تحرير القصر.. كيف نفهم تقدم الجيش السوداني وفرار كتائب حميدتي؟
تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT
تتفاوت أراضي الدولة الواحدة في الأهمية، فأراضي منطقة نائية لا موارد فيها أو سكان ولا تتمتع بموقع إستراتيجي، ليست كأراضي منطقة أخرى كثيفة السكان أو غنية بالموارد أو تقع في مكان إستراتيجي. كذلك المدن الكبرى أكثر أهمية غالبا من المدن الصغرى لما تمتع به من مركزية سياسية واقتصادية واجتماعية، بينما تحتل الأماكن السيادية أهمية بالغة داخل المدن الكبرى مقارنة بغيرها من الأماكن، ولذا تخصص لها حراسات مشددة، وتكون بؤرة الأحداث والاجتماعات السياسية رفيعة المستوى وزيارات كبار المسؤولين كما هو حال البيت الأبيض في واشنطن أو الكرملين في موسكو أو حتى القلعة قديما في مصر.
في ضوء ما سبق تعكس سيطرة الجيش السوداني على القصر الرئاسي وسط الخرطوم أهمية بالغة في مسيرة الحرب مع قوات الدعم السريع التي سبق أن بدلت مهمتها من حماية القصر الرئاسي قبل اندلاع الحرب إلى السيطرة عليه صباح 15 أبريل/نيسان 2023، وبالإضافة إلى سيطرتها على المنطقة المحيطة به، والتي تضم سفارات دول أجنبية، وعددا من الوزارات والمؤسسات الحكومية، فضلا عن "السوق العربي" الذي يعد أحد أبرز أسواق الخرطوم حيث تنتشر فيه محلات بيع الأجهزة الكهربائية والهواتف المحمولة وصرافي العملات الأجنبية، كما يضم "مول الواحة" الذي يُعد مع نظيره مول "عفراء" أمام الساحة الخضراء قرب المطار أبرز مكانين للتسوق والتنزه في الخرطوم قبل اندلاع الحرب.
بحلول منتصف عام 2024، بدا أن قوات الدعم السريع لها اليد العليا ميدانيا، حيث سيطرت على أجزاء واسعة من العاصمة بما فيها القصر الرئاسي والمطار، وعلى 4 ولايات من ولايات إقليم دارفور الخمسة، كما حاصرت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور المتبقية بيد الجيش وحلفائه بالقوة المشتركة المُشكّلة من فصائل دارفور المتمردة سابقا، وكذلك سيطرت على ولاية الجزيرة وعاصمتها مدينة ود مدني حاضنة السوادان الزراعية، وتمددت إلى جنوب شرق البلاد بالسيطرة على مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار، وولاية غرب كردفان، ومناطق شاسعة في شمال كردفان والنيل الأبيض والنيل الأزرق، لتوشك أن تفتح مسارات تلقي إمداد جديدة عبر الحدود مع إثيوبيا وجنوب السودان، في حين انحصرت سيطرة الجيش في شرق وشمال البلاد، ولاحت بوادر مرحلة جديدة في تاريخ السودان تعاد فيها تشكيل موازين القوة وتوزيع السلطة.
ولكن أعادت قيادة الجيش تموضعها داخليا وخارجيا، فرحبت بظاهرة "كتائب المستنفرين" التي تشكلت شعبيا كرد فعل على انتهاكات الدعم السريع في ولاية الجزيرة التي تضمنت نهب ممتلكات السكان وقتل العديد منهم، وقد لعب الإسلاميون دورا كبيرا في تشكيل تلك الكتائب بالاستفادة من خبرتهم السابقة في قوات الدفاع الشعبي، ومن دورهم في هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات العامة التي حُلت بقرار سابق من عبد الفتاح البرهان -قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة- أمر فيه بتسليم معسكراتها وأسلحتها لقوات الدعم السريع، قبل الخلاف مع قائدها حميدتي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل ساهمت منصات التواصل في زيادة الهوس بالذات؟list 2 of 2كيف يكون وصول النرجسي إلى السلطة مدمرا؟end of list إعلانكذلك بدأ تبادل زيارات بين قادة الجيش ومسؤولي الحكومة السودانية وبين نظرائهم الروس والصينيين، وعاد الحديث عن منح روسيا قاعدة بحرية في بورتسودان، وأُعيدت العلاقات المقطوعة مع طهران، فزار وزير الخارجية السوداني إيران وتبادل البلدان فتح سفارتيهما، وجرى تنشيط العلاقات العسكرية مع تركيا التي زارها البرهان، ووُطدت العلاقات مع الجزائر التي استشعرت الخطر من تأثير الحرب في السودان على استقرار منطقة الساحل والصحراء، إضافة لكل ذلك تم مد الجيش السوداني بأسلحة حديثة في مواجهة التسليح المتطور الذي يصل الدعم السريع من أطراف إقليمية.
