي لا يرون فيه مكر الله، وليردّ الله كيدهم ويجعله في نحرهم. ولترتفع قولة الحق الأولى: لا تحزن إن الله معنا.
لقد هاجر مهاجرو غزة هجرة عملية كفكرة أمنوا بها وضحّوا من أجلها بكل غاليهم ونفيسهم، وكانت لهم الهجرة الثانية لتكشف زيف الفكرة التي يقوم عليها هذا العالم المهاجر منذ زمن طويل مع الشيطان وإلى حيث يريد لهم الشيطان، إذ ماذا يعني تماهي سياسات دول الاستكبار العالمي التامّ مع هذا الكيان وأهدافه الشريرة على مستوى المنطقة ملتقى الحضارات والعالم أجمع؟ هذه هجرة هذا العالم المجرم والحضارة الإنسانية الفاسدة.
غزّة تعيد البوصلة إلى حيث الهجرة الصحيحة نحو القيم الإنسانية الصحيحة، العدالة الحقيقية ورفع الظلم وتحقيق حرية الشعوب المستعبدة والمستحمرة، شعوب يحكمها حكّام مجرمون ليس لهم وظيفة إلا خدمة أهداف الاستعمار في بلدانهم، يستحمرون شعوبهم وهم مُستحمرون لمن يحفظ لهم عروشهم ويديم لهم سلطانهم. هذه المعادلة التي دكّت غزة أركانها بضرب رأس الأفعى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وستبقى تداعياتها وتفاعلاتها طيلة فترة هذه الحرب التي يصرّ فيها معسكر الباطل على باطله، غزّة هاجرت وذهبت بالهجرة إلى روحها وعنفوانها ودخلت دائرة فعلها، وضربت بمشروع هجرتها تلك الهجرة الظالمة التي جعلت الإنسان غريبا في وطنه وجعلت الغريب مستوطنا في وطن ليس لهويصر فيها معسكر الحق على نقض عرى هذه الحالة البليدة من الاستعمار والاستحمار، ولن يتوقّف هذا الصراع، وإن توقّفت الحرب فستبقى الهجرة الصادقة هي البوصلة التي تشير إلى الطريق وتفشل الهجرة الكاذبة التي سارت بها الأمّة نحو جحيم هذا الغرب المجرم.
كان بإمكان غزّة ومقاومتها أن تحيي احتفال الهجرة بالطريقة التي تميت الهجرة كما هو الحال في أغلب الدول العربية والإسلامية، تقرأ قصة الهجرة كحدث تاريخي في قديم الزمان ويترنّم الناس بما تجود به حناجر المنشدين، ويحضر ذلك الوفد الرسمي للدولة في الصف الأول ليتمظهر بشكل الهجرة بعيدا عن جوهرها، بينما البلاد يعشعش فيها الشيطان بكلّ تفاصيله.. البلد مستلب حضاريا وسياسيا واقتصاديا وأسواقه تغصّ ببضائع أعدائه، الأجساد حاضرة والعقول غائبة والإرادة ميّتة والعزائم غائبة. بأية هجرة هؤلاء يحتفلون؟
غزّة هاجرت وذهبت بالهجرة إلى روحها وعنفوانها ودخلت دائرة فعلها، وضربت بمشروع هجرتها تلك الهجرة الظالمة التي جعلت الإنسان غريبا في وطنه وجعلت الغريب مستوطنا في وطن ليس له. غزّة ومحور المقاومة وقفا بطوفان عظيم ليواجه جحافل ظلامهم، انطلق بكلّ ما أوتي من قوّة وبأس وعزم، تسعة شهور من الحرب الضروس من قبل العالم كلّه ومن دار في فلكه من منافقين وأعراب، لن تنطفئ نار هذه الحرب إلّا بطلوع البدر وبزوغ فجر الحريّة لهذه الامة، أمّة الهجرة بقيادة غزّة بإذن الله.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الهجرة التضحيات غزة غزة الهجرة تضحيات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة رياضة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة رسول الله
إقرأ أيضاً:
من السرد إلى الفعل الحضاري.. السيرة النبوية برؤية تجديدية.. قراءة في كتاب
إنّ السيرة النبوية ليست مجرد سجل تاريخي لأحداث مضت، بل هي مرجعية شاملة لصياغة إنسان الحضارة، وبناء الأمة الرسالية. فمن خلال شخصية النبي محمد ﷺ تتجسد أعظم نماذج القيادة التي تمزج بين الهدي الرباني، والبناء المجتمعي، وبين الإيمان العميق بالله تبارك وتعالى، والواقع الإنساني المتحرك. وفي زمن تتعالى فيه أصوات التشكيك في جدوى المرجعيات الدينية في العصر الحديث، يبرز كتاب الشيخ الدكتور علي محمّد الصَّلابي "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي ﷺ" كاجتهاد دعوي علمي يسعى إلى تقديم السيرة في لبوسها الحضاري الشامل، موصلًا بين الإرث النبوي، ومهام التجديد الفكري والنهضوي في الواقع الإسلامي الراهن.
