في أعقاب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، عاد ملف "سحب السلاح الفلسطيني" إلى واجهة النقاش الرسمي، مدفوعا بصخب إعلامي لافت غلّب المقاربة الأمنية على الأبعاد الحقوقية والسياسية المرتبطة بواقع اللجوء. وترافق هذا الطرح مع تصاعد الضغوط الدولية لتطبيق القرار 1701 القاضي بحصر السلاح بيد الدولة، والقرار 1559 الذي يدعو إلى نزع سلاح الجماعات المسلحة غير الرسمية، في ظل تأويلات باتت تُسلّط الضوء مجددا على المخيمات الفلسطينية وكأنها المصدر الرئيسي لاختلال الأمن والاستقرار.



لكن التعامل مع هذا الملف لا يمكن أن يقوم على معادلة مبنية على المقايضة: السلاح مقابل الحقوق. فالحقوق، وفي مقدمتها الحق في العمل، والسكن، والتعليم، والتنقل، ليست ورقة تفاوضية، بل التزام قانوني على الدولة اللبنانية، وفق ما تقرّه مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان.

وبين من يرى في معالجة موضوع السلاح خطوة لتعزيز هيبة الدولة، ومن يتخوّف من تكرار التجارب المؤلمة التي أعقبت تجريد الفلسطينيين من وسائل الحماية، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن بناء استقرار دائم دون الاعتراف الجدي بالحقوق؟ وهل يُعقل أن يُعالج ملف معقد بهذا الحجم بمنطق أمني منفصل عن سياقه القانوني والسياسي والإنساني؟

التعامل مع هذا الملف لا يمكن أن يقوم على معادلة مبنية على المقايضة: السلاح مقابل الحقوق. فالحقوق، وفي مقدمتها الحق في العمل، والسكن، والتعليم، والتنقل، ليست ورقة تفاوضية، بل التزام قانوني على الدولة اللبنانية
ذاكرة مثقلة بالسلاح والخذلان

ليس السلاح الفلسطيني في لبنان أمرا طارئا أو مستجدا. فمنذ توقيع اتفاق القاهرة عام 1969، وُجد هذا السلاح بغطاء رسمي لتنظيم العلاقة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، في سياق دعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي انطلاقا من الجنوب. غير أن هذا الإطار لم يبقَ قائما، إذ ألغى مجلس النواب اللبناني اتفاق القاهرة في جلسته المنعقدة بتاريخ 21 أيار/ مايو 1987، وهي الجلسة ذاتها التي أُقرّ فيها إلغاء اتفاق 17 أيار/ مايو 1983 مع إسرائيل، وذلك بموجب القانون رقم 25/87، في خطوة هدفت إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة اللبنانية والمخيمات الفلسطينية.

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، أخذ الوجود العسكري الفلسطيني مسارا مختلفا، حين دخل، عن قصد أو غير قصد، في وحل السياسة اللبنانية، وجرى توريطه في صراعات لم تكن له فيها مصلحة وطنية مباشرة. ومع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، تفاقمت الضغوط الإقليمية والدولية التي سعت إلى تحجيم الدور الفلسطيني، فبات السلاح، في بعض محطاته، محاصَرا بسياقات لا تعكس أولويته الأصلية: الدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقه في العودة.

لقد أثبتت التجربة اللبنانية بما لا يدع مجالا للشك أن تجريد الفلسطينيين من السلاح دون توفير أي حماية قانونية أو سياسية لم يكن يوما ضمانة للاستقرار، بل شكّل في محطات عدة تمهيدا فعليا للمجازر الجماعية. ففي مجزرة تل الزعتر عام 1976، التي وقعت بعد حصار دام أكثر من خمسين يوما، تشير التقديرات إلى مقتل ما لا يقل عن 3500 مدني فلسطيني، وفق ما وثّقته تقارير الصليب الأحمر وشهادات المراقبين الدوليين، ما يجعلها واحدة من أفظع المجازر التي استهدفت مخيما فلسطينيا في لبنان.

