سودانايل:
2025-06-21@16:42:08 GMT

خطوط البرهان الحمراء (ها ها ها)!!

تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT

عبدالله مكاوي

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

البرهان وحميدتي احد منتجات نظام الانقاذ الاسلاموي الفاشي، بعد تمكنه في البلاد عقب انقلاب يونيو 89م المشئوم. وكونهما يمثلان خلاصة ذلك المشروع، فهما اصدق من يجسد دوافعه وقيمه وسلوكياته. والحال كذلك، لا نستغرب ان السودان لم يشهد لهما مثيل، في الكذب والنفاق والجهل والطمع وضمور الحساسية المجتمعية.

وهما في سبيل المصلحة الذاتية علي استعداد لارتكاب افظع الابادات في حق شعبهم وغيرهم من الشعوب دون ان يطرف لهم جفن. ومن هذه الوجهة لا فرق بينهما والكوارث الطبيعية التي تلحق بالدول والمجتمعات من الخسائر، ما يعجز كل تصور عن توقعه او لاحد قبل به.
ونسبة لتجردهم من القيم الانسانية والاعراف المجتمعية، فهم مهيئوون سلفا علي خوض صراع السلطة بكافة السبل الملتوية والبقاء فيها بكل الاساليب القذرة. وبسبب ضحالة وعيهم والشعور بالضعة والاحتقار، تؤول السلطة علي يديهم الي مجرد وسيلة للترفع والمباهاة والفرعنة، وآلية لتلبية الرغبات وانفاذ الشهوات، واداة عنف وارهاب لفرض السطوة والتسلط علي الآخرين.
لكل ذلك لو توفرت ادني شروط العدالة، لكان نصيب هؤلاء القتلة هو المقصلة، جزاءً وفاقا لما ارتكباه من فظائع في حق الابرياء ودمار بنية وتماسك الدولة. ولكن في البلدان (الحظها عاثر) كما عبر حميد، وتخضع لسلطة البندقية والحكم العسكري الارهابي، تختل اسس العدالة كجزء من حالة خلل عامة تطال كل شئ. والاسوأ من ذلك، انهما يطرحا انفسهما كجزء من حل حروبات ابادة اشعلوها بايديهم، وفوضي شاملة اسهموا فيها بنصيب الاسد، بل وبكل جرأة يتحدثون بلسان الشعب الذي اذاقوه الامرين! واذا قبلنا ذلك بمنطق القوة الباطشة التي تخدم مصلحتهما حصرا، غض النظر عن مصالح بقية مكونات المجتمع، علي اعتبارها خارج الحسابات، فكيف يتسني لهكذا وضعية مختلة ان تجد لها انصارا او من يؤيدها او يبرر جرائمهما او يشجع اطماعهما؟ وبالطبع إلا في حالة واحدة ان يكون اولئك المبرراتية والانصار من ذات طينتهم (ذوات الدم البارد والذمم الخربة)؟!
ولكن ذلك لا يمنع التعامل معهما بوصفهما اشرار يسيطران علي قوات باطشة وطيعة، ومن ثمَّ قادرة علي الحاق الاذي بالمواطنين وتدمير الوطن. اي التعامل مع الواقع كما هو، لكف شرهم وتحجيم اذاهم باكبر قدر، ومن ثمَّ السعي لتغيير موازن القوي المختل بالتي هي اسلم. وهو ما يستوجب بدوره الصبر الجميل وطول النفس (فن الممكن)، وليس المجازفة بتحدي اطماع هؤلاء الوحوش الكاسرة من غير استعدادٍ كافٍ (اوضاع مستقرة)، لتتعمق المأساة ونفقد الوطن للابد، مع كم من الفظائع والانتهاكات غير قابلة للحساب، وبالطبع من دون محاسبة.
وبعد وصول الحرب لمدي بعيد، وتعاظمت كلفتها الانسانية لتصل اصداءها لكافة ارجاء المعمورة، ومع استمرار الوضع في التدهور من دون محاولة جادة للحل. اتت دعوة التفاوض الامريكية لطرفي القتال، بمثابة طوق النجاة الاخير للشعب، للخروج من هذه المحنة باقل الخسائر، عبر الاتفاق علي وقف القتال ووصول المساعدات الانسانية.
وبدل ان يلتقط قادة الجيش هذه الدعوة بتلهف، اذا كانوا فعلا معنيين برفع المعاناة عن الشعب، التي تسببوا فيها بتقصيرهم وعجزهم عن القيام بدورهم. نجدهم وبكل صفاقة تندر ان تحدث في التاريخ، يرفضون الذهاب للتفاوض بمبررات وحجج في غاية الاستهبال، ان لم تكن دليل ادانة في حقهم لو كانوا علي قدر المسؤولية واهل لما يشغلونه من وظائف. وبتعبير آخر تحول مطلب الاستجابة للتفاوض الي وضع الشعب السوداني كرهينة، وابتزاز المجتمع الدولي بمعاناته! اي ما عجز قادة الجيش عن تحقيقه عسكريا (المحافظة علي السلطة وامتيازاتها ومصالح الحلفاء الاسلامويين)، طالبوا المجتمع الدولي بتحقيقه لهم، وإلا دفع الشعب السودان الثمن من حياته واستقراره وسلامة بلاده! من يصدق ان ذلك يمكن ان يحدث علي اي بقعة من كوكب الارض، ولكن مع امثال هؤلاء القادة الرخم والكيزان وقلة حياءهم لا غرابة ولا استغراب! ومن يشكك في ذلك دعونا نراجع هذه المبررات لنعرف مدي جديتها وصدقها:
