قرية معركة إحدى أكبر القرى اللبنانية شرق مدينة صور في محافظة جنوب لبنان، تبعد عن العاصمة بيروت نحو 97 كيلومترا، وكانت تسمى قديما "نجمة الصبح"، ثم تغير اسمها إلى "معركة" بسبب ما شهدته أرضها من معارك وصراعات.

الموقع والمساحة

تقع قرية معركة في محافظة جنوب لبنان، شرق مدينة صور وتبعد عنها نحو 10 كيلومترات، وتبعد عن بيروت نحو 97 كيلومترا، وعن صيدا 55 كيلومترا.

ترتفع عن سطح البحر من 200 إلى 285 مترا، وتبلغ مساحتها 18 ألفا و360 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع).

تحيط بها الأودية والوديان من الجهتين الشمالية والجنوبية، مما أعطاها موقعا إستراتيجيا.

كانت معركة حتى سبعينيات القرن العشرين عبارة عن حارتين: شمالية وتسمى "الفوقا"، وجنوبية تسمى "التحتا"، وتصل بينهما الساحة العامة وشارع رئيسي يصل البلدة بغرب مدينة صور وشرق قرية جويا.

لاحقا توسعت مساحتها وأصبحت تمتد على أراضي القرى المجاورة لها، منها قريتا طورا ويانوح.

التسمية

كانت القرية قديما تسمى "نجمة الصبح"، ولكن تغير اسمها إلى "معركة" لكثرة المعارك التي شهدتها أرضها، أبرزها معركة خاضتها الجيوش العربية ضد الروم في فترة خلافة عمر بن الخطاب، كما كانت مسرحا لمعارك أثناء الحروب الصليبية أيام حكم الدولة الأيوبية.

وقيل أيضا إن اسم معركة باللاتينية يعني المخبأ والملجأ، إذ كانت ملاذا للسكان الفارين من صور وضواحيها هربا من الصليبيين، كما كانت ملجأ للثوار ضد الجيش الإسرائيلي.

وعرفت البلدة بأسماء وألقاب عدة، منها "ساحل معركة" عندما كانت إحدى مقاطعات جبل عامل، كما لقبت بـ"أم القرى وبوابة التحرير"، و"أم المقاومة" للدور الذي لعبته في مقاومة الانتداب الفرنسي والاحتلال الإسرائيلي.

قرية معركة اشتهرت منذ مطلع القرن الـ20 بوفرة إنتاج زيت الزيتون (مواقع التواصل الاجتماعي) الاقتصاد

اشتهرت معركة منذ مطلع القرن الـ20 بوفرة إنتاج زيت الزيتون، فقد افتتحت أول معصرة فيها عام 1910، وكانت تعتمد على الخيل والأيدي العاملة.

وفي عام 1936 توسعت زراعة الزيتون بشكل كبير لتوازي أعداد كروم التين المنتشرة في البلدة.

وبدأ أهل معركة بزراعة التبغ في خمسينيات القرن العشرين، بعد منح الحكومة اللبنانية تراخيص للقرى في جبل عامل، وحصلت القرية على 97 دونما من الأراضي الزراعية.

وأسهمت زراعة التبغ في إنعاش الاقتصاد المحلي، وفي تحويل المعاملة الاقتصادية في القرية من نظام المقايضة إلى النقد، مما أدى إلى تحسين الوضع العمراني، فبدأ السكان تغيير سقوف البيوت القديمة المصنوعة من الخشب والتراب وتحويلها إلى أسقف حديدية وأسمنتية.

وازدهرت زراعة الخضراوات في معركة، وبلغت ذروتها عام 1965، إذ غطّت الأراضي الزراعية معظم مساحة القرية، وحققت أرباحا كبيرة، وحظيت بشهرة واسعة في أسواق بيروت.

كما أصبحت شاحنات الخضار تتجه يوميا من معركة إلى بيروت، محملة بمختلف المحاصيل، مما أسهم في انتعاش اقتصاد القرية. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ودخول القوات الإسرائيلية جنوب لبنان عام 1982، تراجعت إنتاجية الزراعة.

وانتعشت القرية مرة أخرى بعد عودة المغتربين إليها ومساهمتهم برؤوس أموالهم لاستصلاح الأراضي البور وتحويلها إلى بساتين مزروعة بأشجار ومحاصيل مثمرة، مما دعم الزراعة والعمران مجددا في القرية.

التاريخ

أظهرت الاكتشافات الأثرية في قرية معركة وجود مقابر فينيقية تؤكد أن البلدة شهدت استقرارا بشريا منذ عصور قديمة، مما عكس عمق ارتباطها الحضاري بمدينة صور الفينيقية المجاورة.

وفي الحقبة الرومانية شهدت القرية تطورا في بنيتها التحتية، فقد استثمر سكانها في الأراضي الخصبة لتصبح مركزا زراعيا مزدهرا، وانتشرت كروم التين والزيتون.

وتشير الدراسات الأثرية إلى وجود شواهد تعود إلى الحقبة الرومانية في المنطقة، أبرزها بقايا معمارية رومانية من أعمدة ونقوش حجرية، كما عثر في أواخر ستينيات القرن الـ20 على رأس تمثال قيل إنه يعود للقائد القرطاجي حَنبَعل.

وعقب احتلال الإسكندر الأكبر للمنطقة عام 332 ق.م، أُلحقت المدن الفينيقية، بما في ذلك صور والقرى المحيطة بها، بالإمبراطورية اليونانية، وقيل إن القرية لقبت بمعركة في هذه الفترة، لمقاومتها هجوم الإسكندر على مدينة صور.

وفي العصور الوسطى، ومع دخول الإسلام إلى المنطقة في القرن السابع الميلادي، أصبحت معركة جزءا من الجغرافيا الإسلامية، فانتشر فيها الإسلام وترك آثارا دينية وثقافية واضحة في تاريخها.

قرية معركة إحدى أكبر القرى اللبنانية شرق مدينة صور في محافظة جنوب لبنان (مواقع التواصل الاجتماعي)

ومع انطلاق الحملات الصليبية، تأثرت القرية بالمعارك التي دارت جنوب لبنان بين الصليبيين والسكان المحليين، مما عزز ارتباط اسمها بالأحداث القتالية التي شهدتها أراضيها، وأكسبها دلالة رمزية تعبر عن المقاومة والصمود.

وفي عهد الدولة العثمانية، كانت معركة جزءا من ولاية صيدا التي ضمت معظم مناطق جنوب لبنان، واتبع العثمانيون نظام إدارة قائم على الإقطاعيين المحليين لجمع الضرائب، مما أثقل كاهل القرى الجنوبية، بما فيها معركة، بالضرائب الباهظة التي شكلت عبئا اقتصاديا على سكانها، ودفعتهم إلى رفض الوجود العثماني.

وبعد سقوط الدولة العثمانية عام 1920، وُضعت لبنان تحت حكم الانتداب الفرنسي، فانخرط أهالي معركة في الحركات المناهضة للاحتلال، تعبيرا عن رفضهم للاستعمار ودعما لحركات التحرر الوطني.

الانتداب الفرنسي

مع بداية الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1920، شهدت معركة تغييرات سياسية وإدارية كبيرة أثّرت على حياة سكانها، إذ فرضت السلطات الفرنسية سياسة المركزية (تركيز السلطة والقرارات في يد الحكومة المركزية)، الأمر الذي انعكس سلبا على إدارة المناطق المحلية.

واقتصاديا، واجه سكان القرية، وخاصة الفلاحون، تحديات كبيرة نتيجة فرض ضرائب جديدة وإعادة توزيع الأراضي والسيطرة عليها، مما زاد من معاناتهم، فقد كانت الزراعة مصدر رزقهم الأساسي.

وعسكريا، عززت السلطات الفرنسية وجودها في الجنوب اللبناني، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين السكان المحليين والقوات الاستعمارية.

وسياسيا واجتماعيا، تأثرت معركة بظهور الحركات الوطنية والقومية التي دعت للاستقلال عن الانتداب الفرنسي، كما شارك عديد من سكان القرية في دعم هذه الحركات والمطالبة بالحرية.

المواجهات ضد إسرائيل

تعرضت معركة لاعتداءات عسكرية إسرائيلية استهدفت البنية التحتية والسكان تحت ذريعة مواجهة الأنشطة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية.

وكانت القرية عام 1984 شاهدة على انطلاق شرارة المواجهات الأولى بين اللبنانيين والجيش الإسرائيلي فيها.

ورغم انتشار القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني والبقاع الغربي، عجز الاحتلال عن فرض سيطرته على معركة.

وانطلاقا من قرية معركة، توسعت رقعة التحرير لتشمل 6 قرى مجاورة، وهي طورا وبدياس وبرج رحال والعباسية ويانوح وطيردبا، مما عزز من زخم المقاومة اللبنانية في مواجهة الاحتلال.

دور النساء في المقاومة

كانت معركة رمزا للصمود والتحدي أمام الوجود الإسرائيلي، وأسهمت في تعزيز الروح الوطنية بين اللبنانيين رغم محاولات إسرائيل القضاء على المقاومة.

ولعبت نساء القرية دورا في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية، إذ استخدمن الزيت المغلي للدفاع عن منازلهن وأحيائهن من الجنود الذين اعتادوا اقتحام البيوت والتضييق على السكان لفرض سيطرتهم بالقوة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات جنوب لبنان قریة معرکة مدینة صور

إقرأ أيضاً:

اللغة والهوية.. ركيزتان في معركة الوجود القومي وبناء الدولة الحديثة.. كتاب جديد

الكتاب: لسان الضَّاد: اللُّغة وسيلةٌ في الهوية وتمكين ٌ للقومية- قراءة في الانتماء والقومية و الهوية
الكاتب: الدكتور الشيخ علاء الدّين زعتري
الناشر: دار رواد المجد، دمشق،طبعة أولى 2025،(عدد الصفحات112 من الحجم الوسط)


في تعريف الأمة: كل جماعة يجمعهم أمرًا ما-إمَّا دينٌ واحدُ، أو مكانٌ واحدٌ، أو زمانٌ واحدٌ.وليس يلزم في الأمة أن تكون الجماعة جماعة بشريةٌ، فقد تكون من الطير، ومن الحيوان. جاء في القرآن الكريم: "وما من دابةٍ في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه، إلاَّ أمم أمثالكم..".

الأمة في اللغة تعني الجيل والجنس من كل حي. وردت كلمة الأمة بالمفرد52 مرّة، وبالجمع 13 مرّة، في القرآن والسنة للدلالة على جميع المسلمين في كل مكان أو زمان. وقد يطلق لفظ الأمة ويراد به جميع المسلمين في وقت معين، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ستكون هنات، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان".

إنَّ لفظ الأمة قديم في اللغة العربية وشاع منذ ظهور الإسلام في بداية القرن السابع. وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في مراجع كثيرة. لكنه من الألفاظ الحديثة في تاريخ أوروبا. ولم يتفق الفقهاء على تعريف محدد للأمة.

بالتعريف الحديث للأمة: هي جماعة أثنية من البشر لها خصائص تربط بين أفرادها برابطة الانتماء والولاء لها من خلال وشائج التاريخ المشترك، والعادات والتقاليد، واللغة، والثقافة،والدين، والحضارة، وتُميزها هذه الخصائص عن غيرها.

هناك شبه إجماع على أنَّ تاريخ الأمم القديمة، التي ظهرت على مسرح التاريخ وكونت إمبراطوريات مثل الصين والعرب، ليس بالتأكيد هو تاريخ الأمم الأوروبية. وهذا الاختلاف الجوهري نفهمه مما كتب ماركس وإنجلز عن العرب والهنود غيرهم من شعوب الشرق. فالأمم قديمة وعالمية، وتاريخها طويل جداً ومتنوع. تاريخ الشعوب بعد ظهور الإنسان النوع هو، جوهرياً، تاريخ تكوّن الأمم. من التعريفات التي تناولت مصطلح الأمة ورد في موسوعة ديدور الفرنسية من أن الأمة هي "اسم جنس يدل على مجموعة كبيرة من الناس، يعيشون على قطعة من الأرض، داخل حدود معينة، ويخضعون لحكومة واحدة" .هناك شبه إجماع على أنَّ تاريخ الأمم القديمة، التي ظهرت على مسرح التاريخ وكونت إمبراطوريات مثل الصين والعرب، ليس بالتأكيد هو تاريخ الأمم الأوروبية. وهذا الاختلاف الجوهري نفهمه مما كتب ماركس وإنجلز عن العرب والهنود غيرهم من شعوب الشرق. فالأمم قديمة وعالمية، وتاريخها طويل جداً ومتنوع. تاريخ الشعوب بعد ظهور الإنسان النوع هو، جوهرياً، تاريخ تكوّن الأمم. من التعريفات التي تناولت مصطلح الأمة ورد في موسوعة ديدور الفرنسية من أن الأمة هي "اسم جنس يدل على مجموعة كبيرة من الناس، يعيشون على قطعة من الأرض، داخل حدود معينة، ويخضعون لحكومة واحدة" .

إنَّ مشكلة هذا التعريف تتمثل في اعتبار جميع رعايا الدولة الواحدة أمة واحدة، بصرف النظر عن انقساماتهم الإثنية والقومية. لقد كانت ألمانيا، قبل إنجاز الثورة الديمقراطية البرجوازية، مجزأة إلى عدة دويلات صغيرة، فهل يعقل أن نعتبر سكان برلين وبون وفرانكفورت من أمم مختلفة لأنهم ينتسبون إلى دول مختلفة؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت تضم عدة أقوام مثل الأتراك والعرب والأرمن والبلغار والأكراد.. إلخ فهل يعقل، أيضاً، أن تعتبر هذه الأقوام كلها أمة واحدة لأنهم يخضعون لدولة واحدة؟.

لذلك علينا، ومع احترامنا لما تذهب إليه بعض النظريات الحديثة في الأمة من أنَّ هذه الأخيرة لا توجد إلا في الدولة، أنْ نميّز بين تشكّل الأمة عبر سيرورة تاريخية معقدة وبين وجود الدولة. فمن الممكن جدّاً أن تكون الأمة موجودة من دون تحقيق وحدتها السياسية في إطار "الدولة الحديثة".لكل أمة خصائص معينة، وإنَّه لمن الصعب إحصاء العناصر التي تتكون منها الأمة، ومن المستحيل قياس المكونات غير المحسوسة فيها.

يمكن القول إنَّ الأمةَ جماعةٌ من الناس لها خصائصها ومكوناتها هي: منطقة جغرافية، والرغبة في العيش سوياً أي وحدة المشيئة والإدارة، واللغة المشتركة، والعادات والتقاليد وحدة الثقافة والتاريخ المشترك.

ولكنَّ لا يمكن أن توجد أمة إذا اختفت كل هذه العوامل. ولا بد للأمة من رقعة من الأرض المستقلة تسكنها. وقد تتكون دولة واحدة في هذه المنطقة وبالتالي تنشأ الدولة الأمة أي القومية.

وقد تكون الأمة خاضعة لعدة دول كما هو الحال في الأمة العربية والألمانية سابقاً والكورية. ويعتبر التاريخ والعادات والتقاليد ووحدة الثقافة واللغة من أهم العوامل التي تخلق شعور القرابة المعنوية بين أبناء الأمة.

تعتبر قدرة أبناء الأمة على الاتصال من أهم مكوناتها، واللغة من أهم عوامل الاتصال والتماسك الاجتماعي، ذلك أنَّها تُقَرِّبُ بين السكان وتساعدُ على تفاهمهم وترابطهم. ولا تقتصر مكونات سهولة الاتصال بين أبناء الأمة على اللغة بل تشتمل أيضاً على الآداب والثقافة والعادات والتقاليد الاجتماعية والذكريات المشتركة. ويتضمن نمو الأمم تكثيف عمليات الاتصال بين أفرادها وتوسيع رقعته وتعميقه.

في هذا الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي: "لسان الضَّاد يجمعنا" لمؤلفه الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري، والصادر حديثا عن دار رواد المجد في دمشق،ويتألف من مجموعة نصوص قيمة تتمحور معظمها حول الهوية الثقافية العربية،واللغةالعربية والهوية القومية،والعروبة وضرورة الانتماء، والجمع بين القومية العربية والدين،يحاول  الكاتب أن يقدم لنا قراءة موضوعية حول مجموعة العوامل الروحية والمادية التي تُوجِدُ نفسية مشتركة بين الجماعات والشعوب، أليست هي القيم الأكثر سمواً والتي يعيش البشر من أجلها، ويناضلون دفاعاً عن وجودهم ومصيرهم وحريتهم ضمن انتماءات توحدهم، وتميزهم عن غيرهم.

اللغة العربية عنوان الهوية

في الهوية نحدِّدُ شخصيتنا من نكون وماذا نريد، وفيها نحدد طبيعة تفكيرنا، ومن خلالها نضع أسس مشروعنا للمستقبل. إن الهوية الثقافية تُعد أداة القوة والتقدم، كما إنها تشكل عاملاً أساسياً في الضعف والتفكك.فهناك اهتمام بالغ بموضوع الهويات الثقافية في العصر الراهن، إذتستخدمها القوى الاستعمارية الجديدة وسيلة فاعلة للهيمنة على العالم بتفكيك الهويات الوطنية والقومية إلى كيانات صغيرة متصارعة من جهة، وفرض هويتها على شعوب العالم من جهة أخرى.

كما حدث في تفكيك الاتحاد السوفياتي إلى كيانات قومية، وتفكيك دول أوربا الشرقية إلى دول صغيرة تقوم على أسس عرقية، وكما حدث في العراق الشقيق؛ فلم يتم غزوه واحتلال أرضه إلا بعد أن تم تنمية الهويات الطائفية التي أدى ظهورها إلى انهيار الدولة وانهيار كل الروابط الاجتماعية والوطنية بين أبناء الشعب الواحد.

وفي المقابل ستكون الهوية الوطنية والقومية هي السلاح الأكثر فاعلية للشعوب الضعيفة؛ للدفاع عن وجودها وشخصيتها، واستقلالها؛ بتأكيد ثوابت الهوية الوطنية والقومية، وتنمية روح الولاء للوطن والأمة، دون أن يعني ذلك الانغلاق على الآخر؛ والانكفاء حول الذات؛ بل يتعين تأكيد الذات من جهة؛ وتحديد شروط التعامل مع الآخر من جهة أخرى.

إن التمركز حول الذات يُعد مرحلة ضرورية؛ لتحديد الذات؛ لهويتها، وتحديد أهدافها، ورؤاها للمستقبل، وتحديد عوامل النهوض والتقدم، ثم تأتي مرحلة الانفتاح على الآخر لكي نحقق وجودنا معه؛ انطلاقاً من علاقة إنسانية تقوم على قاعدة من فلسفة التنوع والاختلاف (السنة الكونية) التي تعترف بالآخر.

كما لا يخفى ما فَرَضَتْه العولمة على معظم الدول النامية منها؛ وبخاصة تهديد ثقافتها، وتهميش متعمد ضار للخصوصيات الحضارية المميزة لتاريخها حتى صارت هذه الدول في بؤرة الصراع رغم محاولاتها المستميتة للبعد عنها.

ولقد انتقل هذا الصراع من المجالات العسكرية والاقتصادية إلى مجال أكثر حساسية وهو مجال الهوية، ومنظومة القيم، مما يُعد أخطر ما يواجهه الإنسان لما له من تأثير مباشر في صياغة الذهنيات، وقوى في بناء التصورات وتغير المفاهيم.

إن الحضارات القديمة بكل ثقافاتها وأديانها وقيمها هي الهدف القادم لهجوم المدنية الأورو - أمريكية البازغة، مُصِرَّةً على فرض هيمنتها، وبسط ثقافاتها، ونشر نمطها، وإظهار نموذجها، وتحقيق مشروعها، في كل أرجاء العالم.

