لجريدة عمان:
2025-05-21@01:47:02 GMT

قراءة في عقل المتطرف

تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT

لم أعتدْ تناول قضايا التطرّف والإرهاب والخوض فيها، ولكن لدي شغف لمعرفة ما يجوب في عقل الإنسان المتطرّف الذي نحتاج إلى تشريح فكره، وفكّ شفرة أفكاره المتطرّفة من زاوية نفسية مترامية الدوافع والتأثيرات، و يأتي في مقدمتها الدافع الديني المغلوط الذي أجزل في شرح مفاصله وتشريحه الأستاذ بدر العبري في كتابه القيّم «فقه التطرف»، وهنا لا أرغب بالمزايدة في منحى التأصيل الديني المتعلق بالتطرف، ولكن لعّل ما يمكن أن نخوضه في قراءتنا هذه شيئا من التأملات التي يمكن تصورها في فهم عقل المتطرف.

أذكر منذ سنوات طويلة عندما برز اسم تنظيم «القاعدة» -قبل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها- أنني كنت أتساءل عن مغزى تشكّل مثل هذه المنظمات الإرهابية التي أثبتت في كثير من حوادثها أنها ذات نزعة متطرفة عبر مهاجمتها للمجتمعات الإنسانية المدنية التي لا تملك أي تداخل مع العمل العسكري أو السياسي؛ فرأينا تفجير المساجد ودور العبادة ومهاجمة الأبرياء العزّل أفرادا وجماعات دون أيّ غاية واضحة إلا لبثّ الخوف وإحداث القتل والتدمير، ولم تلبث أن تقلّصَ وجود ما يسمى بـ«القاعدة» ليحّل محله ما نعرفه اليوم بـ«داعش» الذي لم يختلف عن سلفه من حيث الأهداف والنزعة المتطرفة، والذي تزامن ظهوره مع أحداث ما يُعرف بـ«الربيع العربي» الذي لم نرَ له أهدافا واضحة؛ ففي معظم مشاهده -التي اتضحت ملامحها بعد عدّة سنوات- لم يجلب إلا الخراب السياسي والاقتصادي للدول والشعوب، ويكاد لا نرى ثورة إلا ويتبعها ظهورٌ للمنظمات المتطرفة التي بات من السهل استنتاج تحديد منابع تمويلها ودعمها للامحدود؛ لتتضح الصورة أن لهذه المنظمات الإرهابية وجهين؛ فيمثل الوجه الأول المنبع الذي يُعزى إليه تشكيل نواة هذه المنظمات وتمويلها، ويمثل الوجه الثاني أفراد هذه المنظمات التي يمكن اعتبار الشريحة الأكبر منها من المغرر بهم عبر وسائل عدة منها المادية والفكرية، ولا أريد التفصيل في الوجه الأول قدر ما نرغب في طرح قراءة خاصة عن الوجه الثاني لهذه المنظمات التي تمثل العقل المتطرف؛ لنحدد بعض مفاصله الفكرية والنفسية الدافعة لتشكيله وتحويله إلى آلة قتل غير عابئة بالمبادئ الإنسانية والدينية، وقبل أن نلجَ إلى هذا الشق نحتاج سريعا العودة إلى الوجه الأول الذي يتمثل في سؤال بسيط: من يقف خلف هذه المنظمات المتطرفة ويموّلها؟ وللإجابة على السؤال يمكن للقارئ أن يبحث في مصادر مرئية ومكتوبة كثيرة في محركات البحث التي سيجدها تؤكد أن هذه المنظمات صهيونية التأسيس والمنشأ حتى وإن التصقت اسما وفكرًا ببعض المدارس الدينية، ولكن حالها حال الفيروسات التي تبحث لها عن ملاذ يمكن اختراقه واستيطانه لاستعداده المسبق، ومع ذلك لا يمكن أن يستمر وجود مثل هذه المنظمات دون وجود التمويل المستمر والقاعدة الشعبية المؤيدة.