اولا، تحدث البرهان عن خطوط حمراء، وغض النظر عن انها احد لوازم الانظمة العسكرية لفرض سطوتها دون مراجعة ايًّ كان، إلا اننا نجد وبالمنطق العسكري البحت، ليس هنالك خط احمر اكثر اهمية وحساسية، من الامن القومي، الذي يرتبط ببقاء الدولة وسلامة المواطنين. والحالة هذه، لم يلعب احد بهذا الخط بمثل لعب البرهان وقبله البشير وقوش وقبلهما جميعا التلاعب بالدولة ومؤسساتها بعد انقلاب الكيزان. وابرز وجه لهذا التلاعب هو وجود ورعاية وتضخم مليشيا عائلية ارتزاقية لدرجة موازية للجيش، ان لم تفقه عدة وعتاد علي عهد البرهان. والحالة هذه، ما محنة الحرب الواحشية الراهنة، التي يعانيها الشعب وتمس استقرار وبقاء الدولة الا النتيجة الحتمية لهذا الخطأ/الخيانة الفادح/ة الذي/التي ارتكبته هذه القيادات الطامعة التافهة المستهترة. اما جذور هذا الخطأ الكارثي، فمرده شرذمة الاسلامويين التي استولت علي السلطة عبر انقلاب عسكري، لتُحدث حالة من الازاحة لمفهوم الامن القومي، من الارتباط بحماية الدولة الي حماية السلطة المغتصبة، والتي تحولت بدورها لعجل مقدس، تُقدم له كل فروض الطاعة وتُسخر له مؤسسات الدولة ومواردها، وتُعدل من اجله القوانين والنظم وقيم واعراف المجتمع. اي ما حدث هو أسوا افرازات جريمة المشروع الحضارى (نتاج الخيال المريض والنفس الأمارة بالسوء للملعون الترابي، وتطبيقات تابعه الحاقد الغتيت علي عثمان طه).
ثانيا، الحديث عن تربص الدول الاقليمية من قبل البرهان يفوق قلة الحياء مصيبة، لان البرهان نفسه من ذهب خفية ومن وراء ظهر شركاءه في حكومة الفترة الانتقالية، ليقابل نتنياهو ويسعي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ويتواصل معهم سرا وعلنا، ويفتح لهم البلاد علي مصراعيها، وبما فيها زيارة منظومة الصناعات الدفاعية! بل رئيس هذه المنظومة هو مبعوثه الخاص للتنسيق مع الاسرائليين! وهل هنالك عدو للانسانية والدول الاقليمية اكثر من الصهاينة؟ ويضاف لذلك خضوعه المطلق لتوجيهات واومر السيسي، لدرجة تكريمه بتحية عسكرية اضحكت العالم واخجلت السوادنيين، من شدة خنوع البرهان وجهله بابسط بروتوكلات مقابلة الرؤساء لبعضهما، وكل ذلك من اجل البقاء في السلطة باي ثمن وكيفية.
اما رفضه المعلن لمشاركة الامارات كمراقب، فهل نسي ان محور الشر هو ذات المحور الذي نسق معه لاجهاض الثورة؟ وان سفير الامارات ما زال يقيم بين ظهرانيه ببورتسودان والعكس صحيح؟ وان ذهب البلاد يذهب جميعه للامارات؟ وهذا ما هو معلن او ما ظهر للصحفيين والمتابعين، اما ما هو غير معلن وتظهره كثير من الشواهد والتساؤلات فهو افدح واخطر. بدلالة من يصدق ان القوات السودانية المستدعاة من جانب الامارات ما زالت تقاتل في اليمن!
وعموما، جانب الغموض المحيط بهذه الحرب، هو ابرز مظاهرها، لدرجة في احيان كثيرة لا تعرف من يقاتل من، ولاجل من ذلك القتال، وما الهدف القذر الذي لعبه الهالك البيشي ولصالح من، قبل التخلص منه؟ وايضا من جوانب الغموض، ان تعنت قادة الجيش في رفض التفاوض بالتوازي مع قبول قائد المليشيا للتفاوض. يُظهر المليشيا في مظهر سياسي ودبلوماسي واعلامي بل واخلاقي افضل من الجيش، رغما عن جرائمها البشعة التي تسير بذكرها الركبان! اي كأن هذا الموقف الطفولي العبثي من قادة الجيش يكافئ المليشيا علي انتهاكاتها بتحسين سجلها الوسخ.
والمحصلة، هذا الغموض لوحده يشكك في كل ما يطرحه هؤلاء الجنرالات من اقوال ونوايا ووعود يُستشف منها مصلحة الشعب. وما زال اثر ضربة انقلابهم علي حكومة الثورة يلقي بظلاله السالبة علي المشهد، كما انه لن ينسي ابد الدهر.
ثالثا، السؤال الصحيح ليس عن اثر التدخل الدولي سواء ان كان حميدا ام خبيثا، ولكن في من تسبب، ولماذا تم استدعاء التدخل الدولي من الاصل؟ فالسبب يعود لعدم شرعية السلطة في السودان اولا، ولسوء استخدامها ثانيا. وما يترتب علي ذلك من نكبات تحل بالمواطنين ودمار يحيق بالدولة واهدار للموارد وتهديد للامن والسلم الدوليين.
رابعا، وكما اشار البعض هل بنود اعلان جدة مختصة حقا وفقط بخروج الدعامة من بيوت المواطنين؟ ام لها بنود اخري والتزامات علي الجانبين؟ وهو ما لم يتحقق من الطرفين، لفقدان الثقة من جهة، ورغبتهما في الاستحواذ علي كامل الكيكة من جهة، ولتضارب مصالح الجهات النافذة علي الطرفين من جهة.
خامسا، اما التمسح بالمواطنين وقضاياهم ومحنتهم، فهذا ما لا يليق بمن اشرف علي مجزرة الثوار النبلاء في حرم القيادة العامة، وقفل الطريق القومي لتجويع البلاد نكاية في الحكم المدني، واجهض الثورة واسهم في عودة الفلول المكروهين وتمكينهم، وفشل في حماية المدنيين من هجمات وهمجية الجنجويد، ولم يُبدئ طوال فترة الحرب ما يُشعر انه يكترث لمعاناة المواطنين وهو يرفض السماح لمنظمات الاغاثة بالعمل، وهذا عندما لا تنهب حكومة (حويكمة) الجنرالات ما وصل منها وو..الخ من مخازٍ في حق المواطنين يندي لها الجبين.
والحال انه في اللحظة التي يتهرب فيها قادة الجيش من المفاوضات ويتعرض شعبهم لاهوال الحرب، يرسلون اسرهم للخارج لينعمون بالحياة الرغدة ويواصل ابناءهم بناء مستقبلهم. بل ابن الكباشي اظهرت الصور استمتاعه بمباريات كاس العالم في المانيا. ورغم عن ذلك وبكل قوة عين يدعون المستنفرين في الداخل الي ساحات القتال!
اما ما يصدر من تقارير دولية لصيقة بالاوضاع علي الارض، عن مخاطر المجاعة وكثافة النزوح والتشرد وتسرب الطلبة من التعليم وانتشار الامراض والاوبئة، ناهيك عن اعداد القتلي والمصابين غير المعلومين. فهذا ما لايمكن تجاهله او انكاره او التهوين من شانه، رغبة في استمرار حرب السلطة، إلا لمن لا تربطه بهذا الشعب اي اواصر صلة من كبار الجنرالات، وبعد ذلك يطلبوا من الجميع الاعتراف بهم كقادة وحكام الي يوم يبعثون!!
سادسا، رفض التفاوض والتهديد باستمرار الحرب والاعلانات المتكررة عن قرب الحسم، والتبشير بتحرير البلاد من دنس الجنجويد، وغيرها من الوعود الحالمة والتهديدات الجوفاء، التي لا تسندها حقائق علي الارض. فكلها تندرج في خانة الخطرفات واحلام الصحيان التي لا تغني عن الواقع شيئا. ولا يمكن المواصلة فيها بصورة عبثية وكأن ليس لها ثمن فادح! فمدة عام ونصف من الحرب التدميرية الهائلة، لهي مدة كافية لاظهار الجيش لجدارته واهليته للقيام بدوره علي اكمل وجه، وطالما فشل في ذلك تحت سيطرة هذه القيادات الفاشلة، فليس هنالك ما يسمح بتصديقهم ان المستقبل مختلف. بل الاقرب للواقع هو المواصلة علي ذات المستوي البائس من الاداء ان لم يكن اسوأ، وتاليا المزيد من الهزائم وارتفاع منسوب الانتهاكات وتدمير المزيد من البنية التحتية للدولة، ومن ثمَّ اقترابها حثيثا من نقطة اللاعودة.
اما لو افترضنا جدلا جدية قادة الجيش في ادارة الحرب، واتساقهم مع تصريحاتهم، لتوقعنا ذهاب البرهان وكباشي لقيادة الحرب من داخل القيادة العامة للجيش، التي تسللوا منها خفية ولاذوا فرارا! اي ان يدفعوا ثمن الحرب كالآخرين، وليس اطلاق الدعوات والتهديدات والتحريض من المناطق الآمنة (حيث شركات طيرانهم ومنهوباتهم من الذهب في حرز امين كالكباشي/ حسب التسريبات) او وهو ياكل الزلابية وشرائح البطيخ علي الساحل بطريقة استعراضية، او كما ذكر استاذنا دكتور مرتضي الغالي وهو يلبس البدلة ويسافر لتهنئة رئيس رواندا بتنصيبه، وكأنه يعاني الفراغ القاتل!
وقياسا علي فرارهم السابق من القيادة العامة، الذي يؤكد ان اهتمامهم بحياتهم ومصالحهم، يفوق اهتمامهم بسلامة جنودهم والعباد والبلاد. فاذا ما استمرت حربهم السلطوية ووصلت بورتسودان، فما نتوقعه فرارهم خارجا وترك البلاد واهلها في حيص بيص.
واخيرا
وكما نصحت الاستاذة رشا عوض وغيرها من العقلاء، فعلي قادة الجيش الاستهداء بالله والذهاب للمفاوضات دون ابطاء. لانه ليس هنالك معني للتشبث بسلطة منقوصة والاصرار علي خدمة الكيزان والبلاد تحترق واللظي يطال الابرياء. ودمتم في رعاية الله.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: قادة الجیش

إقرأ أيضاً:

من نشوة القصف إلى فخ الاستنزاف.. كيف وقعت “إسرائيل” في فخ الحرب التي أرادتها؟

 

 

في كتاباته المتعددة، كثيرًا ما حذر نعوم تشومسكي من غواية “القوة” حين تُمارَس بمعزل عن العقلانية السياسية، ومن السرديات الإمبريالية التي تُخفي الحقائق خلف لغة “الردع” و”الدفاع عن الذات”، “إسرائيل”، التي أفاقت على نشوة ضربة خاطفة ضد إيران، سرعان ما بدأت تدفع ثمن إيمانها بأن بإمكانها فرض توازنات الشرق الأوسط عبر هجوم مباغت على دولة إقليمية بحجم إيران، لكن الواقع، كما هو الحال دائمًا في منطق القوة، معقد ومفتوح على انهيارات غير محسوبة.
الهروب من غزة نحو سماء طهران
في بداية الأمر، بدا الهجوم “الإسرائيلي” على المنشآت الإيرانية وكأنه ضربة ناجحة: اغتيالات نوعية، ضربات على البنية التحتية النووية والعسكرية، وتحقيق ما وصفته وسائل الإعلام العبرية بـ”إنجازات لا تُضاهى”، لكن خلف هذا الإطار الإعلامي، تكمن أزمة أعمق: “إسرائيل” تهرب من مأزق غزة إلى معركة أخطر وأعقد مع طهران. والضربات لم تكن فقط ضد المنشآت، بل كانت في جوهرها محاولة لإعادة ضبط معادلة الردع بعد سلسلة من الهزائم الرمزية والاستراتيجية، بدءًا من 7 أكتوبر، مرورًا بالحرب الطويلة والمفتوحة في غزة، وصولًا إلى الخوف من تصاعد جبهة الشمال مع حزب الله.
النشوة كقناع للإنكار
في التحليل النفسي للسلطة، تمثّل النشوة الجماعية لحظة إنكار جماعية. الإعلام العبري، وحتى بعض المعارضين، انخرطوا في التهليل للضربة، وكأنها تعويض جماعي عن الإهانة الوطنية في 7 أكتوبر. لكن فإن “الاحتفال بالقوة لا يُلغي الحاجة إلى مساءلتها”. ما جرى لم يكن انتصارًا بل انزلاق محسوب إلى منطقة الخطر. والفرق بين الحكمة والجنون، أن الأولى تفكر في اليوم التالي، بينما الثانية تتلذذ بلحظة التأثير الفوري.
الفشل في فهم إيران
منذ عقود، تسوّق “إسرائيل” أن إيران “نظام شيطاني” يمكن تفكيكه عبر ضربة ذكية واحدة. وهذا بالضبط ما يُحذّر منه تشومسكي عند الحديث عن “التسطيح الاستشراقي” للعقل الغربي تجاه خصومه، إيران ليست دولة عشوائية، إنها منظومة معقدة ببنية عسكرية وعقائدية واقتصادية متداخلة، وتملك أدوات الرد في الإقليم، وأهم من كل ذلك: ذاكرة حرب طويلة. التجربة الإيرانية مع العراق (1980–1988) لا تزال تلهم العقيدة العسكرية الإيرانية. والشيعة، كما كتب يوسي ميلمان، “يتقنون فن المعاناة”.
الرد الإيراني لم يتأخر فقط لأن القيادة مشوشة، بل لأنه كان يحتاج إلى تأنٍّ استراتيجي، وإلى قرار محسوب بعدم جعل الرد مجرد فعل عاطفي. وعندما أتى الرد، كان بمستوى يجعل النشوة “الإسرائيلية” تبدو استهزاء بالتاريخ والجغرافيا معًا.
أمريكا ليست هنا
من أخطر ما اكتشفته “إسرائيل” هذه المرة، أن الولايات المتحدة –ولو بقيادة ترامب الحليف المعلن– ليست بالضرورة على استعداد لخوض معركة واسعة لأجل “إسرائيل”. وزير الخارجية ماركو روبيو كان واضحًا في نأي واشنطن بنفسها عن الهجوم، وهو موقف يعكس تحولًا عميقًا في المزاج الأمريكي الذي بدأ يتبرم من كلفة التحالف مع “إسرائيل”، لا سيما مع اتساع المعارضة للحرب في غزة، والصدام مع القوى الدولية الأخرى (كالصين وروسيا) حول سياسات الهيمنة.
