كيف تثبت كلمة واحدة عجز الذكاء الاصطناعي؟
تاريخ النشر: 23rd, October 2024 GMT
تنامى استخدام روبوتات الذكاء الاصطناعي في الآونة الأخيرة بفضل قدراتها الواسعة واعتمادها على نماذج اللغة الكبيرة التي تجعلها قادرة على توليد النصوص بشكل يماثل البشر، فضلا عن كتابة الأكواد البرمجية المختلفة أو الإجابة على الأسئلة والتحديات الموجهة إليها.
ورغم هذه القدرات المذهلة التي تحاكي البشر في بعض الأحيان، فإن نماذج الذكاء الاصطناعي هذه ما زالت قاصرة في وجه بعض التحديات البسيطة التي تتطلب آلية تفكير بشرية وقدرة على استنتاج المعلومات بشكل صحيح.
ويظهر هذا العجز بوضوح في تحدي إحصاء الحروف المتكررة في الكلمات مثل كلمة فراولة بالإنجليزي "ستروباري" (Strawberry) أوهيبوبوتمس (hippopotamus) مثلا، إذ تقدم نماذج الذكاء الاصطناعي على اختلافها إجابات خاطئة في كل مرة يتم توجيه هذا السؤال إليها.
عجز عن عد الحروفيستطيع الذكاء الاصطناعي تلخيص أي نص مهما كان مع الحفاظ على النص الأصلي، كما أنه قادر على إجابة التحديات المختلفة والمسائل اللغوية المتنوعة، فضلا عن كتابة أكواد برمجية وتصحيح أكواد برمجية أخرى، وهو الأمر الذي أوهم كثيرين بأن قدرات الذكاء الاصطناعي غير محدودة.
ويظهر السؤال السابق عجز الذكاء الاصطناعي على التعرف على الحروف في كلمة واحدة وتقديم عدد صحيح لها، ورغم بساطة هذا السؤال، فإن الذكاء الاصطناعي يخفق فيه بكل مرة، ويعود السبب في ذلك إلى آلية عمل الذكاء الاصطناعي وطريقة تعامله مع الحروف والكلمات المختلفة.
ورغم التصور الشائع عن الذكاء الاصطناعي، فإنه ليس قادرا على التعامل مع الكلمات والحروف بالشكل الذي يتعامل به البشر فهو لا يعتبر النصوص والحروف والأرقام جزءا من مدخلاته التي يستطيع تحويلها وفهمها، ويعتمد بدلا من ذلك على رموز تدعى "توكين" (Token)، وهي آلية ترميز تدعى (tokenization) تحول الحروف والنصوص إلى أرقام يستطيع الذكاء الاصطناعي فهمها.
وتختلف آلية عمل الترميز بين نموذج ذكاء اصطناعي وآخر، وفي بعض الأحيان تختلف داخل النموذج الواحد بناء على طريقة توجيه السؤال له، ولكن في المجمل، فإن جميع نماذج الذكاء الاصطناعي تعتمد على آليات الترميز، وهي الآليات التي تقيس عبرها معدل الاستخدام والاستهلاك للنموذج، فضلا عن وضع تسعير استخدام النموذج في النماذج المدفوعة.
وفي بعض الحالات، يقوم الذكاء الاصطناعي بتقسيم كلمة مثل "سلسبيل" إلى مقطعين، أي إلى "سلس" و"بيل" وفي بعض الأحيان الأخرى "سل" س" "بيل"، أي إلى 3 مقاطع مختلفة، وعبر هذه المقاطع، يستطيع الذكاء الاصطناعي توقع الإجابة أو الكلمة التالية للمقطع، وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي لا ينظر إلى كلمة "سلسبيل" على أنها مكونة من الحروف الفردية "س" ل" "س"ب"ي"ل"، وبالتالي لا يمكنه عد حرف "س" المذكور في الكلمة، لأنه لا يرى الحرف منفردا، بل يرى المقطع الذي يضم الحروف، وإذ ظهر الحرف في 3 مقاطع، فإن هذا يجعل الذكاء الاصطناعي يظن أن الكلمة تضم 3 حروف "س" حتى وإن كانت تضم حرفين فقط.
سرعة تطور نماذج الذكاء الاصطناعي في الآونة الأخيرة تشير إلى أن النماذج المستقبلية قد لا تواجه مثل هذه العوائق، ولا يمكن القول إن هذا العائق يصعب تخطيه، إذ إن النماذج الاحترافية المدفوعة مثل "أو 1" من "شات جي بي تي" قادرة على تخطيه بشكل كبير، وهذا لأنها تعتمد على آلية عمل مختلفة تدعى "المنطق".