أما في أيلول/ سبتمبر 1982، فجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد تنفيذ الاتفاق الذي أُبرم بين الرئيس الراحل ياسر عرفات والمبعوث الأمريكي فيليب حبيب، والذي قضى بانسحاب قوات منظمة التحرير من بيروت وتجريد مخيمات بيروت من السلاح، مقابل وعود أمريكية- فرنسية بحماية المدنيين. لكن تلك الوعود تلاشت، وتُرك المخيم مكشوفا أمام المجازر التي قُتل فيها ما لا يقل عن 3000 مدني من الفلسطينيين واللبنانيين، بحسب تقارير بعثة التحقيق التابعة للأمم المتحدة وشهادات منظمات إنسانية مستقلة.

ثم جاءت حرب المخيمات (1985-1988) لتُعمّق الجرح الفلسطيني، إذ اندلعت اشتباكات عنيفة في مخيمات بيروت الجنوبية ومخيمات صور، وأسفرت عن مئات القتلى وآلاف المهجرين، في ظل غياب أي حماية قانونية أو سياسية حقيقية للاجئين.

تُظهر هذه الوقائع الدامية أن نزع السلاح في ظل غياب الضمانات القانونية لم يكن سوى لحظة انكشاف جماعي، تُرك فيها الفلسطينيون في مواجهة الخطر، بلا حماية، ولا مساءلة، ولا أفق عدالة.

تجربة لجنة ما بعد الحرب الأهلية: تسليم السلاح دون ضمانات

في أعقاب انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف)، شُكّلت في عام 1990 لجنة وزارية لبنانية لمتابعة ملف الوجود الفلسطيني المسلح خارج المخيمات، وفُتحت قنوات حوار مع وفد فلسطيني رسمي يمثل الفصائل الوطنية. وقد تم التفاهم على تسليم السلاح الثقيل -بما في ذلك المدافع والراجمات- إلى الجيش اللبناني في منطقة شرق صيدا ومخيمات صور، في خطوة اعتُبرت بادرة حسن نية من الجانب الفلسطيني، ورغبة واضحة في فتح صفحة جديدة من العلاقة مع الدولة.

إلا أن هذه المبادرة، رغم رمزيتها السياسية والأمنية، لم تُقابَل بأي مسار إصلاحي من الجانب اللبناني. فلم تُتّخذ إجراءات قانونية أو سياسية لتحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، كما توقفت اللجنة عن العمل دون إصدار تقرير رسمي أو متابعة مؤسساتية. وبهذا، تحوّلت التجربة إلى مثال مبكر على النهج الأمني البحت في مقاربة القضية الفلسطينية في لبنان، حيث تم التركيز على نزع أدوات الدفاع دون معالجة جذور التهميش القانوني والسياسي الذي يرزح تحته اللاجئون منذ عقود.

بين نزع السلاح وغياب الإصلاح: المخيمات في مرمى المعادلة المجحفة

رغم المطالبات المتكررة من الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي بسحب السلاح من داخل المخيمات الفلسطينية، لا يزال اللاجئ الفلسطيني في لبنان يعيش في ظل منظومة قانونية تقييدية ومزدوجة المعايير، تحرمه من أبسط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية. فحتى اليوم، يُمنع الفلسطيني من مزاولة أكثر من 36 مهنة بموجب قرارات وزارية غير منسجمة مع الدستور اللبناني، ولا يمكنه التملك العقاري بسبب تعديل القانون 296/2001، كما يُعامل قانونيا كأجنبي رغم انتمائه لمجتمع لاجئ مقيم قسرا منذ عام 1948.