مع توافر الدعم البشري، المتمثل في أفراد الجيش والمخابرات العامة والقوة المشتركة وكتائب المستنفرين، والتسليح النوعي لاحقا من الدول الصديقة، بدأت قيادة الجيش تعد لهجوم مضاد يستهدف صد تقدم قوات الدعم السريع ثم استعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم، وصولا للعمل مستقبلا على فك الحصار عن ولاية شمال دارفور، ومهاجمة الدعم السريع في معقله بإقليم دارفور.
بدأ هجوم الجيش المضاد بحملة جوية استهدفت قوافل إمداد الدعم السريع القادمة من تشاد وليبيا، وقصف بالطائرات المسيرة وبعمليات نوعية ضد ارتكازات الدعم السريع في الخرطوم، لاستنزاف قوات حميدتي وقطع خطوط إمداده.
وبدأ الجيش عملية برية منتصف العام الماضي استعاد خلالها بعد معارك عنيفة مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار جنوب شرق البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ثم مدينة "ود مدني" وسط السودان مطلع العام الجاري، وانطلاقا من ولاية الجزيرة بدأ التحرك لدخول الخرطوم، بالتزامن مع فتح محاور قتال داخل العاصمة تحركت أيضا خلاله قوات الجيش من داخل مواقعها المحاصرة. ونجحت القوات المتحركة من محور الخرطوم بحري في يناير/كانون الثاني 2025 بفك الحصار عن مقر "سلاح الإشارة" في الخرطوم بحري ثم عبور النيل الأزرق للالتقاء بالقوات المحاصرة داخل مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بوسط الخرطوم، وزار البرهان مقر القيادة العامة بعد ساعات من فك الحصار معلنا بدء معركة استعادة الخرطوم والقضاء على قوات الدعم السريع داخلها.
إعلانوبحلول تلك الآونة أصبحت الدفة بيد قوات الجيش التي تمتعت بحرية حركة وخطوط إمداد مفتوحة مع شمال وشرق البلاد، وتمكنت من السيطرة على مدينة "بحري" لتضاف إلى سيطرتها على أغلب مدينة "أم درمان" في حين انحصرت قوات الدعم السريع وسط الخرطوم. ودشن الجيش الفصل الأخير بشنه هجوما من 3 محاور على وسط الخرطوم تمكن خلاله من السيطرة على القصر الجمهوري والسوق العربي ومقرات الوزارات والمؤسسات الحكومية، وليقترب بذلك من حسم معركة الخرطوم بشكل نهائي، مما يمهد لبدء عودة مؤسسات الدولة من بورتسودان إلى العاصمة، وهو ما يعزز شرعية الجيش، وينقل الصراع ضد الدعم السريع إلى مربع جديد.
مع تبلور مؤشرات تغير المشهد الميداني في العاصمة بحلول بداية العام الجاري، برزت معركة سياسية موازية، فعقدت الأحزاب الداعمة للجيش السوداني مشاورات في مدينة بورتسودان توجت بإعلان عبد الفتاح البرهان في الثامن من فبراير/شباط الماضي شروعه في تشكيل حكومة تصريف أعمال والتجهيز لتعديل الوثيقة الدستورية الصادرة في عام 2019، وهو ما حدث بالفعل بعد أسبوعين عبر اعتماد وثيقة دستورية تنص على تمديد الفترة الانتقالية لمدة 39 شهرا من تاريخ نشرها، وتشكيل مجلس السيادة من 11 شخصا يعين الجيش 6 أشخاص منهم إضافة إلى بنود أخرى.