نعود إلى محور نقاشنا الرئيس المتعلق بالعقل المتطرّف من حيث سبل تأسسه ونزعاته التعصبية؛ فنجد أن العقل المتطرّف في أصله يملك الاستعداد المسبق لقبول فكرة التطرّف، والذي يكون في غالبه نتاج النزعة النفسية وتقلباتها التي تعتصر بين الرغبة بالبوح بالألم وتحريره بصوره الكثيرة -منها الجنون والأمراض النفسية- وبين الكبت -الذي يجعل من الإنسان يخوض معاركَ صامتة مع الصراعات النفسية تترجم إلى ممارسات مناقضة أو تبنّي أفكار ضالة-، وكذلك يأتي -في حالات أخرى- نتاج البيئة المؤيدة لفكرة التطرف المغذية لبذرة التعصب الديني أو المذهبي أو العرقي؛ فمع الحالة الأولى، يحاول الإنسان ذو النزعات النفسية المضطربة أن يمارس دورًا مخالفًا للنمط الجمعي الذي يكون في بعض مظاهره في صورة إدمان أو بحث عن وسائل يصب فيها نقمته على المجتمع لأسباب أكثرها وهمية، وفي كلا الحالتين يكون هذا المضطرب النفسي فريسة سهلة لهذه المنظمات التي تعمل على استدراجه تحت غطاء ديني أو مذهبي مضلل، وفي هذه الحالة من السهل أن نقول إن التطرف يزداد نشاطه ورواجه بين المجموعات ذات الاستقرار النفسي الضعيف، وهذا ما يحدث أيضا في الأوساط المجتمعية ذات النشأة الدينية أو العرقية المتطرفة والمتعصبة التي لا تؤمن بمبدأ التعددية والرأي الآخر. نستنتج من ذلك أن العقل المتطرف فاقدٌ لبُوصلته الإنسانية نتيجة التوجيه الديني الخاطئ الذي ينشط مع الانتكاسات النفسية خصوصا ذات النزعات الإجرامية، منهم أصحاب السوابق والقضايا. في حين ما يثير دهشة البعض أن يكون بعض المنتمين لهذا الفكر المتطرف من لم يُعرف عنهم ميولات إجرامية ونكسات نفسية، وأنهم من أصحاب الدخل الجيد والمستقر؛ فتكون آلية بحثنا في العقل المتطرف وتمحيصها مهمة صعبة تتجاوز توقعات الحس الأمني أو حتى احتمالات خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ فغياب خيوط التطرف تجعل من مهمة تشريح العقل المتطرف غير ثابتة المعايير رغم استقرار كثير من معاييرها مثل التي ذكرناها، ورغم ذلك فالبحث في العقل المتطرف بحاجة إلى جمع كل العناصر المستفيضة من ظواهر التطرف ومستجداته بما في ذلك العناصر النفسية الظاهر منها والمكبوت بما فيها ظاهرة القلق الوجودي وأسئلته الكبرى - التي نحتاج إلى مبحث مستقل لتناولها-، وعنصر البيئة وثقافته الجمعية والشاذة، ويشمل التعاليم الدينية المغلوطة والخطاب الديني الذي يمكن أن يعتري بعض مفاصله أو جميعها عنصر التطرف، والعنصر الاجتماعي والمالي. من الممكن ألا تجتمع كل تلك العناصر أو بعضها عند الإنسان فتشكّل في داخله عقلا متطرفا، ولكن من يقف وراء هذه المنظمات الإرهابية فإنه يجيد فن الإقناع الذي يمكن إعماله -ولو بعد عدّة محاولات- في داخل العقل البشري عبر الشحن التعصبي العاطفي المدعوم بالتأثير الديني المضلل المثير للحمية والمهيّج للعاطفة المزخرف بنيل الثواب؛ لتسخيره إلى آلة قتل لا تستجيب لأيّ منطلقات إنسانية؛ فتعمل كأنها آلة مبرمجة تبحث عن وسيلة تطفئ بواسطتها عقدها النفسية المكبوتة، وتوقن -وهما- أنها تتقرّب إلى الله وتكسب رضاه.

لا تنتهي مهمة البحث في عقل المتطرف وتحديد المسببات التي تقوده إلى التطرف؛ فهي في حالة متجددة نتيجة الظروف والتقدم التقني كما أسلفنا في مقال سابق «المجتمع الرقمي ومواجهة التطرف»، ولكن لابد من المسارعة إلى تطبيق كل الحلول الممكنة التي يمكن أن تسهمَ في دحر التطرف وتقليل مخاطره، وأحد هذه الحلول الممكنة تتبع كل المصادر المؤيدة للتطرف والتعصب سواء الفئات المحرّضة للطائفية عبر خطابها الديني الرسمي أو المستتر أو أصحاب اللغة التكفيرية ونعوتها الطائفية مثل التي نراها في وسائل التواصل الاجتماعي، وحظر الكتب المؤيدة للنزعات المتطرفة، ومعالجة القضايا المجتمعية التي تتعلق بالشأن الاقتصادي والمعيشي، والاهتمام بالصحة النفسية والتوعية بضرورتها، ونشر المبادئ الدينية والأخلاقية السليمة؛ فهناك من يبحث عما يسدّ رغباته الفكرية الداخلية، ويجيب عن أسئلته الوجودية والكبيرة؛ فإن لم يجد لبلوغها سبيلا كان لهذه المنظمات السبيل إلى اقتناصها واستغلال فراغها عبر منهج التضليل وإخضاع العقل إلى سلطة التطرف.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه المنظمات المتطر ف یمکن أن الذی ی

