تقنيات النصِّ في الأبوذيَّة العراقيَّة
تاريخ النشر: 29th, May 2025 GMT
آخر تحديث: 29 ماي 2025 - 11:22 صأ.د. صبري مسلم حمادي* مدخل حسافه البي حمِيّه يموت ويروح (يذهب) ويترك بالقلب آهات ويروح (وجروح) لَوَ انْ الله يبدل الروح وي روح (الروح) أضَحّيهه لشهم عنده حميّهْ هذا هو شكل بيت الأبوذية الذي يتألف من ثلاثة مقاطع أو أشطر قد تسمى مفاتيح، تعتمد على الجِناس التام أو الناقص أحياناً، تلي هذه المقاطع الثلاثة خاتمة مؤلفة من ياء مشددة وهاء ساكنة، وقد تسمى الربّاط أو القفل.
وتركز هذه الدراسة على نصِّ الأبوذية العراقية بوصفه نصاً أدبياً قابلاً للدراسة والتحليل، وأما طرق غناء الأبوذية فإنها كثيرة منها الملّائي والطويرجاوي والصبّي واللامي والشطراوي والبحراني والمصلاوي، إلا أن طرق الأداء هذه لا تدخل في إطار هذه الدراسة نظراً لارتباطها بالنوطة الموسيقية والغناء.وما يزال فنُّ الأبوذية العراقية يتصدر فنون الغناء الشعبي العراقي، وهو يمسُّ تماماُ أعماق الإنسان العراقي من حيث الامتدادات الصوتية الحزينة التي تصاحبه، وهي مُفعمة بالشكوى من الزمان وقسوة الحياة أحياناً، وبالحكمة والتجربة والنصح أحياناً أخرى. ونلمس نضجاً وفهماً عميقاً للحياة وتناقضاتها في بعض أبيات الأبوذية، وبكل ما في الحياة من تضادّ يقع ما بين أقصى الحب والوفاء لمن تحب تارة، وتارة أخرى أقصى الخيانة وعدم الوفاء، وما بين الاستسلام لجوْر الزمان أو التمرُّد عليه والشكوى المُرَّة من قسوته. أصل الأبوذيَّة وإذا كان الدكتور فوزي رشيد يعتقد بأن الأبوذية العراقية ذات جذور ضاربة في القدم قد تعود لأنماط غنائية سومرية، فإن في ما قرره قدراً مُقنعاً من المنطق، لأننا وعلى وجه العموم لا نعرف على وجه الدقَّة مصادرها الأساسية، ولذلك فإننا لا نستبعد ما أورده دكتور فوزي من أن ألحان المنطقة الجنوبية تحمل في طيّاتها طبيعة الألحان السومرية، لأن المنطقة المذكورة هي الموطن الأصلي للسومريين، “ويمكن أن نتلمَّس طبيعة الألحان السومرية من خلال الأبوذية وبقية الألحان في المنطقة الجنوبية كالدارمي والميمر والموّال وسواها”. وقد نشر الدكتور فوزي رشيد هذا الرأي تحت عنوان “الغناء العراقي القديم، مجلة آفاق عربية، العدد الثالث، السنة الثالثة، بغداد تشرين الثاني 1977، ص81” ويورد الدكتور فوزي رشيد مقطعاً مقتبساً من الشعر السومري يبدو قريباً من شكل الأبوذية العراقية، مع أن المفردة (المفتاح) التي تتكرر ثلاث مرات تأتي بمعنى واحد وليس بمعانٍ مختلفة كما هو شأن الأبوذية، فضلاً عن أن الفترة ما بين غروب الحضارة البابلية إثر تخريب بابل من قبل الملك الفارسي كورش واتخاذه المدائن عاصمة له وبين الحواضر العربية كمملكة الحيرة وسواها، هذه الفترة التي امتدت لقرون متعددة قطعت الصلة بين عرب العراق الذين قدِموا من الجزيرة العربية تحت راية الإسلام واختلطوا بسكان المنطقة قبل الإسلام، وبين إنجازات الحضارة السومرية والبابلية والآشورية. ومن هنا فإننا لا يمكن أن نستنتج وبشكل حاسم أن أصل الأبوذية هو هذه المقاطع من الشعر السومري أو البابلي، لأن أي دليل يتطرق إليه الاحتمال يسقط به الاستدلال، وكما يقول علماء المنطق. ويُرجِع الدكتور مصطفى جواد أصل الأبوذية العراقية إلى العصر العباسي حيث صُحّفت مفردة دوبيت بوديت بوذيت بوذية. وهذا الرأي للدكتور مصطفى جواد ورد في مجلة التراث الشعبي تحت عنوان “الشعر العامي العراقي القديم” مجلة التراث الشعبي، العدد الأول، السنة الأولى، مطابع دار الزمان، بغداد 1963، ص29 وأنا أستبعد رأي عالمنا اللغوي الجليل مصطفى جواد لسببين: الأول هو أن لفظ الدوبيت ولفظ الأبوذية بعيدان عن بعضهما، وأما السبب الآخر، – وهو الأرجح كما أعتقد – فهو أن نماذج الدوبيت التي وصلتنا لا صِلة لها بالأبوذية، ونذكر منها نموذجاً مشهوراً غناه المطرب العراقي ناظم الغزالي، وهو ينسب للشاعر البهاء زهير: يا من لعبت به شمول ما ألطف هذه الشمائل نشوان يهزُّه دلال كالغصن مع النسيم مائل والبيتان من مجزوء الدوبيت، ويأتي على وزن (فَعْلن متفاعلن فعولن)، وهو على غير نسق بحور الخليل الستة عشر، في حين يأتي إيقاع