وفي المقابل، حشد "الدعم السريع" الأحزاب والتجمعات السياسية والمسلحة المتحالفة معه في اجتماع بمركز كنياتا الدولي للمؤتمرات في العاصمة الكينية نيروبي بتاريخ 22 فبراير/شباط الماضي، وخلص المؤتمر إلى التوقيع على "ميثاق تأسيسي" يمهد للإعلان عن دستور مؤقت وتشكيل حكومة في مناطق سيطرته، مما أثار المخاوف بتكرار النموذج الليبي في السودان، وتشكيل حكومتين يتنازعان السيطرة على البلاد.
إعلانأسفر مؤتمر نيروبي عن عدة تداعيات في مقدمتها تفكك تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية المعروفة اختصارا باسم "تقدم" إلى قسمين، والتي تزعمها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، إحداهما تُدعى "صمود" بقيادة حمدوك وترفض تشكيل حكومة موازية، والأخرى تُدعى "تأسيس" وتدعم تأسيس حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع. وكذلك سارع السودان لسحب سفيره من كينيا، كما أصدر قرارا بمنع دخول البضائع والواردات الكينية متهما الرئيس الكيني روتو بدعم مخطط لتقسيم السودان.
ولتقويض مشروع الحكومة الموازية، قام البرهان في شهر مارس/آذار الجاري بجولة زيارات خارجية شملت جيبوتي وأوغندا ورواندا وجنوب أفريقيا، لحث الدول المذكورة على دعم موقف السودان باستعادة مقعده في الاتحاد الأفريقي المجمد منذ عام 2021، في حين شددت مصر على دعمها لوحدة السودان. ولا يُرجح أن تنجح مساعي الدعم السريع في جلب اعتراف إقليمي ودولي واسع بحكومته المزمعة في ظل اضطراب الأوضاع بمناطق سيطرته، وانتشار الفوضى وعمليات النهب بها، فضلا عن فقدانه للسيطرة على ولايتي الجزيرة والخرطوم، وبدء انحصاره في إقليم دارفور.
اتجاه الأحداثلا تحسم سيطرة الجيش السوداني على الخرطوم صراعه مع الدعم السريع رغم أهميتها العسكرية والسياسية، حيث تدعم الأسلحة المتدفقة على الدعم السريع مخطط تقسيم البلاد بعد فشل مخطط السيطرة على كامل أراضي السودان. ولذا يحاول الجيش حسم المعركة في شمال كردفان كي ينطلق منها ومن الولاية الشمالية لفك الحصار عن الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، ولكي يبدأ معركته الأخيرة لاستعادة ولايات شرق وجنوب ووسط وغرب دارفور، بهدف منع الدعم السريع من السيطرة على كامل إقليم دارفور الذي يمثل أكثر من ربع مساحة السودان.
ويواجه السودان تحديات إضافية، فاستعادة الجيش للخرطوم وسيطرته على أغلب ولايات السودان، سيفتح الباب لمناقشة المستقبل السياسي للبلاد، وهنا ستبرز التناقضات داخل التحالف الداعم للقوات المسلحة، فالإسلاميون الذي تعرضوا للتهميش بعد عزل الرئيس السابق عمر البشير، أصبحوا الطرف الأبرز في القتال ضد قوات الدعم السريع، وبرزت كتيبة البراء بن مالك بقيادة المصباح أبو زيد في معركة استعادة القصر الجمهوري، وبالتالي لن يكون مقبولا من طرفهم تعرضهم للتهميش مجددا بعد ما قدموه في المعركة.
إعلانكذلك توجد مطالب للمكونات المنخرطة في الحرب تحت لافتة "القوة المشتركة" وتختص بحصتهم في السلطة والموارد، فقد شاركوا في القتال ضد الدعم السريع بعد أن خاضوا حروبا سابقة ضد الجيش، ومطالبهم قد تختلف عن مطالب الإسلاميين، وعن توجهات مجلس السيادة وقيادة الجيش، مما قد يؤدي لاحتكاكات بين تلك الأطراف المتنوعة.
ويتسم المشهد في السودان بتغير التحالفات، ففي عهد البشير اصطف الإسلاميون والجيش والدعم السريع ضد الحركات المتمردة في دارفور، وبعد عزل البشير تحالفت المكونات المذكورة ضد الإسلاميين، ثم تحالف الإسلاميون والدعم السريع والجيش ضد قوى الحرية والتغيير وحكومة حمدوك، ثم في الفصل الأخير تحالف الإسلاميون والجيش ضد الدعم السريع وقوى الحرية التغيير اللذين تعاونا معا.
ولذا فإن مرحلة ما بعد استعادة الخرطوم قد تشهد تغييرا في التحالفات، لكن هذا إن حدث سيتم في مرحلة حساسة تشهد فيها البلاد دمارا واسعا بسبب الحرب وانهيارا اقتصاديا، ونزوح نحو 11 مليون شخص من ديارهم، بينهم 3 ملايين غادروا إلى خارج السودان حسب تقديرات الأمم المتحدة، مما يعني أن حدوث صراعات جديدة أو دفع أطراف إقليمية باتجاه مخطط التقسيم، سيعرض وحدة البلاد لتهديدات وجودية، وسيعيد للذاكرة انفصال الجنوب بعد تمرد مطول، مما انعكس على استقرار السودان الذي فقد نحو 85% من ثرواته النفطية لصالح جنوب السودان بعد الانفصال في عام 2011، وهو ما لا يتحمله السودان حاليا.
ثقل السودان وتضارب المصالحإحدى مشاكل السودان هي تشابك وتعارض مصالح الأطراف الدولية والإقليمية تجاهه، فوفق تنظيرات صامويل هنتنغتون يقع السودان على خط صدع حضاري بين العالم العربي والقارة الأفريقية، كما يوجد بالقرب من القرن الأفريقي وغرب المحيط الهندي الذي يعج بتنافس دولي بين الصين والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فضلا عن التنافس الإقليمي بين تركيا وإيران وبعض دول الخليج العربي بالإضافة إلى إثيوبيا وإريتريا ومصر، كذلك يتمتع السودان بموارد طبيعية مغرية مثل المساحات الشاسعة القابلة للزراعة ومناجم ذهب وموانئ على البحر الأحمر تتمتع بأهمية اقتصادية وأمنية، مما يجعله مطمعا للعديد من الأطراف.
لقد كشفت الحرب الأخيرة عن تباين في مواقف الدول المجاورة للسودان، فتشاد وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والمشير حفتر في ليبيا اختاروا الجانب الأقرب لجانب الدعم السريع، بينما إريتريا ومصر وحكومة طرابلس الليبية أقرب للجيش السوداني.
كذلك يتباين الموقف الإقليمي والدولي الأوسع، حيث تميل إيران وتركيا وروسيا حاليا إلى جانب الخرطوم، في حين تميل الدول الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا إلى جانب القوى المدنية الأقرب للدعم السريع، بينما الولايات المتحدة تتعامل مع المشهد بمنطق إدارة الأزمة لا حلها، ولم تتخذ موقفا ضد الدول التي تقدم دعما عسكريا لقوات الدعم السريع لوجود مصالح مشتركة في ملفات أخرى، وفي الوقت ذاته ترى واشنطن في حصول روسيا أو إيران على قاعدة بحرية مطلة على البحر الأحمر تهديدا إستراتيجيا لمصالحها ومصالح حلفائها. وبالتالي فشلت مفاوضات جدة ثم جنيف في الوصول لاتفاق ينهي الحرب في السودان في ظل تضارب مصالح الأطراف الإقليمية والدولية.
إعلان محيط متوترإن الصراع في السودان يتزامن مع تصاعد التوترات في جنوب السودان بين الرئيس سلفاكير ونائبه رياك مشار، والتي وصلت إلى اعتقال نائب قائد الجيش المحسوب على مشار وعدد من العسكريين والوزراء، بينهم وزير النفط، مما يهدد بعودة الحرب الأهلية مجددا بعد أن توقفت في عام 2018 عبر اتفاق بريتوريا، كذلك تتصاعد التوترات في إقليم تيغراي، مما يهدد بعودة الحرب بين أديس أبابا والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، والتي قد تمتد لتصبح حربا بين إثيوبيا وإرتيريا، مما يعني أن استمرار الحرب بالسودان يمكن أن يربط الاضطرابات التي تشهدها منطقة الساحل بالتوترات في إثيوبيا والقرن الأفريقي، مما سيولد حالة من الفوضى في القارة الأفريقية ترى فيها أوروبا تهديدا بموجات نزوح جديدة ومساسا بمصالحها، بينما ترى فيها أطراف أخرى فرصة لتعميق نفوذها ونهب موارد المنطقة.
إن السودان أمام مفترق طرق تاريخي بعد استعادة الجيش للسيطرة على أغلب ولاية الخرطوم، إما أن يغلق صفحة الدعم السريع، ويفتح الباب أمام عقد اجتماعي جديد يداوي جروح الصراعات التي شهدها خلال العقود الأخيرة، وإما أن تعمل مخالب التفتيت على تجزئته وتعميق الخلافات داخله وخلخلة أمنه بهدف استنزاف موارده والضغط على جيرانه المتضررين من عدم استقراره.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد قوات الدعم السریع الدعم السریع فی الجیش السودانی القصر الرئاسی إقلیم دارفور وسط الخرطوم السیطرة على عاصمة ولایة فی السودان فی الخرطوم فی حین
إقرأ أيضاً:
المثلث السوداني المصري الليبي.. هل يصبح مسرحا جديدا للصراع الإقليمي؟
على نحو مفاجئ، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على منطقة المثلث الحدودية بين السودان ومصر وليبيا بالتزامن مع بيان من القوات المسلحة السودانية تؤكد فيه انسحابها من الموقع تمهيدا لإعادة السيطرة عليه، متهمة قوات تابعة لحكومة شرق ليبيا بالهجوم على المنطقة والتوغل داخل الحدود السودانيةـ في تجاوز صريح للقانون الدولي، فما هي أهمية المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر؟
تبلغ مساحة جبل عوينات حوالي 490 كلم مربع، وهو جبل صغير منفصل داخل السودان في الناحية الجنوبية، ولكن المنطقة فيها سلسلة من الجبال تسمي العوينات؟ والاسم الجغرافي المسجل رسميا هو هضبة حسنين، على اسم الضابط المصري محمد بك حسنين الذي قام في 1923م برحلة استكشافية من الكفرة إلى دارفور.
وتتوزع المساحة بنسبة 10 في المئة في مصر، 50 في المئة في ليبيا، وبقية المساحة داخل السودان. وتتصل هذه الجبال بعدد من المراكز الحدودية. ففي مصر مركز الثعلب الحدودي شرق خط العرض 22 درجة، وفي ليبيا مركز شرطة عين زوية في الجانب الجنوبي الغربي من الجبل. أما في السودان فتسمى قرية المثلث في الجانب الجنوبي الشرقي، ولكنها بعيدة نسبيا من خط 22 الحدودي مع مصر.
النزاع الحديث في منطقة المثلث جزء من الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة، وهو صراع مباشر بين حلفاء الدعم السريع وأصدقاء السودان، وصراع بالوكالة بين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما وروسيا والصين؛ وسط مخاوف غربية من سيطرة روسيا على شواطئ بورتسودان والمناطق الغنية بالنفط والذهب في شمال وشرق السودان
وتعتبر قرية المثلث مركزا تجاريا للتعدين الأهلي المزدهر في المنطقة، تتوافر فيها استراحات ومطاعم وخدمات الإنترنت الفضائي ومحطات الخدمة العامة وصيانة السيارات والمتاجر البسيطة، ويمارس التجار فيها التجارة الحدودية والتواصل مع مناطق الشريط النيلي في شمال السودان؛ من وادي حلفا ودنقلا والدبة. ومع تطور التعدين الأهلي أصبحت منطقة اقتصادية جاذبة غنية بالذهب، وهدفا لقوات الدعم السريع التي كانت تتمركز في قاعدة "الشفرليت" قبل أن يسيطر عليها الجيش السوداني في الأسابيع الأولى لحرب الخامس عشر من نيسان/ أبريل، كما أنها ليست بعيدة عن الفاشر؛ حيث تفرض قوات الدعم السريع حصارا على المدينة وفشلت في إسقاطها بفضل الصمود الأسطوري للقوات المسلحة والقوات المشتركة والمقاومة الشعبية.