ويعيش اللاجئون في 12 مخيما رسميا معترفا بها من قبل الأونروا، إضافة إلى أكثر من 50 تجمعا غير رسمي، تمتد من شمال لبنان إلى جنوبه، في ظروف عمرانية واجتماعية قاسية. ويُقدّر عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بنحو 210,000 لاجئ مسجلين لدى الأونروا حتى عام 2024، فيما تُقدّر تقارير لبنانية رسمية وغير رسمية أن الرقم الحقيقي يتراوح بين 150,000 إلى 180,000 لاجئ مقيم فعليا، بسبب الهجرة والتهجير المستمر.

وفق أحدث تقارير وكالة الأونروا (2023)، فإن أكثر من 63 في المئة من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر، فيما تتجاوز نسبة البطالة بين الشباب 50 في المئة، في ظل غياب أي خطة وطنية لبنانية شاملة تعالج أوضاعهم. كما أن المخيمات تُحرم من الحد الأدنى من الخدمات البلدية، وتخضع لنظام قانوني غامض يقوم على "عدم تدخل الدولة"، ما يجعلها عمليا مناطق مستثناة من سيادة القانون دون أن تُمنح حكما ذاتيا منظما.

وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن معالجة موضوع السلاح من المخيمات، دون أي إصلاح قانوني متوازٍ، أشبه بإجراءات نزع الحماية دون بديل. فالسلاح، بالنسبة لكثيرين، لم يكن خيارا ترفيا، بل نتيجة حتمية لسلسلة من الخذلان القانوني والسياسي، جعلت من المخيمات فضاءات معزولة قانونيا، معرضة للهشاشة الأمنية، ومحرومة من أي ضمانات للعدالة أو الكرامة الإنسانية.

اللجان وحدها لا تصنع الحقوق

منذ عام 2005، شكّل لبنان أكثر من لجنة للحوار اللبناني-الفلسطيني، أبرزها اللجنة التابعة لرئاسة الحكومة، المعروفة بـلجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني، والتي أعدّت على مدار سنوات سلسلة من الوثائق والرؤى الإصلاحية، أهمها وثيقة "رؤية موحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني" الصادرة عام 2017. وقد دعت هذه الوثيقة إلى إقرار الحقوق المدنية والاجتماعية، وفتح سوق العمل أمام اللاجئين الفلسطينيين، وتحييد المخيمات عن التوترات، وتوحيد المرجعية الرسمية في التعاطي مع الملف الفلسطيني.

تحميل اللاجئ الفلسطيني أو مخيمه أو سلاحه مسؤولية الانهيار، إنما هو تهرّب ناعم من مواجهة المشكلات البنيوية الحقيقية، ومحاولة لتحويل النقاش العام من ضرورة الإصلاح القانوني والسياسي إلى مجرّد معالجة أمنية ضيّقة
ورغم النَفَس المؤسساتي الذي طبع عمل اللجنة، لم يُنفّذ من هذه المقترحات شيء فعلي، وبقيت حبيسة الرفوف، نتيجة غياب الإرادة السياسية، وتوظيف الملف الفلسطيني في تجاذبات داخلية وخارجية متكررة.

وفي المقابل، استمر الخطاب الرسمي في تقزيم القضية الفلسطينية داخل لبنان إلى مسألة سلاح وأمن فقط، متجاهلا السياق الأوسع المتمثل في التهميش القانوني والإنساني المزمن. وفي هذا الإطار، يجري أحيانا التلميح إلى أن السلاح الفلسطيني أو وجود المخيمات يشكّل عبئا على الدولة، أو أحد أسباب أزماتها المتفاقمة.

إلا أن الواقع الاقتصادي والمالي يُبيّن بوضوح أن ما يمرّ به لبنان، من أزمات في القطاع المصرفي، وتضخّم الدين العام، وانهيار سعر صرف الليرة، وضعف الأداء المؤسسي، هو نتيجة تراكمات طويلة في السياسات العامة واختلالات هيكلية في الإدارة الاقتصادية، لا علاقة لها بالسلاح الفلسطيني أو بواقع اللاجئين. هؤلاء، في الأساس، محرومون من حق العمل والتملك والتغطية الاجتماعية، ولم يكونوا جزءا من الدورة الاقتصادية الوطنية.