وفي آلية عمل المنطق تخضع الكلمات والحروف إلى عملية ترميز أكثر دقة، وبالتالي قدرة أكبر على فهم الحروف والكلمات دون الاقتصار على آلية المقاطع المذكورة سابقا، وبالتالي تقديم نتائج أكثر دقة وأعلى جودة من نماذج الذكاء الاصطناعي المجانية، بالطبع تتطلب آلية عمل "المنطق" موارد أكثر من آليات العمل المعتادة لدى الذكاء الاصطناعي، وبالتالي تطلب تكلفة أعلى من كلفة النماذج المجانية، وهو ما كان واضحا في تسعير نموذج "أو 1" من "شات جي بي تي".
هل الذكاء الاصطناعي عاجز؟ورغم وجود هذه العوائق في آلية عمل نماذج الذكاء الاصطناعي، فإنه لا يعني عجز الذكاء الاصطناعي بشكل عام، إذ تفيد آلية الترميز والمقاطع التي تعتمد عليها نماذج الذكاء الاصطناعي في فهم الجمل والطلبات المركبة بشكل صحيح، لذا تجد الذكاء الاصطناعي بارعا في بعض الجوانب دون غيرها.
وبفضل آلية المقاطع، تظهر براعة الذكاء الاصطناعي في البرمجة وكتابة الأكواد، إذ يمكن بكل سهولة الآن جعل "شات جي بي تي" أو أي نموذج ذكاء اصطناعي آخر توليد نصوص عميقة ومفهومة بشكل كامل عبر الاعتماد على مجموعة من الأوامر المتتالية المباشرة.
وحتى في الوظائف التي تعتمد على هذه المهام، لا يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يمكنه استبدال البشر فيها، إذ لن يستطيع الوصول إلى آلية التفكير البشري المنطقية من أجل تقديم الحلول الملائمة للمشاكل المختلفة، فضلا عن ربط النتائج بالطلبات الموجهة إليه، خاصة إن كانت طلبات تحتاج إلى مهام خفية تتكون من أكثر من مرحلة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات نماذج الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی فی شات جی بی تی آلیة عمل فضلا عن فی بعض
إقرأ أيضاً:
عندما يقفز الذكاء الاصطناعي على حواجز اللغة؟
مؤيد الزعبي
لطالما كانت اللغة حاجزًا يقف بين الإنسان والشعوب الأخرى، وفي الوقت ذاته كانت بوابةً لاكتشافهم، والبعض يجدها رحلة يخوضها ليتعلّم ويتعرّف ويكتسب المهارة التي تمكّنه وتُميّزه عن غيره بامتلاكه لغة الآخر، وكثيرًا ما كانت اللغة مصدر رزق؛ إذ شكلت مهارة الترجمة أو التحدث بلغة أجنبية مسارًا مهنيًا لكثيرين، لكن اليوم، ومع التطور الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي واقتحامها عالم الترجمة من أوسع أبوابه، يبدو أن الأبواب القديمة بدأت تُغلق أمام المترجمين، فيما تُفتح في المقابل أبواب جديدة أمام البشرية بأكملها؛ أبواب الاستكشاف والتفاعل الثقافي.
وقد أصبح بإمكاننا بفضل هذه التقنيات أن نتعرف إلى ثقافات جديدة، ونمارس طقوسًا مختلفة، ونتذوق ألوانًا من الفنون والموسيقى، ونتحاور مع عقول وأفكار من شتى بقاع الأرض، ونبني صداقات تتجاوز الحدود والمسافات، في تواصلٍ لم تعرفه البشرية بهذه السهولة من قبل.
مع كل هذا الانفتاح المذهل، يحق لنا أن نتساءل: هل يمثل هذا التطور نعمةً تُقرّبنا أكثر وتعمّق تواصلنا الإنساني؟ أم أنه يحمل وجهًا آخر، يخفي في طيّاته خطر ذوبان الخصوصية الثقافية واللغوية التي تضمن تنوع الحضارات واستمرارها؟ أود أن أتحاور معك عزيزي القارئ من خلال هذا الطرح، لنتأمل معًا الوجهين المختلفين لهذا التحول التكنولوجي الذي يعيد صياغة علاقتنا بالعالم وبأنفسنا.