وهذه المراجعة النقدية تسعى إلى قراءة الكتاب بمنهجية فكرية شاملة، تراعي البعد المعرفي والدعوي معًا، منطلقة من أن السيرة النبوية ليست مادة للمطالعة الروحية فحسب، بل هي "نموذج حضاري للتنزيل" يصلح لبناء إنسان متوازن في روحه وفكره وسلوكه. وستتناول القراءة تحليل المنهج الذي اعتمده المؤلف في مقاربة السيرة، ومدى نجاحه في تقديم شخصية النبي ﷺ بوصفها مرآة لقيم العدل، الرحمة، والكرامة الإنسانية، وفق رؤية معاصرة تخاطب وجدان الإنسان الحديث دون أن تفقد أصالتها الربانية.
وفي سياق الحاجة الماسة إلى تجديد أدوات قراءة السيرة النبوية وتفعيلها في الوعي المعاصر، يأتي كتاب "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي محمد ﷺ" للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي كإسهام تأصيلي يسعى إلى تجاوز النمط التقليدي في تناول السيرة، متجهًا نحو تحليل مقاصدي مركب، يربط بين الوقائع التاريخية وبين الأنساق الحضارية والمعاني الكونية التي بُعث النبي بها ﷺ.
ويندرج هذا الكتاب ضمن الكتابات العميقة العلمية التي تحاول استثمار السيرة النبوية بوصفها مشروعًا حضاريًا متكاملًا، لا باعتبارها فقط نصًا تاريخيًا يختزن أحداثًا مضت، بل باعتبارها مرجعية قيمية تصلح لإعادة صياغة الإنسان المسلم فكراً وسلوكاً في العصر الحديث.
يعتمد المؤلف منهجًا وصفيًا - تحليليًا يُزاوج بين التحقيق التاريخي والتأصيل القيمي، مستندًا إلى شبكة مرجعية واسعة من مصادر السيرة والحديث والفقه والتفسير، مثل: السيرة النبوية لابن هشام، وزاد المعاد لابن القيم، والبداية والنهاية لابن كثير، وتفسير الطبري، والتفسير المنير للزحيلي، وإحياء علوم الدين للغزالي، والأخلاق الإسلامية لحبنكة الميداني، إلى جانب دراسات سوسيولوجية ومعاصرة تعكس وعي المؤلف بالتحديات الفكرية والتربوية الراهنة.
أهمية الكتاب ومجالات تأثيره
تتجلى أهمية الكتاب في كونه لا يقدّم قراءة سردية للأحداث، بل يُفعّل منهجية القراءة المقاصدية للقيم التي أرساها النبي ﷺ، والتي بُنيت عليها لبنات الحضارة الإسلامية في أبعادها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية. فهو يعزز الانتقال من التلقي العاطفي للسيرة إلى الفهم الحضاري الواعي، ويمنح الدعاة والمربين والمثقفين أداة تحليلية لفهم جوهر الرسالة المحمدية في ضوء متطلبات الإنسان المعاصر. وعليه، يُسهم الكتاب في:
ـ تأصيل نموذج إنساني متكامل يستلهم من النبوة منهج التزكية والإصلاح.
ـ إثراء الدراسات الإسلامية برؤية منهجية متوازنة تُراعي السياق التاريخي دون الانفصال عن الحاضر.
ـ تقديم إجابات عملية لقضايا مجتمعية معاصرة، كالعدالة الاجتماعية، والحريات، والتعايش، مستلهمة من قيم السيرة لا من تنظيرات مستوردة.
دور الكتاب في تجديد الخطاب الإسلامي
يُعيد الكتاب تعريف دور الرسول النبي ﷺ كـ"رسول حضارة" لا فقط كمبلّغ للوحي، ويُبيّن كيف أسس ﷺ مجتمعًا مدنيًا فاعلًا يقوم على مبادئ التعددية والعدالة والرحمة واحترام الكرامة الإنسانية. ومن خلال تحليل مواقف مفصلية كـ"حلف الفضول" و"وثيقة المدينة"، و"فتح مكة"، يُبيّن المؤلف أن المشروع النبوي لم يكن فقط إصلاحًا عقديًا، بل تحولًا عميقًا في بنية الإنسان والعمران. وإذ يُظهر الكتاب الرسول الإنسان في تعامله مع غير المسلمين، والأطفال، والنساء، والأسرى، والفقراء، والأغنياء، فإنه يُبرز رسالة الإسلام بوصفها دعوة للبشرية إلى التحرر من الظلم والجهل والطغيان، لا بوصفها مجرد طقوس أو شعائر.
المنهج العلمي والتحليلي للكتاب
يمتاز الكتاب بخصائص منهجية دقيقة، منها:
ـ التكامل المنهجي: الجمع بين الوصف التاريخي والتحليل القيمي والسوسيولوجي.
ـ الاستقراء المقاصدي: اِستخراج المعاني الكبرى من التفاصيل الجزئية، وربطها بسياق الإنسان المعاصر.
يُعيد الكتاب تعريف دور الرسول النبي ﷺ كـ"رسول حضارة" لا فقط كمبلّغ للوحي، ويُبيّن كيف أسس ﷺ مجتمعًا مدنيًا فاعلًا يقوم على مبادئ التعددية والعدالة والرحمة واحترام الكرامة الإنسانية.ـ التحليل السياقي: التعامل مع الأحداث النبوية في سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ـ الرؤية التجديدية: إعادة تقديم النموذج النبوي بوصفه قابلًا للتطبيق في الواقع المعاصر، مع الحفاظ على الثوابت العقدية والأخلاقية.
القيم الإنسانية والرؤية الأخلاقية في كتاب "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي ﷺ"
يُعد كتاب الدكتور علي محمد الصلابي "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي محمد ﷺ" محاولة علمية تأصيلية لتقديم السيرة النبوية لا باعتبارها سجلًا سرديًا لتاريخ الدعوة فحسب، بل باعتبارها مشروعًا إنسانيًا متكاملًا يعكس طاقة الإسلام الأخلاقية والحضارية، وينقل صورة النبي ﷺ بوصفه قائدًا مؤسسًا للإنسان الجديد، والرحمة المهداة للعالمين.
القيم الإنسانية في شخصية النبي ﷺ
ينطلق الكتاب من تصور أن الإنسان هو محور الرسالة النبوية، وأن القيم التي تمثلت في شخصية الرسول ﷺ لم تكن مجرد صفات فردية، بل أسسًا لمنظومة أخلاقية حضارية قابلة للتطبيق على امتداد الزمان والمكان. وقد أبرز المؤلف طيفًا واسعًا من القيم، أهمها:
ـ الرحمة:
شكلت الرحمة حجر الزاوية في السلوك النبوي، سواء في معاملته لأتباعه أو خصومه، أو حتى في رؤيته للبيئة والكائنات الحية. وقد أشار الكتاب إلى موقف النبي ﷺ يوم فتح مكة، حيث قال لقريش": اذهبوا فأنتم الطلقاء"، في لحظة كان فيها قادرًا على الانتقام، لكنه اختار العفو ليؤسس لمفهوم "الرحمة المنتصرة".
كما توسعت هذه الرحمة لتشمل الرفق بالحيوان واحترام الطبيعة، من خلال النهي عن تعذيب الحيوان أو قطع الشجر دون حاجة، ما يُشير إلى اتساع الرؤية النبوية لتشمل جميع مظاهر الحياة.