وعليه، فإن تحميل اللاجئ الفلسطيني أو مخيمه أو سلاحه مسؤولية الانهيار، إنما هو تهرّب ناعم من مواجهة المشكلات البنيوية الحقيقية، ومحاولة لتحويل النقاش العام من ضرورة الإصلاح القانوني والسياسي إلى مجرّد معالجة أمنية ضيّقة.

في المقابل، أظهر التعاون المستمر بين الأجهزة الأمنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية قدرة على معالجة الكثير من التحديات الأمنية داخل المخيمات، ما جعلها أكثر استقرارا مقارنة بفترات سابقة. لكن أي تضييق قد يعزز مشاعر عدم الثقة والتذمر، ويدفع نحو نتائج عكسية. لذا، فإن المقاربة العقلانية التي توازن بين البُعدين الحقوقي والأمني تبقى الخيار الأجدى لضمان المصلحة المشتركة والاستقرار العام.

بين ضبط السلاح وتثبيت الحقوق: أي مقاربة عادلة للمخيمات؟

من دون شك، لا يمكن لأي دولة أن ترضى بوجود سلاح خارج سلطتها، لكن "عدالة الدولة" لا تُقاس فقط بقدرتها على نزع السلاح، بل بقدرتها على ضمان الحقوق لمن تُطالبهم بنزعه. فكيف يُطلب من اللاجئ الفلسطيني التخلي عن سلاحه، بينما يُحرم من حق العمل، والتملك، والتنقل، والتعليم، منذ أكثر من ستة سبعين عاما، في ظل قوانين استثنائية لم تُراجع قط؟

إن المعالجة الحقيقية لملف السلاح الفلسطيني في لبنان لا يمكن أن تنطلق من زاوية أمنية ضيقة أو من خطاب سياسي ظرفي، بل تستدعي مقاربة شاملة ومتدرجة، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد القانونية والإنسانية والأمنية معا.

في هذا الإطار، ينبغي أن تقوم هذه المقاربة على أربع ركائز أساسية:

1- إقرار قانون خاص باللاجئين الفلسطينيين، يضمن كرامتهم وحقهم في العمل والتعليم والتملك، ويضع حدا للتمييز القائم منذ عقود.

2- إيجاد آلية رسمية مشتركة لبنانية-فلسطينية تُعنى بتنظيم السلاح داخل المخيمات، بما يضمن ألا يتحول إلى عبء داخلي أو تهديد خارجي، مع الحفاظ على الاستقرار والأمن المجتمعي.

نجاح أي خطوة من هذا النوع يقتضي حوارا مسؤولا وواقعيا، يُراعي هذه التحديات ويُبنى على الشراكة لا الفرض
3- التمييز بين السلاح الدفاعي المشروع داخل المخيمات، وبين السلاح المنفلت أو المرتبط بأجندات خارجية، بما يحفظ كرامة المخيمات ويمنع استغلالها في الصراعات.

4- ربط أي خطوة أمنية بتعهدات سياسية وتشريعية ملزمة، تضمن عدم الاكتفاء بالإجراءات الأمنية، بل تواكبها خطوات إصلاحية تضع حدا للحرمان القانوني والاجتماعي المستمر.

أكثر من ذلك، فإن معالجة موضوع السلاح دون إطار سياسي وحقوقي واضح قد يُستغل لتسويق خطاب خطير يُوحي بأن قضية اللجوء قد انتهت، أو أن المخيمات تحوّلت إلى مجرد أحياء سكنية هامشية بلا طابع قانوني أو سياسي. وهذا التصوّر، إن تُرك دون تفنيد، قد يُستخدم لتبرير التوطين المقنّع، وهو ما يتعارض مع المصلحة اللبنانية ذاتها التي لطالما شدّدت على رفض التوطين والتمسك بحق العودة.