هذه المدنية الليبرالية الحديثة تشعر أنها -في الواقع- هي المنتصرة السائدة المالكة لكل عناصر التقدم، وإمكانات بناء القوة وممارستها بكل عناصرها الفكرية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.

إن الهوية الثقافية تُعد أداة القوة والتقدم، كما إنها تشكل عاملاً أساسياً في الضعف والتفكك.فهناك اهتمام بالغ بموضوع الهويات الثقافية في العصر الراهن، إذتستخدمها القوى الاستعمارية الجديدة وسيلة فاعلة للهيمنة على العالم بتفكيك الهويات الوطنية والقومية إلى كيانات صغيرة متصارعة من جهة، وفرض هويتها على شعوب العالم من جهة أخرى.ومن ثُمَّ؛ فإنها تسعى إلى بسط قيمها، وتعميم ثقافتها على باقي الحضارات والثقافات والشعوب.

إن من أهم الأمور التي تُلح على الإنسان العربي في هذه الأيام، وأولها هو تعزيز حضوره الفعال وتثبيت هويته الخاصة به في ساحات المعترك الحقيقي، الذي يعيشه العالم؛ وبالتحديد معترك الصراع الذي يحتدم ـ على مستوي الكرة الأرضية كلها ـ بين الثقافات المختلفة، بين (وجود، حضور) ثقافة و(اندثار) ثقافة أو ثقافات أخرى.

يقول الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري:" وكانت اللغة العربية هي الحروف التي يكتب بها الأتراك والروس والأوروبيون والهنود والأفارقة إلى وقت قريب.فعودة اللغة العربية إلى سابق مجدها يعني بالضرورة تمسك الأمة بلغتها!

للغة أهمية كبيرة من حيث الترابط والتواصل بين الشعوب والحضارات ونعرض هذه الأهمية بخصوص اللغة العربية:للغة العربية قدرة كبيرة على دعم جميع العلوم في مختلف مجالاتها.

اللغة العربية رابط بين الحضارات والشعوب الأخرى حول العالم.إنها واحدة من أقدم اللغات التي تتمتع ببحر من الخيال المتطور.

لقد رميت اللغة العربية بسهام الأعداء وبعض الأبناء، فوصفوها بالصعوبة ونعتوها بالغموض والجمود، وحاولوا تهميشها في واقع الحياة، وتباهوا برطانة الأعاجم، وعزف كثير من الطلاب عن دراسة اللغة العربية، وتبرموا من مناهجها الدراسية، وانحدر مستوى مادة القواعد العربية والنحو والصرف، وكثرت الأخطاء في كلام الخطباء والكتاب، حتى إنك لا تكاد ترى رسالة في دائرة أو شركة إذا كتبت بالعربية إلا وهي مملوءة بالأخطاء."(ص 35).

اللغة العربية والتعريب في عصر الثورة العلمية والتكنولوجيا

من هذا المنظار فإنَّ خيار التعريب له علاقة عضوية مباشرة بخيار التعليم، ولأن التعليم إذا قيض له أن يسهم إسهاما ً حقيقيا ً في تكوين الإنسان من المدرسة إلى الجامعة، باعتباره إنتاجًا للبشر، الذي لا يعطي ثمارًا إلا بعد سنوات طويلة، حيث تمتص المجالات المتعددة الاقتصادية والسياسية والثقافية كل الكوادر المقتدرة والموهوبة، يتطلب أنْ يكون ضمن سياسة وطنية ثورية وقومية ديمقراطية شاملة للحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والوطنية في العالم العربي عامة، أولا يكون .إذا ً، فالتعريب في البلاد العربية عامة، هو مسألة لها علاقة عضوية مباشرة باهتمام الدولة الوطنية بسياسة المواطن ماديا ً، وفكريا ً، أولا ًوأساسا ً.فالتعريب ليس مجرد برنامج يطبقه هذا الوزير أو ذاك، بل هو اختيار أيديولوجي وسياسي وثقافي واعي للأمة العربية، لكي تخوض المعركة الفكرية والثقافية والتعليمية، بين الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الغربية المهيمنة، علمًا أن سلاحنا في هذه المعركة (نحن دعاة التعريب) ضعيف بحكم قانون التفاوت في التطور على صعيد الإمكانات الثقافية والحضارية بيننا وبين الغرب .

