التفاوض باسم المقاومة منزلةٌ ومكانةٌ لكن بولاءٍ وأمانة
تاريخ النشر: 28th, August 2024 GMT
في ظلال #طوفان_الأقصى “112”
#التفاوض باسم #المقاومة منزلةٌ ومكانةٌ لكن بولاءٍ وأمانة
بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي
لعلها فرصة للتوبة والندامة، ومناسبة للعودة والإنابة، وبوابة للتكفير والتعويض، قد مَنَّ الله بها على بعضهم، وآثرهم بها وقدرها لهم دون غيرهم، وهيأها لهم لظروفهم، رغم أنهم قد لا يستحقونها، ولم يعملوا من أجلها، ولا تمنوا أن يقوموا بها، إلا أن مكانتهم فرضتها، ونفوذهم قدمها، وموقعهم عززها، ودورهم جعلهم الأنسب لها والأقدر عليها، وربما حاول بعضهم أن يعمل ضدها، وسعى لأن ينأى بنفسه بعيداً عنها، وامتنع قاصداً عن القيام بها، لكن الحاجة ألجأت الجميع لهم، وأجبرتهم على اللجوء إليهم، والطلب منهم أو الضغط عليهم، والاتصال بهم والتوسل إليهم.
إنها فرصةٌ قد لا تتكرر مرةً أخرى، وقد لا يجود الزمان الذي ارتكس فيه الرجال بمثلها، وتراجعت فيها الدول وانكفأت فيها الحكومات، وارتضت أن تكون رخيصةً ذليلةً، تابعةً مهانةً، لا مروءة عندها ولا شرف، ولا نبل فيها ولا شهامة، ولا تنتفض لأهلها ولا تثور لشعبها، ولا تغضب من عدوها ولا تثأر لأمتها، ولا يتمعر للحق وجهها، ولا تنتفخ غيرةً أوداجها، ولا يشعر قادتها بالإهانة أو يتأثرون بالإساءة، إذ استمرأوا الذل وقبلوا بالخسف، وأعجبتهم الحياة في أذيالها، والعيش تحت أقدام أنذالها.
إلا أن الفرصة قد لا تطول، وقد لا تبقى حصراً لهم ورهناً بهم، فقد تتجاوزهم الظروف وتتغير الأحوال وتختلف الأوضاع، وتتبدل في الميدان وعلى الأرض الوقائع والمعطيات، وقد تستغني عنها المقاومة، ولا تكون في حاجةٍ ماسةٍ لها كحاجتها إليها اليوم، وهي فعلاً تحتاجها اليوم وتتطلع إليها، كما تحتاج من الأخوة والأشقاء ومن المناصرين والأصدقاء، إلى كل سندٍ وعونٍ، وتأييد ومساعدة، في السياسة والإعلام، وفي الميدان والمفاوضات، وفي الإغاثة والعلاج، لكن في حال ضياعها وتجاوز الزمان لها، فإنها ستصبح على من فرط فيها ولم يحسن استغلالها والاستفادة منها، لعنةً تلاحقهم وتطاردهم، وحسرةً في نفوسهم تكويهم ولا تفارقهم، وسبةً في جباههم تحفظها صفحات التاريخ، وتخلدها سير الأمم والشعوب.
أثبتت المقاومة الفلسطينية على الأرض وفي الميدان، أنها قويةٌ صابرةٌ متينةٌ حازمةٌ حاسمةٌ، متماسكة مترابطة وكلها عزيمة وإصرار، لا تمل ولا تتعب، ولا تيأس ولا تقنط، ولا تعرف الصعب ولا تؤمن بالمستحيل، وتخوض معاركها بكل قوةٍ واقتدار، ضد العدو وتجمعاته، وتهاجم عرباته وآلياته، وتشتت صفوفه وتحشداته، وتباغته قصفاً وقنصاً وتفجيراً وتفخيخاً، وتستدرجه بخفةٍ ومهارةٍ إلى مصائدها، وتوقعه في فخاخها، وتنال منه بحق، وتوثق عملياتها ضده بمهنيةٍ ومصداقيةٍ، وتصور جنوده قتلى وجرحى، وفارين وهاربين، وخائفين ومذعورين، وتعده بمفاجئاتٍ قادمة وضرباتٍ صاعقة، إذ ليس أمامها سوى الصمود والثبات، ولا خيار لها سوى الانتصار والانتصار، ودحر الاحتلال وإخراجه من غزة بالقوة، وعودة أهلها إلى مناطقهم كراماً أعزةً.
قد لا تكون المقاومة الفلسطينية على الأرض وفي الميدان بحاجةٍ إلى جنودٍ تناصرها، ولا إلى عتادٍ يقوي ساعدها، ولا إلى جيوشٍ تقف معها وتقاتل إلى جانبها، وإن كانت تتوق لذلك وتتمنى، لكنها في حاجةٍ على طاولة المفاوضات إلى سندٍ يقف معها، ونصيرٍ يقويها، وحليفٍ يدافع عنها، وصديقٍ يصدقها، وأخٍ يحنو عليها، وحضنٍ يحفظها، ودولةٍ عربيةٍ قويةٍ تؤمن بروايتها، وتعزز مواقفها، وتدافع عن حقها، وترد بقوة على عدوها، وتتصدى له بقوتها وتمنعه، وترفض عليه شروطه وتجبره، وتشعره أن أمنها هو من أمن غزة وأهلها، وأن سلامتها هي من سلامة غزة وشعبها.
العين على جمهورية مصر العربية، أرض الكنانة وعمق العرب، وحاضنة الإسلام والبلاد التي تؤمن الداخلين إليها، والتي تجير من استجار بها، وتنصر من استنصرها، وتعد العدة وتجهز الجيوش التزاماً بواجبها، وعملاً بمكانتها، فمصر دائماً قوية ما كانت قائدة للأمة ورائدة لها، تتقدمها وتقودها، وتنافح عنها وتحميها، وتلوح بعصاها في وجه كل من يعاديها، وتضرب بيدٍ من حديدٍ على يد كل من يستخف بها ويعتدي عليها، وتاريخنا القديم والجديد لا ينسى حطين ولا عين جالوت، كما لا ينسى شهداء جيش مصر وأبناءها المخلصين، لهذا فإن العين عليها، والرهان كبيرٌ على دورها، وهي على ذلك قادرة، وتستطيع فرض ما تريد، وإكراه العدو على ما لا يريد.
نأمل من مصرنا العزيزة في هذا الوقت بالذات أن تؤمن بدورها، وأن تستعيد مجدها، وأن تفرض على طاولة المفاوضات شروطها، وتثبت أنها تستحق مكانتها، وتحافظ على قدرها، وتحترم تاريخها، وأنها لا تترك الفلسطينيين وحدهم على الطاولة، ولا تتخلى عنهم وقت الحاجة ولا عند النازلة، فيطمع بهم العدو ويستضعفهم، ويستفرد بهم ويستقوي عليهم.
وهي إن فعلت ذلك فسيسمع الجميع لها، وستخضع الأطراف لكلمتها، وسيخاف العدو من غضبتها، فمصر ماردٌ عظيمٌ إن نهض، وعملاقٌ قوي إن انطلق، وإرادةٌ جبارةٌ إن صدقت، والعدو وحلفاؤه يعرفون أن لمصر شوكةً حادةً تؤلم، وسيفاً ماضياً يقطع، وتاريخاً ناصعاً ينصح، وما عليها إلا أن تبادر بالتموضع الحقيقي الذي يوازي ثقلها، ولو على طاولة المفاوضات.
إنه شرفٌ عظيمٌ لا يمنحه الله عز وجل إلا لمن يستحقه، ولا يناله إلا أهله ومن عملوا له وتطلعوا إليه، ولا يتقدم إليه ويقوم به إلا الخيرون، ممن اصطفاهم الله عز وجل وانتقاهم على عينه لقدرٍ عنده، ومنزلةٍ يستحقونها وذكرٍ طيبٍ بين الخلائق يرتفع بهم.
فطوبى لمن كان درءَ المقاومة وسياجها، ولمن كان حصنها وقلعتها، وحماها ودافع عنها، وخذل عنها وطرد الأعداء من حولها، وأتيحت له الفرصة لأن يكون لسانها الصادح، وصوتها المدافع، وترجمانها الصادق.
فهل تنبري لهذه المهمة النبيلة دولةٌ أو تحالفٌ عربيٌ، يستند إلى عمقٍ إسلامي، وإرثٍ قومي وديني أخلاقي، فتتصدى للعدو وتقف في وجهه، وترفض شروطه وتصر على انسحابه، فتعوض بما أدركت ما قد فاتها من واجبٍ كبيرٍ، وتجبر بنصرتها للمقاومة الكسر الذي أحدثه غيابها وتسبب به بعدها.
بيروت في 28/8/2024
moustafa.leddawi@gmail.com
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: طوفان الأقصى المقاومة فی المیدان
إقرأ أيضاً:
العراق بين الجمهوريين والديمقراطيين: استعادة الديمقراطية لا الاعتذار عنها
بقلم : محسن عصفور الشمري ..
تُثبت فلسفة التاريخ حقيقة يصعب إنكارها: من لا يقرأ التاريخ يظل تابعًا، يُقاد إلى حيث يشاء الآخرون. ورغم أن التاريخ لا يُعاد، فإن تصحيح مساراته ممكن وضروري وملحّ.
في زيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية (13 أيار 2025)، أدلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتصريحات لافتة بشأن العراق، ضمن نقده المستمر لسياسات خلفائه من الحزب الديمقراطي، لا سيما أوباما وبايدن، في الشرق الأوسط. ورغم أن تصريحاته حملت قدرًا من الصواب السياسي، فإنها جاءت متأخرة. فالمطلوب اليوم ليس فقط تشخيص الأخطاء، بل السعي الجاد لاستعادة المسار الديمقراطي الذي بدأ مع إدارة جورج بوش الابن، قبل أن ينحرف بشكل خطير خلال حقبة أوباما.
ورغم التحفظات الكبيرة على طريقة التدخل الأميركي في العراق عام 2003، فقد تبنّت إدارة بوش الابن مشروعًا معلنًا لبناء عراق ديمقراطي تعددي، قام على صياغة دستور جديد، وتنظيم انتخابات، ودعم مبدأ التداول السلمي للسلطة. صحيح أن التطبيق كان هشًا، وأن البنية الداخلية للدولة العراقية كانت منهكة، لكن تلك المرحلة مثّلت فرصة تاريخية لصياغة نظام سياسي مختلف عما كان عليه الحال في ظل الجمهوريات العسكرية التي حكمت منذ 1958 وحتى 2003.
التحوّل الحاسم وقع مع إدارة الرئيس أوباما، حين انسحبت القوات الأميركية من العراق دون توفير أي ضمانات لحماية التجربة الديمقراطية الوليدة. لم يكن الخطر محصورًا في الفراغ الأمني، بل تجلى في انزلاق المنظومة السياسية إلى الاستبداد المقنّن عبر مؤسسات الدولة نفسها. ويُعد قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم 55 لسنة 2010 نموذجًا فاضحًا لذلك الانحراف؛ إذ فسّر مفهوم “الكتلة الأكبر” في البرلمان بطريقة أجهضت نتائج الانتخابات، ومنحت القوى المهيمنة أداة شرعية لاحتكار السلطة والتحكم بمصير البلاد.
أدى ذلك القرار إلى نقل الديمقراطية من صناديق الاقتراع إلى غرف الصفقات المغلقة. وبدأت ممارسات الإقصاء تتسيد المشهد، وتعمّقت المحاصصة السياسية، وتكرّست طبقة حاكمة عاجزة عن الإصلاح، ومنفصلة عن تطلعات الشعب.
وفي هذا السياق، فإن تصريحات ترامب حول العراق تُعبّر عن وعي جزئي بمشكلة حقيقية، لكنها تفتقر إلى تصور عملي شامل لاستعادة التوازن. ليس كافيًا انتقاد أوباما، أو الإقرار بأخطاء الماضي؛ المطلوب اليوم هو دعم مشروع سياسي عراقي وطني يعيد للديمقراطية معناها ومؤسساتها. وهذا ما يزال ممكنًا، سواء في ظل احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، أو عبر مراجعة جدّية للعلاقة العراقية الأميركية، من منطلق شراكة لا وصاية.
ولتحقيق ذلك، لا بد من خارطة طريق وطنية واضحة تشمل:
1. مراجعة الدستور العراقي وإغلاق الثغرات التي فتحت المجال للتلاعب.
2. تفكيك نظام المحاصصة السياسية الذي أصبح حاجزًا أمام الإصلاح.
3. ضمان استقلال القضاء كركيزة لاستعادة الثقة بالمؤسسات.
4. تمكين المواطن من مساءلة السلطة وفق أدوات قانونية ودستورية فعّالة.
إن الديمقراطية لا تُبنى بالنيات أو الشعارات، بل بمؤسسات راسخة وضمانات دستورية حقيقية. والعراق لا يحتاج إلى وصاية خارجية، بل إلى شراكة عادلة تحترم سيادته وتطلعات شعبه في الحرية والعدالة والكرامة.
ولا يمكن الحديث عن فشل التجربة العراقية دون الاعتراف بمسؤولية الشركاء المحليين الذين تسلموا السلطة بعد عام 2003. فالكثير منهم أظهروا قصورًا ذاتيًا واضحًا، وافتقارًا للرؤية، فيما اندمج آخرون في أجندات إقليمية مناهضة لمفهوم الدولة الوطنية العراقية. وفي المقابل، جرى تجاهل وإقصاء آلاف الكفاءات العراقية في المهجر، التي كان يمكن أن تُسهم في بناء نموذج سياسي مختلف وأكثر تماسكًا.
استعادة المسار الديمقراطي ليست ترفًا سياسيًا، بل شرط لبقاء الدولة ومنع تفككها. والمسؤولية مشتركة بين الداخل والخارج، بين النخبة والمجتمع، وبين الذاكرة والتطلعات.