وأي قرار عملي بشأن سحب السلاح الفلسطيني لا يمكن فصله عن تعقيدات الواقع الميداني داخل المخيمات، من غياب سلطة موحدة وتعدد الفصائل، إلى تداخل الأمني بالاجتماعي. لذا، فإن نجاح أي خطوة من هذا النوع يقتضي حوارا مسؤولا وواقعيا، يُراعي هذه التحديات ويُبنى على الشراكة لا الفرض.

من هنا، فإن أي خطوة في هذا الاتجاه ينبغي أن تكون مقترنة بتأكيد صريح على الصفة القانونية للاجئين الفلسطينيين، وعلى أن المخيمات، رغم فقرها وهشاشتها، لا تزال شاهدا سياسيا على جريمة لم تنتهِ بعد، ونكبة لم تُحل.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء لبنان السلاح الفلسطيني المخيمات اللاجئين لبنان فلسطين سلاح لاجئين مخيمات قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة اللاجئین الفلسطینیین الفلسطینی فی لبنان الدولة اللبنانیة السلاح الفلسطینی داخل المخیمات الفلسطینی أو أکثر من لا یمکن أی خطوة فی هذا

إقرأ أيضاً:

محللون للجزيرة نت: زيارة عباس للبنان تمهّد لنزع سلاح المخيمات

بيروت- في زيارة رسمية تستمر 3 أيام، وصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى العاصمة اللبنانية بيروت، واستهل جولته بلقاء مع الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون في قصر بعبدا، على أن يجتمع غدا مع رئيسَي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نواف سلام.

وتأتي الزيارة في ظل تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة، وتوتر على الحدود الجنوبية للبنان، مما أضفى بُعدا سياسيا وأمنيا بالغ الأهمية على المحادثات.

وأكد الجانبان، في بيان مشترك، رفض العدوان على غزة ولبنان، ودعوا المجتمع الدولي للتدخل الفوري لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، وإلزام تل أبيب بتنفيذ اتفاق نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وقرار مجلس الأمن 1701.

وناقش الطرفان مستقبل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، واتفقا على تشكيل لجنة مشتركة لتحسين أوضاع المخيمات، وسط تأكيد فلسطيني على احترام السيادة اللبنانية "وإنهاء مظاهر السلاح الخارج عن سلطة الدولة".

وتُعد هذه الزيارة الأولى لعباس في عهد الرئيس عون، وتفتح الباب أمام مقاربة جديدة لملف السلاح الفلسطيني، في ظل تحوّلات إقليمية وضغوط داخلية ودولية متزايدة.

إعادة السيادة

ويرى الكاتب الصحفي يوسف دياب، أن من يقرأ بين سطور البيان المشترك اللبناني الفلسطيني الصادر عقب الزيارة، يدرك تماما أن ملف السلاح الفلسطيني في لبنان قد انتهى إلى حد كبير وبشكل لا رجعة فيه.

إعلان

وينص البيان صراحة -حسب دياب- على أن موضوع السلاح غير الشرعي في لبنان أصبح من الماضي، مما يعني أن العمل الفلسطيني المسلح في لبنان لم يعد قائما، وهي المرة الأولى -منذ اتفاق القاهرة عام 1969 الذي أقرَّ العمل المسلح من جنوب لبنان- التي يُعلن فيها عن نهاية دور السلاح الفلسطيني في لبنان.

ويضيف دياب للجزيرة نت أن الأمر لا يقتصر على السلاح الفلسطيني فقط، بل يشمل اللبناني أيضا، كسلاح حزب الله، وهو ما يتوافق مع ما أعلنه الرئيس عون في خطاب القسم، حيث أكد لبنان قراره العودة إلى اتفاق الهدنة الموقع عام 1949، أي عدم وجود أية "أعمال عدائية" من جنوب لبنان تجاه إسرائيل، ومنع مهاجمة الأخيرة لبنان.