ـ العدل والمساواة:
كرّس النبي ﷺ قيم العدل كقاعدة لحكمه ومعاملاته، دون تمييز بين القرابة أو الانتماء. وقد استشهد الكتاب بقوله ﷺ: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وهو نص يختصر ذروة المساواة بين الأفراد أمام القانون. كما تجلّى البعد المؤسسي للعدالة في وثيقة المدينة، التي نظّمت العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب، ووضعت أسس المساواة القانونية والحقوقية، ما يجعلها واحدة من أوائل الدساتير المدنية في التاريخ.
ـ التعايش واحترام الآخر:
في معالجة العلاقات بين المختلفين دينيًا، يقدّم الكتاب النبي ﷺ كأنموذج للتوازن بين الهوية الإسلامية والاحترام المتبادل. فقد عقد اتفاقيات مع يهود المدينة تكفل لهم أمنهم وحقوقهم، كما تعامل مع المنافقين بحكمة سياسية تحفظ وحدة المجتمع وتمنع الفتن. هذه السياسات تظهر عبقرية التوازن بين الحفاظ على نسيج المجتمع من جهة، وصيانة الثوابت الدينية من جهة أخرى.
المعاني الأخلاقية في السيرة النبوية
في الجانب الأخلاقي، أظهر الكتاب أن شخصية النبي ﷺ لم تُبنَ على المصادفة أو الظروف التاريخية، بل على تربية ذاتية متكاملة تشكلت منذ الطفولة، وامتدت إلى أفعال النبوة والمجتمع.
ـ الأمانة والصدق:
قبيل البعثة، كان يُلقب بالصادق الأمين، مما يعكس رسوخ القيم الأخلاقية في وعيه وسلوكه، قبل أن تُصبح رسالة للعالمين. وتُعد هذه المرحلة تمهيدًا أخلاقيًا للرسالة، تُؤكد أن من لا يملك مصداقية أخلاقية، لا يمكن أن يحمل دعوة حضارية.
ـ العمل كقيمة:
اشتغل النبي ﷺ في الرعي والتجارة، وهي أعمال قد يُنظر إليها من البعض بأنها "دنيوية"، لكن الكتاب يبيّن أنها كانت جزءًا من التربية النبوية، فالنبي مارس العمل بنفسه وكرّم العاملين، ورسّخ مبدأ أن العمل عبادة، ووسيلة للاستغناء عن الناس وبناء الذات.
ـ الحوار وآدابه:
لم يكن الخطاب النبوي دعويًا خطابيًا فقط، بل حواريًا منهجيًا. يبيّن الكتاب كيف مارس النبي ﷺ فن الحوار مع المسلمين واليهود والمشركين، وأظهر أدب الاستماع والرد والتفسير، مما يجعله نموذجًا للحوار الحضاري، لا للجدل العقيم.
الرؤية المتكاملة للكتاب
تنبثق أهمية الكتاب من تقديمه رؤية شاملة للسيرة النبوية كمنظومة حضارية متعددة الأبعاد، يمكن تلخيصها في أربعة مستويات متكاملة:
ـ البعد الروحي:
يركز الكتاب على أن السيرة النبوية تُربّي الإنسان على الصدق مع الله، وتُعيد ترتيب العلاقة بين المخلوق والخالق، بما يعزز الإيمان المقرون بالسلوك، لا الإيمان المجرد.
ـ البعد الاجتماعي:
يُظهر الكتاب النبي ﷺ كمصلح اجتماعي بامتياز، عمل على بناء مجتمع متكافل، عادل، يُراعي الفئات الضعيفة، ويُعزز قيم التكافل والتراحم في المجتمع الإسلامي الناشئ.
ـ البعد السياسي:
يُبرز الكتاب أن النبي ﷺ كان مؤسساً لدولة تقوم على الشورى والعدالة والحكم الرشيد، لا على الفردية أو القهر، ويُعيد الاعتبار للفعل السياسي في السيرة بعيدًا عن النظرة الروحية المحضة.
ـ البعد الاقتصادي:
سلّط المؤلف الضوء على المنظومة الاقتصادية الإسلامية كما جسّدها النبي ﷺ، القائمة على حماية الحقوق، وتشجيع المبادرة، ومحاربة الاحتكار، وتكريس مبدأ الزكاة كوسيلة لإعادة توزيع الثروة وضمان كرامة الفقراء.