ترامب قد يهلل للهجوم، لكنه لا يريد أن يُجر إلى مستنقع حرب طويلة في لحظة انتخابية حرجة. وهذا ما يعرفه الإيرانيون جيدًا، لذا يُصعّدون بثقة محسوبة. أما “إسرائيل”، فقد فوجئت بأن “الغطاء الأمريكي” الذي طالما اعتُبر ضمانة للجنون الاستراتيجي، بات مثقوبًا هذه المرة.
الحرب على النظام أم على البرنامج النووي؟
بين خطاب نتنياهو الذي توعّد برؤية طائرات “إسرائيلية” فوق طهران، وتصريحات مسؤولي الجيش بأن الهدف هو تدمير البرنامج النووي، ثمة فجوة سردية خطيرة. إذا كانت “إسرائيل” تريد تغيير النظام، فإنها تكرر خطيئة الأمريكيين في العراق: وهم استبدال النظام دون رؤية للبديل. أما إذا كان الهدف فقط وقف التخصيب، فإن الهجوم لم ينجح في تدمير منشأة فوردو، ولم يوقف البرنامج، بل ربما سرّعه.
ومن هنا يأتي خطر الحرب الاستنزافية. فإيران، التي تعي أنها لن تُهزم في ضربة واحدة، قد تُطيل أمد المواجهة، وتجعل منها حربًا متعددة الجبهات والأدوات: صواريخ على تل أبيب، هجمات سيبرانية، اشتباكات في مضيق هرمز، وتصعيد عبر حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي.
إسرائيل تواجه نفسها
بعد الهجوم، انهالت الانتقادات من الداخل، فجأة صار نتنياهو في مواجهة مجتمع يكتشف هشاشته: الدفاعات الجوية فشلت، والحكومة لم تهيّئ الناس، وبدأ القادة العسكريون يحذرون من حرب طويلة، فيما المعلقون يتحدثون عن “فخ نصبته إسرائيل لنفسها”. وكأن الحرب، التي أرادها نتنياهو لتكون مخرجًا من ورطة غزة، تحوّلت إلى ورطة أشد وأخطر.
في كل هذا، يبدو أن “إسرائيل” لم تُجرِ الحساب الأساسي الذي تحدث عنه تشومسكي مرارًا: حين تبني قراراتك على وهم التفوق التكنولوجي وتغفل عن التعقيد التاريخي والسياسي والثقافي لخصمك، فأنت تصنع كارثتك بنفسك.
من غزة إلى طهران: لا خطوط رجعة
إن الفكرة القائلة بأن “إسرائيل” يمكنها أن “تُعيد ضبط النظام الإقليمي” عبر القوة، هي في جوهرها استمرار لسردية استعمارية قديمة، وهي أن “الشرق لا يفهم إلا لغة القوة”. هذه السردية لا تزال تحكم العقل “الإسرائيلي”، الذي لم يتعلّم من تجاربه في لبنان ولا في غزة، وها هو الآن يكررها على نطاق أوسع وأخطر.
لكن الفارق أن طهران ليست غزة. والمقاومة هنا ليست فقط صواريخ، بل منظومة ممتدة جغرافيًا وعقائديًا. “إسرائيل” لا تواجه إيران وحدها، بل منظومة ممتدة من العراق إلى اليمن، ومن لبنان إلى سوريا. وهذا ما يجعل هذه المواجهة قابلة لأن تنفلت من السيطرة في أي لحظة.
في الحروب، لا تنتصر النشوة
كما قال ناحوم بارنيع: “الحروب تبدأ بالنشوة… ثم تستمر”. “إسرائيل” في هذه اللحظة ليست في موقع المُسيطر، بل المُرتبك. فالهجوم الذي أريد له أن يُعيد الهيبة، كشف العجز. والضربة التي أريد لها أن توقف المشروع النووي، قد تُسرّعه.
إن لم تُدرك “إسرائيل” هذا الواقع بسرعة، وتقبل بخيار سياسي عاقل، فإنها تقود نفسها إلى مواجهة قد تكون الأعنف في تاريخها. وحينها، سيكون الثمن ليس فقط إخفاقًا استراتيجيًا، بل تصدعً داخلي طويل الأمد، وسقوطًا نهائيًا لوهم “الجيش الذي لا يُقهر”.
“الحروب لا تُخاض لإرضاء الغرور، بل لحماية الناس… وإذا كانت النشوة هي المعيار، فالنتيجة دائمًا كارثة.”