حضرتُ قبل أيام حفل إطلاق منتجات شركة IFLYTEK أثناء معرض جايتكس في دبي؛ حيث عرضت سماعات وأجهزة ترجمة فورية محمولة تتحوّل بها محادثاتك مع شخص يتكلم لغة مختلفة إلى لغتك الأم، ويتحول الحوار الفوري إلى حوارٍ بلا فواصل أو حواجز لغوية تقريبًا. وهذه التقنية لا تنهي فقط الحاجة إلى مترجم بشري في بعض السياقات؛ بل تفتح أمام البشر بابًا جديدًا للتعرّف على عوالم وثقافات، وكم من دولة فكرت السفر إليها وكانت اللغة هي الحاجز الوحيد الذي يقف أمامك، ولكن مع الذكاء الاصطناعي بات الأمر ممكنًا وسهلًا، ولن أخوض اليوم في دقة الترجمة فمثل هذه التقنيات مازالت في طور التقدم والتطوير وستصل يومًا لما نصبوا إليه من ترجمة دقيقة وسلسة.
الذكاء الاصطناعي بات اليوم يتعرف فوريًا على اللهجات واللهجات الفرعية، وليس فقط يمكنه فهم اللغة الرسمية؛ بل طريقة النطق ومخارج الحروف أيضًا، ويومًا بعد يوم تصبح الآلة أكثر قدرة على فهم اللهجات واللغات، ومع استخدام الأجهزة المحمولة أو السماعات سيجعل الترجمة ترافقك في الطريق، في الاجتماعات، في السفر، في التبادل الثقافي، وأيضًا في المكالمات الهاتفية بحيث تتم الترجمة فوريًا في أذنك، والأجمل من كل هذا أن الذكاء الاصطناعي يتيح لك ليس فقط فهم ما يقول الآخر، بل أيضًا تلمّس إحساسه، ثقافته، عادات التعبير، وذلك من خلال محاكاة الذكاء الاصطناعي لصوت ونبرة المتكلم، وهذا يخلق احتكاكًا ثقافيًا أكثر عمقًا مما لو اعتمدنا فقط على وسيط بشري أو على الترجمة الكتابية التقليدية، وتخيل كيف يمكن نقل التجربة لتصبح تجربة تفاعلية يومية نستخدمها في كل شيء من حولنا، من موسيقى وأفلام ونقاشات ومحاضرات وندوات.
مع كل هذا السحر.. ثمة تساؤل يجب أن نعود لطرحه؛ هل هذا التطور نعمة للتعرف على ثقافات جديدة وللتقريب بين البشر، أم أنه يحمل في طيّاته مخاطر؟ هل ستُمحى خصوصية اللغة الأصلية وتختفي الفوارق التي تُميز الشعوب في طريقة التعبير؟ وهل سيصبح “التنوّع اللغوي والثقافي” مجرد تاريخ مسحته التقنية والآلة؟
هذه التساؤلات جميعها مهمة؛ فنحن كبشر حاولنا قدر المستطاع أن نحافظ على ثقافاتنا وتاريخنا عبر اللغة، ولطالما كانت اللغة بحد ذاتها ثقافة لها أسلوبها الذي يميزنا ويكسبنا نوعًا من الخصوصية، ولكن كل هذا معرض للذوبان في ظل تقنيات ستعطينا القدرة على التواصل بشكل أفضل من جانب وتسلبنا خصوصيتنا الثقافية من جانب آخر، إلا لو استطعنا أن نستغل التكنولوجيا والتقنية في المحافظة على موروثنا اللغوي والثقافي بدلًا من أن نمحيه وهذا جانب طويل قد نتناقش فيه في مقال قادم.
أتفقُ مع أن التكنولوجيا جعلت العالم أقرب ولكن علينا أن نستخدم هذا التقدم لنمهد لمساحات مشتركة من الفهم الفكري والتبادل الثقافي؟ وعلينا أن نستفيد من تقنيات الترجمة الخوارزمية أن صح تسميتها هكذا بلا أن نفقد اللغة والثقافة التي نمثلها، فقوة الثقافة ليست فقط فيما نترجمه وننقله عن الاخر بل فيما لا يُمكن ترجمته وهو ما يميز ثقافة عن أخرى، وهو ما يعطي أي شعب خصوصيته في الكثير من الجوانب.
في النهاية يجب أن نعترف بأن الذكاء الاصطناعي قد يمنحنا مفاتيح العالم، لكنه لن يمنحنا روحَه، وبالنسبة لي اللغة هي روح الثقافات، واللغة أكثر من مجرد أداة تواصل؛ إنها هويتنا وذاكرتنا المجتمعية، وتاريخنا كأمة، لذلك حين نعبر إلى المستقبل فلنعبر بأعين منفتحة على الآخر دون أن نغلق أعيننا عن أنفسنا، وأقصد هنا أنه لا يجب لنا الانخراط في فهم الآخر لدرجة أن نذوب نحن وسط ثقافته؛ بل يجب أن نحافظ على ثقافتنا ولغتنا حتى تعيش للغد.
رابط مختصر