ـ الهيكل المفاهيمي ومحتوى الكتاب: بنية منهجية لرؤية حضارية إنسانية
ينتظم كتاب "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي محمد ﷺ" للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي ضمن بنية معرفية محكمة، يتدرج من التمهيد التاريخي إلى التحليل القيمي، ومن التأسيس الواقعي إلى التجريد الحضاري، مبرهنًا على أن السيرة النبوية ليست متحفًا للذكريات، بل خارطة طريق لصناعة الحضارة وبناء الإنسان. ويُقسم الكتاب إلى ستة فصول محورية، يسبقها فصل تمهيدي تأسيسي، ويختتم بجملة من الاستنتاجات المنهجية التي تُشكّل البُعد التأصيلي للرؤية الفكرية فيه.
ـ استعراض تحليلي لفصول كتاب "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي ﷺ"
شكلت الرحمة حجر الزاوية في السلوك النبوي، سواء في معاملته لأتباعه أو خصومه، أو حتى في رؤيته للبيئة والكائنات الحية. وقد أشار الكتاب إلى موقف النبي ﷺ يوم فتح مكة، حيث قال لقريش": اذهبوا فأنتم الطلقاء"، في لحظة كان فيها قادرًا على الانتقام، لكنه اختار العفو ليؤسس لمفهوم "الرحمة المنتصرة".يقدم الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي محمد ﷺ" رؤية منهجية متكاملة للسيرة النبوية، بوصفها مشروعًا حضاريًا شاملًا، لا مجرد وقائع تاريخية. ينقسم الكتاب إلى فصل تمهيدي وستة فصول رئيسة، تتدرج من التحليل الحضاري للمجتمعات قبل الإسلام، إلى استقراء القيم النبوية في مختلف مراحل الدعوة.
ـ الفصل التمهيدي يعرض الأوضاع الاجتماعية والسياسية والدينية قبل البعثة، في الحضارات الكبرى وجزيرة العرب، مبرزًا حاجة الإنسانية آنذاك لرسالة قيمية متكاملة.
ـ الفصل الأول، وهو يعالج القيم الأخلاقية والإنسانية التي أتى بها الإسلام، مثل الشمولية والعدالة والتسامح، ويبين كيف تجسدت تلك القيم في التشريع والسلوك الإسلامي.
ـ الفصل الثاني، وهو يستعرض سيرة النبي ﷺ قبل البعثة، مع إبراز أثر نشأته وصفاته الأخلاقية، وأعماله في المجتمع كمقدمة للرسالة.
ـ الفصل الثالث، وهو يركّز على تجليات القيم الإنسانية في شخص النبي ﷺ قبل الوحي، مثل الأمانة والصدق، من خلال مواقف مثل حلف الفضول.
ـ الفصل الرابع، وهو يدرس القيم التي أسسها النبي في العهد المكي، مثل التربية الإيمانية والوفاء، والهجرة إلى الحبشة كنموذج حضاري في حماية اللاجئين.
ـ الفصل الخامس، وهو يعرض التحول المدني في المدينة، من خلال وثيقة المدينة، المؤاخاة، الإدارة العادلة، والتسامح مع أهل الكتاب.
ـ الفصل السادس، وهو يتناول أخلاق النبي ﷺ كقدوة إنسانية، ويحلل خطبة الوداع كوثيقة حقوقية شاملة.
ـ ويختتم الكتاب باستنتاجات تؤكد عالمية الرسالة، وضرورة استلهام القيم النبوية لمواجهة أزمات الإنسان المعاصر، في ظل توازن فريد بين الروح والمادة، والإيمان والعمل، والمبادئ والتطبيق.
إن كتاب "الأبعاد الحضارية والإنسانية في شخصية النبي ﷺ" ليس مجرد عرض تأريخي، بل قراءة واعية لتجربة حضارية تأسست على الروح والقيم قبل أن تُترجم إلى سلطة ونظام. يمثّل الكتاب في بنيته وفصوله إطارًا نظريًا ومنهجيًا لإعادة بعث السيرة كطاقة أخلاقية في زمن الاستهلاك والتشظي القيمي، وهو بذلك يفتح أفقًا تجديديًا أمام الباحثين والدعاة والمصلحين لإعادة الوصل بين النموذج النبوي والواقع الإنساني المعاصر.
مرفق كتاب الأبعاد الإنسانية والحضارية في شخصية النبي ﷺ، متوفر على الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي على الرابط التالي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/727