إنَّ طابع التخلف الذي يطبع لغتنا العربية عامة، وخيار التعريب، نابعٌ بشكل أساس من التأخر التاريخي لمجتمعاتنا العربية. ولما كانت اللغة العربية، عبر مسارها التاريخي بنية تحتية أسست لظهور المجتمع المدني، وتبلور فكرة الأمة، ضد كل التوصيفات الماركسية التي تعتبرها جزءا ًمن البنية الفوقية فقط، فإنَّها تشكل الآن أكثر من أي وقت سبق المعبر الرئيس الذي تنتقل به المجتمعات العربية من حالة التأخر التاريخي إلى التقدم، ومن القعود إلى النهوض.

إنَّ طابع التخلف الذي يطبع لغتنا العربية عامة، وخيار التعريب، نابعٌ بشكل أساس من التأخر التاريخي لمجتمعاتنا العربية. ولما كانت اللغة العربية، عبر مسارها التاريخي بنية تحتية أسست لظهور المجتمع المدني، وتبلور فكرة الأمة، ضد كل التوصيفات الماركسية التي تعتبرها جزءا ًمن البنية الفوقية فقط، فإنَّها تشكل الآن أكثر من أي وقت سبق المعبر الرئيس الذي تنتقل به المجتمعات العربية من حالة التأخر التاريخي إلى التقدم، ومن القعود إلى النهوض.والحال هذه، فإنّ اللغة العربية ليست عاجزةً عن استيعاب وتعلم العلوم الدقيقة، لاسيما الرياضيات العليا، والفيزياء النووية، والهندسة الوراثية، والميكانيك المعقدة. ولأنَّ هذه العلوم والرياضيات عبارة عن مصطلحاتٍ وأرقامٍ ورموزٍ تترجم أحيانا ً إلى اللغات الآخذة، وتنقل كما هي أحيانًا أخرى من اللغات المأخوذة عندما تكون أسماء عالمية تستعمل بنفس اللفظ أو الرمز في جميع اللغات. واللغة العربية لكي تكتسب كل خصائص اللغات العلمية الحية والمعاصرة والحديثة، وتدخل حلبة التنافس، تحتاج الى التأهيل العلمي واللغة والمستوى العلمي مترابطان، إذا لا يمكن للإنسان العربي أن يعيش بعقله في جهل القرون الوسطى، وعصور الانحطاط، بينما في لسانه يعيش في عصر الذرة والكمبيوتر والأنترنت. فحياة اللغة العربية، مرتبطة بالتحرر الراديكالي للأمة العربية في كل مجالاته أولا، وبحياة الفكر والثقافة المبدعين ثانيا ً .

وهكذا تبدو حياة اللغة العربية مرتبطة بالثورة الفكرية والثقافية الشاملة، على الصعيد العربي، وبالثورة السياسية، التي تؤسس لبناء مجتمع مدني حديث، بالتلازم مع بناء دولة الحق والقانون. ومن هذا المنظار تصبح حياة اللغة العربية هي تحقيق تحرر وحرية الشعوب العربية من الاستبداد والتبعية والتخلف.

إنَّ خيارَ التعريب كلٌّ لا يتجزأ، فهو لا يتم في التعليم وحده، ولا في اللغة على انفراد، بل يتم في جميع مؤسسات المجتمع، تسيره قوانين حازمة بعيدة عن التمتع بالرخاوة البرجوازية والثقافة الأمريكية المهيمنة . إنه ليس سؤالا ً ثقافيا ً، ولا سؤال يهم فقط المثقفين العرب وفي مقدمتهم القائمين بعلم الاجتماع واللغة العربية، لكي تحقق قفزة نوعية في تطورها التاريخي، ولكي تتجاوز تأخرها التاريخي، حيث أن التعريب على صعيد المناهج العلمية والتكنولوجية، خيار واحد من المعضلات الأساسية التي تواجه القوى القومية، والديمقراطية العربية، ويتطلب حلا ً ثوريا ً صحيحا ً.