إقرأ أيضاً:

ورشة عمل في الأقصر لتعزيز الصحة النفسية والرفاه الاجتماعي للشباب

نظمت وزارة الشباب والرياضة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، ورشة تدريبية متخصصة بعنوان “الصحة النفسية والرفاه الاجتماعي للشباب”، استهدفت 40 شابا وشابة من مختلف الجامعات المصرية، وذلك بمدينة الأقصر، ضمن خطة وطنية متكاملة لتعزيز الصحة النفسية لدى الشباب.


وذكرت الوزارة في بيان مساء اليوم أن الورشة نُفذت من خلال الإدارة المركزية للطب الرياضي – الإدارة العامة لعلم النفس الرياضي، وبالتعاون مع منظمة الصحة العالمية- مكتب مصر تحت إشراف الدكتورة رندا أبو النجا، مسؤولة البرامج بوحدة الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي بمنظمة الصحة العالمية – مكتب مصر، التي أكدت في كلمتها الافتتاحية أهمية تضافر الجهود المؤسسية لتوفير بيئة داعمة للصحة النفسية، وتمكين الشباب من أدوات التكيف الإيجابي مع التحديات المختلفة.


وتهدف الورشة إلى رفع وعي الشباب بالتحديات النفسية والاجتماعية، وتزويدهم بالمهارات اللازمة للتعامل الفعّال مع الضغوط الأكاديمية والاقتصادية، وبناء مناخ صحي وآمن نفسيًا في محيطهم الاجتماعي والتعليمي.


وشملت الجلسات التفاعلية محاور متعددة، من أبرزها: مبادئ الصحة النفسية، والتعرف على علامات الإنذار المبكر، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، بالإضافة إلى مهارات التكيف، وبناء المرونة النفسية، والتواصل الفعّال، إلى جانب مناقشة السلوكيات الإدمانية ومخاطر التفكير في الانتحار وسبل الوقاية.

وقدّم الورشة الدكتور مصطفى كامل مستشار الصحة النفسية بمنظمة الصحة العالمية والدكتورة راندا ابو النجا ، وأكدا على أهمية الدور الإيجابي للطلاب في تعزيز ثقافة طلب الدعم، ومواجهة الوصمة المرتبطة بالصحة النفسية، من خلال المبادرات الجماعية والعمل داخل مجتمعاتهم الجامعية.

وأكدت وزارة الشباب والرياضة أن هذه الورشة تأتي امتدادًا لاستراتيجيتها لبناء الإنسان المصري المتكامل، وتعزيز مفاهيم الصحة النفسية والرفاه الاجتماعي للشباب كأولوية وطنية، في إطار رؤية مصر 2030.

يأتي ذلك ضمن خطة وزارة الشباب والرياضة لدعم برامج التوعية والتدخل المبكر في مجالات الصحة النفسية، واستكمالًا لسلسلة من الأنشطة التدريبية التي أُقيمت سابقًا في محافظات الإسماعيلية، الإسكندرية، أسوان، والقاهرة، بهدف تعميم النموذج وتوسيع نطاق المستفيدين من شباب الجامعات.

طباعة شارك وزارة الشباب والرياضة منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية والرفاه الاجتماعي للشباب الجامعات المصرية تعزيز الصحة النفسية

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • البحوث الإسلامية: الإسلام ليس ضد التطور ويواكب كل منجزات العصر
  • شيخ العقل التقى رئيس الأركان
  • أفضل ما يقال بعد صلاة الفجر.. هل الذكر أم قراءة القرآن؟
  • قراءة في زيارة الرئيس الأمريكي للخليج
  • مسن يطعن حفيده بسبب معاناته النفسية في سوهاج
  • ورشة عمل في الأقصر لتعزيز الصحة النفسية والرفاه الاجتماعي للشباب
  • الحرب على غزة تربك البنية النفسية لقوات الجيش الإسرائيلي
  • العقل زينة
  • غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء