الضمير.. بوصلة الإنسانية
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
د. قاسم بن محمد الصالحي
ما يحدث في العالم من مآسٍ أصبح يستفز كل ضمير حي، فقد بحت الأصوات في غزة، وعزَّ عليها أن تلاقي رجع صدى ينتشل ما في الصدور من الضيق إلى السعة، ومن القهر إلى العدل، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن الخذلان إلى النصرة.
نسمع كلمة الإنسانية من عالم قاتل، ظالم، وضع مفهوم الإنسانية لتخدير الجراح وتسكين الآلام، وأصبحت الإنسانية لعنة على الإنسانية، في عصر كلما زاد تطورًا وعلمًا، زاد انحدارًا وانحطاطًا.
تأملتُ كثيرًا في مفهوم الإنسانية، كنت أحسبه يعني الضمير الذي في جوف كل إنسان، أو تلك الأخلاق المكتسبة بالفطرة، أو حب الخير للغير أيًا كان/ لكن مع ما يرتكب من جرائم في حق الإنسان الفلسطيني أدركت معاني أخرى، إن معانيها تطورت، ومجالاتها توسعت، فأصبحت شاملة تستخدم بلا كيف ولا متى ولا حتى لماذا.
قبل الخوض في غمار التفاصيل، نقول: إن الصفة اللصيقة بأفعال الكيان الصهيوني أمر لا يمت للإنسانية في شيء... ولعل أول ما يلج إلى المخيلة، هو أن كل ما يجري في أرض فلسطين لم يستطع إيقاظ الضمير الإنساني، ولم يملأ الخواء الروحي في أن يجعل الحياة وسيلة لا غاية، لقد أبصر العالم نجوم الفضاء، وعمي عن القذاة في العين، استصلح تربة المريخ وجعل تربة الكوكب الذي نعيش فيه بورا غير صالحة للحياة الإنسانية، في أوج مراحل زمن التقنية والمعلوماتية، وحمم براكين الابتكارات والمحدثات في كافة الميادين، فلا نلبث لحظات يسيرة مع مستحدث جديد نتأمل صورته، إلا داهمنا ما ينسينا الأول... ووسط دوامة الإبادة التي يرتكبها الكيان اللقيط بحق الأطفال والنساء والشيوخ في غزة، تتوارد مئات الأسئلة، كلها تلح على بحث مفهوم الإنسانية التي يعنيها عالم التكنولوجيا المتوحش... عند الإجابة، سنجد أن كل الأفعال اللا إنسانية أصبحت تلتصق باسم كيان تم اصطناعه في أرض مهد الإنسانية والوجود الإنساني... لقد ضجت هذه الأرض من جرائم أزيز طائرات وحوامات جيش الكيان المأزوم، هدير عربات جنده المذعورين، والسماء في غزة ملبدة بأدخنة قاذف صواريخه، المدعوم بها من قبل زبانيته في أمريكا، يحصد بها أرواح الأبرياء... لقد مر ما يناهز أحد عشر شهراً على اليوم الذي فرك فيه الأنف الذي تنبعث منه نتانة جرائم الإبادة ضد الإنسانية، ومرغ جسده اللقيط بالذل والهوان.
فبعد انتهاء حصاد عملية طوفان الأقصى، تجيء اللحظة التي يعاني فيها الكيان اللقيط من أزمة وجوده، يقول قطعان مستوطنيه: "ليست هذه الصورة التي تخيلناها لحياتنا"... خزن المقاومون الفلسطينيون يوم 7 أكتوبر ثمار جهدهم، وجمعوا جنود الكيان اللقيط في حفرة، أوقعوه في كمائن الموت، وسطروا بها ملحمة تاريخية تفخر بها الأمة العربية والإسلامية والأحرار، مرروا بنودها على شكل إشعاع تنبعث منه حبال العزيمة الثابتة، والمتوازنة فوق الأرض، ساعدتها على تبديد تيار الريح الكريهة اللا إنسانية المنبعثة من كيان لقيط... طلتها بلون دماء الشهداء، ورائحة المسك، أزالوا قشرة سميكة من النتانة كانت قد حجبت الحرية لأكثر من 76 عامًا.
عندما غشى الليل النهار، كان نسيم ليلة 7 أكتوبر ليس ككل ليلة من ليالي الاحتلال الغاصب... أصبحت أرض فلسطين على غير عادتها مزهوة بألوان الحرية، لقد أنعشت المقاومة قضية الأمة برائحتها الزكية، واسلوبها النضالي، بشكل من أشكال العزيمة الواثقة، بمهارات مقاوميها، وأصحاب الأرض المرابطين فيها... قد يكون في اعتقاد البعض أن ليلة 7 أكتوبر مغامرة غير محسوبة، لكنها عند الإنسانية الحرة مناسبة عظيمة وخزت الضمير الإنساني للتخلص من انبعاثات أفعال الكيان اللا إنسانية.