ويصف دياب زيارة عباس إلى لبنان بـ"التاريخية"، خاصة وأن البيان المشترك أعلن إنهاء كل الأعمال المسلحة داخل لبنان، فلسطينية كانت أو من أطراف أخرى، مما يعني أن الدولة اللبنانية استرجعت زمام المبادرة وأصبحت صاحبة القرار في ملف الحرب والسلم.

ويضيف أن الزيارة أرست مرحلة جديدة في العلاقات اللبنانية الفلسطينية، وأسست لنظرة لبنانية مختلفة تجاه فلسطين كقضية محقة، ولكن دون أن يكون لبنان منطلقا لأي عمل عسكري ضد إسرائيل، إلا ضمن إجماع عربي شامل، حينها سيكون لبنان جزءا من مواجهة عربية موحدة مع إسرائيل.

وأشار دياب إلى مسار جديد دخله لبنان في بناء الدولة، وأن زيارة عباس "فتحت طريق ترميم ما تعرضت له العلاقات اللبنانية الفلسطينية من تشويه" وأكدت أن الدولة الفلسطينية ومنظمة التحرير هي التي باركت وأشرفت على إنهاء الوجود المسلح الفلسطيني في لبنان، مع بقاء ملف اللاجئين معلّقا بانتظار تسوية سياسية شاملة وكبرى.

آلية ضبط السلاح

من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي أمين قمورية، أن المبدأ العام المتوافق عليه هو أن حصرية حمل السلاح يجب أن تكون بيد الدولة اللبنانية، ويحظى ذلك بإجماع الكل، خاصة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير التي "لا تعارض ضبط السلاح داخل المخيمات بل تؤيد تنظيمه، شرط وجود جهة مشرفة على التنفيذ بالتنسيق مع السلطات اللبنانية وقوات الأمن الوطني الفلسطيني التابعة لها".

إعلان

ويقول قمورية للجزيرة نت، إن الوضع في مخيم عين الحلوة ومخيمات الجنوب يختلف عن سواه، إذ لا تقتصر السيطرة على منظمة التحرير، بل تتقاسمها فصائل أخرى مثل حركة حماس، والجهاد الإسلامي، وحركات إسلامية منها "عصبة الأنصار" وغيرها.

وهذه الفصائل -حسب قمورية- لديها خلافات مع قوات الأمن الوطني الفلسطيني، ولا ترتاح لفكرة أن تتولى هذه القوات المسؤوليات الأمنية داخل المخيمات.

وبرأي المحلل "هذه الفصائل ستخلق ذرائع عدة لرفض تسليم سلاحها ما لم تحصل على ضمانات غير متوفرة حتى اللحظة". ولفت إلى أن هناك ارتباطا واضحا بين مسألة سلاح المخيمات وسلاح حزب الله، وأن "الحزب يبرر احتفاظه بالسلاح انطلاقًا من معادلة: لا يمكن تسليم سلاحنا طالما هناك سلاح خارج إطار الدولة، وما دامت المخاطر قائمة" حسب قمورية.

ويشير قمورية إلى أن أي معالجة لسلاح الفصائل الفلسطينية لا يمكن فصلها عن سلاح حزب الله، وأن "عدم حسم ملفات سلاح الطرفين سيبقي الأمر مطروحا للنقاش، دون حلول قريبة أو سهلة".

وفي المخيمات التي تشرف عليها منظمة التحرير، خاصة في الشمال والبقاع وبيروت، يوضح قمورية، أن الوضع مختلف، حيث تتولى القوات الفلسطينية مسؤولية الأمن بالتنسيق مع الدولة اللبنانية، وسط ضمانات تتعلق بالسلاح والاستقرار، لكنه يلفت إلى أن حقوقا مشروعة للاجئين، كالعمل والتملك، يجب توفيرها لضمان حياة كريمة لهم.