وظل قائد الدعم السريع حميدتي يتهم الجيش المصري بمساندة الجيش السوداني منذ هجومه في الثالث عشر من نيسان/ أبريل 2023 على مطار مروى شمال السودان بحجة وجود طيران مصري يستعد لمهاجمة قواته في الخرطوم، وبالفعل أسرت قوات الدعم السريع ضباطا مصريين كانوا ينفذون بروتكولا تدريبيا مع الجيش السوداني، ونقلتهم إلى الخرطوم قبل أن يتم إطلاق سراحهم لاحقا بواسطة الصليب الأحمر الدولي، وما زال قوات الدعم السريع تجدد اتهاماتها لمصر، حيث أشار حميدتي إلى ذلك في خطابه الأخير عدة مرات.
والواقع أن مصر لم تخف وقوفها مع مؤسسات الدولة السودانية وفي مقدمتها القوات المسلحة، الضامن الوحيد لسلامة أمن السودان وحدود مصر الجنوبية التي أصبحت مهددة بهجمات تحالف "حميدتي- حفتر"؛ التي وصفها مساعد وزير الخارجية المصري السابق السفير حسام عيسى بأنها محاولة لجر مصر لحرب السودان، وفتح جبهة جديدة على حدودها الجنوبية بالتزامن مع الحرب المدمرة في حدودها مع غزة.
من ناحيتها، أدانت حكومة الدبيبة المعترف بها دوليا في طرابلس تورط جماعات ليبية مسلحة في حرب السودان إلى جانب الدعم السريع، فيما نفت حكومة شرق ليبيا علاقتها بالهجمات رغم الاعترافات الموثقة لجنود ليبيين يتبعون للكتيبة السلفية تم أسرهم بواسطة الجيش السوداني في المعارك الأخيرة، كما أن الجيش السوداني أكد مشاركة "الجيش الوطني الليبي" بقيادة حفتر في الاعتداء على قواته في المثلث، متوعدا بالرد عليها في أقرب وقت.
وتبحث قوات الدعم السريع المتمردة عن جبهات جديدة للقتال وتهيئة مسارح جديدة للحرب لمنع متحركات الجيش السوداني المتأهبة من داخل إقليم كردفان للتقدم نحو الفاشر وفك الحصار عن المدينة التي تشهد أوضاعا مأساوية بالغة التعقيد بسبب الحصار والقصف المستمر من جانب الدعم السريع للمرافق الخدمية ومعسكرات النازحين والمستشفيات والاعتداءات المتكررة على القوافل الإنسانية التي تسيرها المنظمات الدولية لإغاثة سكان المدينة.
النزاع الحديث في منطقة المثلث جزء من الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة، وهو صراع مباشر بين حلفاء الدعم السريع وأصدقاء السودان، وصراع بالوكالة بين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما وروسيا والصين؛ وسط مخاوف غربية من سيطرة روسيا على شواطئ بورتسودان والمناطق الغنية بالنفط والذهب في شمال وشرق السودان.
وبنظرة سريعة على مواقف جوار السودان من الحرب المستمرة في عامها الثالث نجدها متباينة بين الحياد والانحياز لصالح الدعم السريع، بل إن بعضها أنشأ مواقع عسكرية له على الحدود السودانية تحت غطاء إنساني، بينما جاهرت مصر وإرتريا فقط بمواقفهما الداعمة للجيش والحكومة السودانية منذ انطلاق الحرب الحالية، في حين تتهم الحكومة السودانية تشاد صراحة بفتح أراضيها لقوات الدعم السريع لاستخدامها كقاعدة عسكرية ومستشفى لعلاج منسوبيها، وتشهد علاقة البلدين تدهَورا غير مسبوق في السنوات الأخيرة.