كل المقاومون وأحرار العالم، دعوا العالم لمعرفة مكان انبعاث الروائح التي تؤذي الإنسانية بعد أن انكشف الغطاء، ليجلسوا مصطفين متقابلين على طول وعرض أرض فلسطين، من غزتها إلى ضفتها، جنوبها وشمالها، لعلهم يوجهون بوصلة الضمير الإنساني نحو ما يرتكبه الكيان اللقيط في الفلسطينيين من إبادة جماعية.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل أصبحت منابر الوعظ بلا بوصلة.. وميادين الفهم بلا حكمة؟!..
صراحة نيوز-محمود الدباس
قبل أن نخوض في هذا الحديث.. لا بد من توضيحٍ لا يحتمل التأجيل.. إن المقصود هنا.. ليس تلك الجماعات التي انحرفت عن جادة الفكرة.. ولا التي حملت السلاح باسم الدين.. لتُبرر الدم والدمار.. بل الحديث عن الحركات والتنظيمات الإسلامية.. التي وُلدت من رحم النقاء والإخلاص.. وسعت إلى إصلاح الواقع بمنطق الدعوة.. لا الفوضى.. لكنها حين دخلت ميدان السياسة.. تعثّرت بين الطهر والدهاء..
فما بين المنبر والواقع.. ضاعت لغة التوازن.. صارت الكلمة تلهث خلف النية.. وصار النقاء بلا حيلةٍ.. هدفاً يُذبح على عتبات السياسة.. فكم من مخلصٍ خسر ميدانه.. لأنه ظن أن الصدق وحده يكفي.. وكم من واعظٍ ظن أن الحق يُنتصر له بالبلاغة.. لا بالحنكة.. حتى تحولت ميادين السياسة إلى مسارحٍ بلا حكماء.. والمنابر إلى قلاعٍ بلا بوصلة.. فلا الدين حفظ مكانته في الدنيا.. ولا الدنيا فهمت لُغته في الدين..
فمنذ أن قررت الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها.. أن تُغادر منابر الدعوة إلى ميدان الدولة.. وُلد سؤالٌ كبير ما زال يتردد حتى اليوم.. لماذا تفشل التنظيمات الأيديولوجية في ميدانٍ.. تظن أنها تملك فيه الحق والمنهج؟!.. والجواب لا يكمن في العقيدة.. ولا في الإخلاص.. بل في الفجوة بين منطقة الوعظ.. التي تنتمي إلى عالم النقاء الروحي.. ومنطقة الفهم.. التي تنتمي إلى عالم البراغماتية السياسية.. حيث لا ينتصر صاحب النية الطيبة.. بل مَن يُحسن قراءة الخرائط.. قبل أن تُرسم له..
وحين دخلت القوى الأيديولوجية إلى الميدان السياسي.. حملت معها نقاء الدعوة.. وحماسة الإيمان.. لكنها رفضت أن تتلطخ بالطين.. الذي لا مفر منه في عالم المصالح.. أرادت أن تبقى ناصعة في معتركٍ.. لا يعرف البياض الكامل.. فكان أن خسرت النقاء والقدرة معاً.. لأنها ظنت أن الدفاع عن الطهر.. لا يكون إلا بالعزلة.. وأن المساومة خيانة.. بينما هي في بعض المواضع.. فن الحفاظ على الفكرة من الاحتراق..
إن مَن يدخل السياسة بثوبٍ أبيضٍ.. ثم يغضب إن تلطخ.. يشبه مَن يزرع في أرضٍ موحلةٍ.. ويرفض أن يمد يده بالطين.. فلا الزرع نجا.. ولا الثوب بَقِي.. تلك هي المعضلة التي لم تُدركها التنظيمات الإسلامية.. سواء كانت سلمية في كنف الأنظمة.. أم مقاومة في ميادين المواجهة.. كلاهما خسر حين تعامل مع السياسة كمنبرٍ للدعوة.. لا كمساحةٍ للصراع المعقد بين المصالح والمبادئ..
فالحركات الإسلامية السلمية التي نشأت داخل الدول.. حاولت أن تُقدم نفسها بديلاً.. لا مكملاً.. فتعاملت بعقلية الإحلال.. لا التعاون.. وظنت أنها حين تمتلك الصواب الشرعي.. تمتلك تلقائياً حق القيادة السياسية.. فاستفزت الأنظمة دون أن تُدرك طبائعها.. واصطدمت بالمؤسسات دون أن تفهم لغتها.. حتى صارت تُرى كتهديدٍ وجوديٍ.. لا شريكٍ إصلاحي.. فحوصرت.. ثم حُيدت.. لأنها لم تتقن لغة التماهي المرحلي.. ولا فن بناء الثقة بالتدرج..