ولذلك، يعتبر المحلل السياسي أن ملف سلاح الفصائل ليس طارئا أو عاجلا، ويجب أن يعالج بهدوء وروية، لأن أي خطوة متسرعة قد تؤدي إلى مشاكل كبيرة، نظرا لحساسية المخيمات، ولا يمكن للبنان مواجهة الملف بمفرده، وأنه لا بد من تفاهمات واتفاقات واضحة قبل أي خطوة تنفيذية.

مخاوف وتحديات

من جانبه، يرى الكاتب الفلسطيني ظافر الخطيب، في حديث للجزيرة نت، أن زيارة عباس إلى لبنان، من حيث المبدأ "تمثل جهدا ضروريا ومطلوبا" في سبيل صياغة تفاهمات لبنانية فلسطينية. ويضيف "ينظر للزيارة وما تمخض عنها من بيان مشترك، كخطوة تأسيسية نحو بناء تفاهم شامل على مختلف المستويات بين الجانبين".

إعلان

ويشير الخطيب إلى أن تعزيز العلاقات اللبنانية الفلسطينية يبقى أمرا بالغ الأهمية، لكون لبنان جارا لفلسطين ويحتضن أعدادا كبيرة من اللاجئين. ورغم اعتباره أن البيان المشترك، خطوة في الاتجاه الصحيح، فإن المخاوف لا تزال قائمة، خاصة في ظل الوضع الإقليمي المتقلب، حسب وصفه.

وحذَّر الخطيب من اختزال العلاقة مع الفلسطيني ببعدها الأمني فقط، وهو ما عانى منه الفلسطينيون طويلا، متخوفا من أن يكون الهدف الحقيقي هو نزع سلاح الفصائل الفلسطينية.

ويؤكد في المقابل على ضرورة منح الفلسطينيين حقوقهم المدنية والاجتماعية، مبينا أنه ورغم أن البيان أشار إلى تحسين أوضاعهم، فإن الأسئلة تبقى مطروحة: كيف سيتم ذلك؟ وبأي آليات؟.

لكن الخطيب، ورغم تقييمه الإيجابي، يشير إلى جملة من الحقائق التي تستدعي التوقف عندها:

أولا: تأتي هذه الزيارة في سياق حرب كرّست -ظاهريا- ما يُعرف بـ"منطق الشرق الأوسط الجديد"، وهو منطق يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية. لكن هذا لا يعني أن المقاومة قد مُنيت بهزيمة نهائية أو أن الطرف الآخر حقق نصرا حاسما، وما تزال المنطقة تغلي، ولم تنضج بعد تسوية نهائية تفتح الباب أمام استقرار حقيقي. ثانيا: الطرفان الرسميان، اللبناني والفلسطيني، يتحركان تحت وطأة ضغوط خارجية وشروط مفروضة عليهما. ثالثا: البيان المشترك جاء كاستثمار في التوازنات الجديدة التي فرضتها المرحلة، ففي الوقت الذي استطاع فيه لبنان إعادة انتظام مؤسساته الدستورية، لا تزال الحالة الفلسطينية تراوح مكانها، عاجزة عن تحقيق أي تقدّم على صعيد الوحدة الوطنية.

مقالات مشابهة

  • سحب السلاح من المخيمات الفلسطينية في لبنان يبدأ منتصف يونيو
  • اتفاق لبناني فلسطيني على سحب سلاح المخيمات منتصف يونيو
  • تأكيد لبنان- فلسطيني على سلطة الدولة على المخيمات واجتماع للجنة المشتركة حول السلاح
  • هدف تسليم سلاح المخيمات: القضاء على المقاومتين الفلسطينية واللبنانية
  • عباس وعون يؤكدان التزامهما بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية
  • محللون للجزيرة نت: زيارة عباس للبنان تمهّد لنزع سلاح المخيمات
  • عباس وعون يتفقان على حصر سلاح المخيمات الفلسطينية بيد الدولة
  • اتفاق فلسطيني- لبناني على حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية
  • بيان لبناني - فلسطينيّ مشترك: زمن السلاح الخارج عن سلطة الدولة اللبنانية قد انتهى