الأبوذية على بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن). وهناك من يرى أن لفظ أبوذية يتألف من مقطعين: (أبو) الذي قد يستعمل بمعنى صاحب في اللهجة العراقية، و(ذيَّة) مخففة من أذيَّة، فيكون المعنى صاحب الأذيَّة. فالأبوذية مشتقة إذن من وجهة النظر هذه من الأذى كالعتابة التي هي مشتقة من العتاب. “وللاستزادة ينظر: مجيد لطيف القيسي، من تراثنا الفولكلوري العراقي الأصيل، معرفة أوزان الشعر الشعبي، مطبعة أسعد، بغداد 1985 ص31. وهو رأي قد يبدو مستساغاً، نظراً لأجواء الأبوذية الحزينة وتركيزها على الشكوى من الزمن وغدر الأحبة وغياب الوفاء، مع أن ثمة مضامين أخرى في الأبوذية لها صِلة بقيم الجماعة كالشجاعة والكرم والوفاء والحب والشهامة وما إلى ذلك من قيم أخرى. ـــــــــــــــــ • أستاذ اللغة العربية في قسم اللغات الأجنبية بكلية واشتناو- ميشيغان- الولايات المتحدة الأميركية.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: ة العراقی
إقرأ أيضاً:
رئيس جامعة الأزهر يلقي محاضرة بعنوان «أثر اللغة العربية في فهم النص الشريف»
ألقى الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، محاضرة علمية بدار الإفتاء المصرية بعنوان «أثر اللغة العربية في فهم النص الشريف»، ضمن البرنامج التدريبي منهجية الفتوى في دار الإفتاء المصرية، لمجموعة من علماء دور الإفتاء الماليزية والأكاديميين الجامعيين.
تناول رئيس الجامعة، خلال المحاضرة، المكانة الرفيعة للغة العربية ودورها المحوري في ضبط الفهم الشرعي للنصوص واستنباط الأحكام، مشيرًا إلى أنها لسان الوحي ووعاء الشريعة، وأن فهمها يمثل المدخل الرئيس لصحة الفقه في الدين واستقامة الفتوى، وأن الحديث عن أثر اللغة في النص الشريف هو حديث عن هوية الأمة ومصدر وعيها التشريعي والمعرفي.
وأكد فضيلته، أن من أخطر ما يهدد صفاء الفتوى وانضباطها هو القول على الله بغير علم، لأن الفتوى بغير علم تمثل افتراءً على الله تعالى وتسبب اضطرابًا في الوعي العام وخللًا في حياة الناس، مستشهدًا بقول النبي ﷺ: «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض»، موضحًا أن المفتي يقوم مقام النبوة في البيان والتبليغ عن الله تعالى، فهو وارث علم الأنبياء ومبلّغ عن رب العالمين، ولا يليق بهذا المقام الجليل أن يتصدر له إلا من جمع بين العلم الراسخ والفهم الدقيق والورع والعدالة.
وأشار رئيس الجامعة إلى أن ضعف الزاد في اللغة العربية من أبرز أسباب الخطأ في الفهم والفتوى، موضحًا أن اللغة هي الأداة التي يُفهم بها النص الشرعي، وأن الجهل بها يؤدي إلى الانحراف في المعنى والمقصد، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أرشدوا أخاكم فقد ضل»، مؤكدًا أن الدقة اللغوية شرط أساس في الفهم السليم للوحي، وأن اللغة والفقه والعقيدة علوم متكاملة لا تنفصل عن بعضها.
وبين فضيلته أن الأمة الإسلامية أمة تصنع المعرفة ولا تستهلكها، لافتًا إلى أن علماءها الأوائل أسسوا لقواعد العلوم وبنوا منهجًا متكاملًا يربط بين اللغة والدين والفكر، مؤكدًا أن اللغة تمثل الأساس الذي تتماسك به وحدة المعرفة الإسلامية، داعيًا الباحثين وطلاب الدراسات العليا إلى التعمق في دراسة اللغة العربية، خاصة في باب العلاقة بين الفقه واللغة، موصيًا بقراءة كتاب «الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل اللغوية» لما يتضمنه من بيانٍ لأثر اللغة في دقة الاستنباط وتوجيه الأحكام.
وفي ختام المحاضرة، تحدث رئيس الجامعة عن الفرق بين الفتوى الفردية والفتوى المؤسسية، موضحًا أن الفتوى الفردية تخص الأفراد وتصدر من المفتي المؤهل، بينما الفتوى المؤسسية تتعلق بالشأن العام والمصالح الكبرى للأمة وينبغي أن تصدر من المؤسسات الرسمية لما تمتاز به من منهجية علمية وضبط جماعي ونظر في المآلات، مؤكدًا أن من تمام الفقه في الدين أن يتجرد المفتي من الهوى وألا يضيّق ما وسّعه الله، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحجر واسعًا»، مشيرًا إلى أن مراعاة المصلحة العامة ورفع الحرج عن الناس من سمات الفقه الراشد الذي يجسد وسطية الشريعة وسعتها.