لقد فاتها أن النظام السياسي ليس ميدان فتوى.. بل حقل توازناتٍ دقيقةٍ.. تحكمها المصالح لا النوايا.. وأن الدولة لا تتعامل مع المبدأ المجرد.. بل مع ما ينعكس منه على أمنها واستقرارها.. ومَن لم يُدرك ذلك.. دخل المواجهة بنيةٍ طاهرةٍ.. لكنه خرج منها بلا أدوات.. ولم تخسر التنظيمات الأيديولوجية لأنها كانت قليلة الإيمان.. بل لأنها كانت ضعيفة الفهم.. فجهل الخصم.. لا يغفره نقاء النية.. وعدم قراءة موازين القوى.. لا تُعوضه حرارة الدعاء..
لقد جلست هذه التنظيمات على موائد التفاوض بقلوبٍ مثقلةٍ بالإخلاص.. لكنها خاليةٌ من أدوات المناورة.. فكانت تتحدث بلغة الحق.. أمام مَن يتحدث بلغة المصالح.. وشتان بين مَن يرى النصر في العدل.. ومَن يراه في التوقيت.. فالسياسة لا تكرّم الأنقياء.. بل تحترم الأذكياء الذين يُخفون سيوفهم في أغماد الحكمة.. والذين يُجيدون الصمت في اللحظة التي يُنتظر منهم الانفعال.. فالكلمة في السياسة سلاحٌ قاتل.. ومَن لم يعرف متى يُشهرها.. قُتل بها..
والخروج من منطقة الوعظ إلى منطقة الفهم.. لا يعني بيع المبادئ.. بل إعادة صياغتها في لغةٍ يفهمها الواقع.. فليس الصدق أن تُعلن كل ما تؤمن به.. بل أن تُبقي نيتك صادقةً.. وإن أخفيت تفاصيلها عن خصمٍ يتربص بك.. والمكر حين يكون لحماية الحق ليس خديعة.. بل ذكاءً مشروعاً.. والغموض أحياناً هو حصن النقاء.. لا نقيضه..
ولكي يخرج السياسي الأيديولوجي من دائرة الوعظ.. إلى فضاء الفهم.. عليه أن يتسلح بالعقل البارد.. الذي يضبط حرارة الإيمان.. حتى لا تُحرق الخطط قبل أن تثمر.. وأن يعرف خصمه معرفةً دقيقة.. لأن مَن يجهل عدوه.. يصبح أداته دون أن يدري.. وأن يُتقن الغموض النظيف.. وهو برأيي القدرة على إخفاء الخطط.. دون تلوث النية على قول ما يخدم الموقف.. لا ما يُرضي الجمهور..
لقد أُنهكت التنظيمات الجهادية والمقاومة.. لأنها لم تُحسن الوقوف عند الحد المقبول في المواجهة.. ولم تتقن فن الانسحاب.. حين كان الانسحاب أشرف من المكابرة.. ثم جلست على موائد التفاوض.. دون أنيابٍ حادةٍ.. ولا قراءةٍ واعيةٍ لمآلات الاتفاقات التي وُقّعت باسم النصر.. بينما كانت إعلان هدنةٍ دائمةٍ مع العجز..
وليس المقصود من هذا النقد جلد الذات.. بل إنقاذ الفكرة من براءةٍ قاتلةٍ.. جعلتها تتعامل مع السياسة كأخلاقٍ مجردةٍ.. لا كفنٍ للمناورة.. فالفهم السياسي ليس خصماً للإيمان.. بل خادماً له.. والعقيدة التي لا تُدرك مكر الواقع.. تُصبح عاجزةً عن صيانتها من الداخل.. والسياسي الذي لا يعرف كيف يُخفي سيفه في غمدٍ من الحكمة.. سيجد نفسه يوماً يقاتل بلسانه فقط.. واللسان لا يوقف زحف المكر مهما علا صدقه..
إن ما نحتاجه اليوم ليس تنظيماً أكثر.. بل وعياً أعمق.. لا مزيداً من الحماسة.. بل إدراكاً بأن الله لا ينصر النية دون خطة.. ولا يحمي المبدأ إن لم يُدار بدهاءٍ يحفظه.. فالدهاء في ميدان السياسة ليس خيانةً للفكرة.. بل درعها الأخير حين تسقط الأقنعة.. ويبدأ زمن الصراع الحقيقي.. بين مَن يفهم ومَن يعظ..
فالطهارة لا تُحفظ في القوارير.. بل أحياناً في الوحل.. حين يعرف صاحبها كيف يخرج منه أبيض كما دخل.. عندها فقط.. يصبح الفهم عبادة.. والسياسة طريقاً إلى الحق.. لا بديلاً عنه..
فحين نفهم أن الطهر لا يناقض الدهاء.. ندرك أن الدعوة والسياسة.. وجهان لمعركةٍ واحدة.. غايتها أن يبقى الحق قائماً.. لا أن يبقى الواعظ واقفاً على المنبر وحده..