 هناك تلازمٌ بين اللغة، باعتبارها أهم وأخطر أعضائنا العقلية، وبين محتواها الفكري والحضاري، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، ولهذا فإنّ اللغة، والمجتمع المدني، ودولة الحق والقانون مقولات تتقدم معا ً، وتتراجع معا ً أيضا ً.ولكي تسهم اللغة العربية في الإنتاج العلمي والتكنولوجي، يترتب على المثقفين العرب باللغات الانكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات الحية، أنْ لا تنحصر مهمتهم العلمية، في نقل المصطلحات الأجنبية وشرحها للطلاب فقط، بل إنَّ مهمتهم الأساسية هي توخي استراتيجية للترجمة طويلة الأمد لنقل الروح العلمية والتخليق التكنولوجي إلى اللغة العربية، لكي تصبح لغتنا العربية، بعد أنْ تهضم هذه الترجمة بالتوازي مع مواكبتها لتطور العلوم الدقيقة والتكنولوجية، قادرة على عملية التخليق العلمي والتكنولوجي، على الرغم من الصعوبات البنيوية الناتجة عن طبيعة مجتمعاتنا العربية المتأخرة تاريخيا، والمتسمة بالفوضى والإهمال ..

يقول الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري:"لقد رميت اللغة العربية بسهام الأعداء وبعض الأبناء، فوصفوها بالصعوبة ونعتوها بالغموض والجمود، وحاولوا تهميشها في واقع الحياة، وتباهوا برطانة الأعاجم، وعزف كثير من الطلاب عن دراسة اللغة العربية، وتبرموا من مناهجها الدراسية، وانحدر مستوى مادة القواعد العربية والنحو والصرف، وكثرت الأخطاء في كلام الخطباء والكتاب، حتى إنك لا تكاد ترى رسالة في دائرة أو شركة إذا كتبت بالعربية إلا وهي مملوءة بالأخطاء.

للغة العربية بعد وحدوي للأمة، وبخاصة في الصراع العربي الصهيوني، كما كان دوره بارزاً مع حركة التتريك في أواخر العهد العثماني في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.فمعظم النظريات القومية العربية ترتكز على أن اللغة مكون أساسي إن لم تكن هي المكون الأساسي في تشكيل الهوية القومية العربية.ولقد أعطى الفكر القومي العربي المكانة الثقافية والسياسية اللائقة للأمة العربية في العصر الحديث، كما كان للغة العربية دور مركزي في تشكيل الهوية القومية العربية في العصر الحديث.ومن المهم الربط بين ماضي اللغة العربية بالحاضر، حيث يعمل الماضي على تعميق مركزية اللغة، والوعي بها في إطار الهوية الراهنة"(ص37).

مقالات مشابهة

  • إيران، وإسرائيل وأمريكا: معركة إعادة الاعتبار للحقائق الاستراتيجية
  • الحرب على إيران.. نهاية معركة تمهد لجولة قادمة
  • في بلدة لبنانية.. معركة بالسكاكين!
  • معركة القوات قانون الانتخاب أوّلاً وتواصل جعجع وسعَيْد شخصيّ
  • لهو الأطفال يورط 7 متهمين في معركة بالمولوتوف بكرداسة .. تفاصيل
  • خلاف على مزرعة.. إصابة شخص في معركة بالأسلحة بمدينة الصف
  • النساء في السودان .. ضحايا العنف الجنسي والاقتصادي
  • مقررة أممية تصف دور الإمارات في حقوق المرأة بـ«الاستثنائي»
  • اللغة والهوية.. ركيزتان في معركة الوجود القومي وبناء الدولة الحديثة.. كتاب جديد
  • 18 سفيرة فقط... متى تتحقّق المناصفة في التمثيل الدبلوماسي؟