وليس بعيدا من تشاد فإن جمهورية النيجر كانت في صف الداعمين للدعم السريع نظرا للعلاقة الشخصية بين حميدتي والرئيس السابق محمد بازوم الذي حصل على دعم كبير من حميدتي لحملته الانتخابية، قبل أن تطيح به قيادة الجيش وتضعه قيد الإقامة الجبرية، ولم تفلح الضغوط الدولية والإقليمية بقيادة فرنسا والاتحاد الأفريقي ودول الجوار في إعادته للسلطة. وتتأرجح مواقف إثيوبيا التي كانت أول المستقبلين للمبعوث الشخصي لقائد الدعم السريع ثم استضافتها لحميدتي شخصيا وحلفائه في تحالف "صمود"، فضلا عن اجتماعات ومؤتمرات تغيبت عنها الحكومة السودانية لمساواتها بين الحكومة الشرعية والمتمردين.
وبنظرة سريعة على ردود الفعل في الدول الثلاث، ليبيا ومصر والسودان، فقد التأم مجلس الدفاع السوداني للوقوف على الأوضاع الأمنية في البلاد، وهو اجتماعه الأول بعد قطع العلاقات مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وغالبا ما تكون اجتماعاته مرتبطة بتطورات خارجية في مسار الحرب. ولم يصدر من الجانب الرسمي في مصر أي تعليق على الأحداث، وعلقت وزارة خارجية شرق ليبيا بالنفي على اتهامات الجيش السوداني بالانتشار داخل أراضيه، بينما يعتبر بعض مناصري حفتر أن ما يجري في الحدود السودانية الليبية محاولة لتشتيت جهود قوات حفتر التي تحاول دون جدوى الوصول إلى طرابلس منذ سنوات.
توغل قوات حفتر داخل الأراضي السودانية، يعرض المنطقة لحرب إقليمية بين دول المثلث وربما أكثر في القريب العاجل
وبالعودة إلى المواقف الإقليمية قبل اندلاع الحرب في السودان، تعد مصر حليفا استراتيجيا لخليفة حفتر في مشروعه الرامي للسيطرة على طرابلس وكامل التراب الليبي ضمن الصراع الإقليمي المستمر في المنطقة، لذا فإن التدخل العسكري المصري في منطقة المثلث مستبعد حاليا؛ كون الجيش السوداني قادر على استعادة السيطرة عليه، نظرا لأهميته الاقتصادية إلى جانب أنه المنفذ الرئيس لعمليات الهجرة غير الشرعية من مناطق القرن الأفريقي تجاه القارة الأوروبية، مما دفع الدول المستقبلية للمهاجرين لتوقيع اتفاق عُرف بعملية الخرطوم (Khartoum poroses) للحد من تدفق المهاجرين عبر السودان.
ويعبر كثير من السودانيين عن قلقهم من مشاركة قوات خليفة حفتر إلى جانب الدعم السريع في حرب السودان، ويعتبرونها محاولة لإعادة الروح لقوات الدعم السريع بعد الهزائم المتكررة التي منيت بها، حتى أصبحت تقاتل على الحدود السودانية الليبية بعد أن كانت قواتها تتمركز في القصر الجمهوري وسط الخرطوم قبل نحو شهرين، كما تواجه الحملة التي يقودها نائب حميدتي وشقيقه عبد الرحيم دقلو لإعادة بناء قواته؛ صعوبات تتمثل في رفض الإدارات الأهلية وزعماء العشائر في دارفور الزج بأبنائهم في العام الثالث من الحرب بعد المصير المجهول للمئات من قوات الدعم السريع الذين قتلوا في معارك العامين الماضيين؛ إلى جانب الآلاف من المصابين الذين يعانون الإهمال والوعود الكاذبة بالعلاج خارج السودان.
عموما، فإن توغل قوات حفتر داخل الأراضي السودانية، يعرض المنطقة لحرب إقليمية بين دول المثلث وربما أكثر في القريب العاجل.