كاتب صحفي فلسطيني

مقالات مشابهة

  • “لا البرهان هو البشير ولا السلطة في يد الكيزان”
  • أسامة الدليل: الجيش هو الضامن الأساسي لبقاء الدولة الحديثة
  • الحرب مع إسرائيل والداخل الإيراني: هل تكرّس سيطرة النظام أم تسرّع بنهايته؟
  • حلمي النمنم: المشير طنطاوي سلّم الإخوان للشعب.. ولم ينحاز لأي طرف خلال الانتخابات التي أعقبت الثورة
  • الحريديم.. من تحدي السلطة إلى طاعة الجبهة الداخلية والاعتراف بـرجال الحرب
  • قادة إيران المغتالين.. أبرز الشخصيات العسكرية الإيرانية التي استهدفتها إسرائيل
  • رتيبة النتشة: إسرائيل لا تعلن حقيقة الأهداف التي يتم إصابتها
  • أبرز المنشآت التي ضربها أعنف هجوم إيراني منذ بدء الحرب
  • من نشوة القصف إلى فخ الاستنزاف.. كيف وقعت “إسرائيل” في فخ الحرب التي أرادتها؟
  • «أبو الغيط» يدعو المجتمع الدولي الضغط على إسرائيل للتوقف عن نهب مُقدرات الشعب الفلسطيني