الوهم الذي يصنع الفشل ويؤسس للفساد
تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT
الطليعة الشحرية
في خضمّ سباق المؤسسات الحكومية نحو "التميّز" و"الكفاءة"، وُلدت منظومة الإجادة الفردية كأداة يُفترض أن تحفّز الأداء وتكرّس العدالة في التقييم، غير أن الواقع الذي تكشفه التجربة اليومية، وما أكّده تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة لعام 2025، يُظهر أنَّ هذه المنظومة تحوّلت- في بعض تطبيقاتها- إلى عبء إداري ونفسي؛ بل إلى مدخلٍ ناعمٍ للفساد التنظيمي المقنَّع بشعارات التطوير والتحفيز.
أشار تقرير جهاز الرقابة بوضوح إلى أن منصة "إجادة" تُدار حاليًا من شركة خاصة، وأن وزارة العمل لا تمتلك صلاحيات مباشرة في تشغيلها أو إدارتها الفنية. وهذا القصور الرقابي- كما وصفه التقرير- أوجد فجوة في السيطرة على البيانات والقرارات، وأضعف قدرة الجهة الحكومية على الإشراف والتصحيح. وقد أوصى التقرير بضرورة نقل إدارة المنظومة إلى الوزارة ابتداءً من مارس 2025، وتطبيق ضوابط صارمة لحماية البيانات وضمان الشفافية في الترشيحات والمكافآت؛ هذه الملاحظة الجوهرية تضعنا أمام سؤال وطني مهم: كيف يمكن لمنظومة تدار من خارج الإشراف الحكومي الكامل أن تكون أداة عادلة لقياس أداء موظفي الحكومة؟
وتحت شعارات "الكفاءة" و"الأداء العالي"، تحوّلت المنظومة عمليًا إلى بيئة تنافسية مضخّمة تقوم على الفردانية لا الجماعية. فبدل أن تُعزِّز روح الفريق، زرعت التمييز الطبقي والتنافس المَرَضي داخل المؤسسات. تساؤلات من قبيل: "لماذا لم أُرشّح؟"، "هل شهادتي تكفيني؟"، باتت تعبّر عن خلل في العدالة المؤسسية، وحين يصبح التقدير مرهونًا بالانتماء الإداري أو "دعم اللوبي"، لا بالكفاءة والجهد، تتحوّل الإجادة من حافز إلى أداة إقصاء ممنهجة.
أكدت دراسة "هارفارد بزنيس ريفيو" لعام 2021 أنَّ الأنظمة الفردية المنعزلة عن الواقع التنظيمي تقلل الإنتاجية بنسبة 18% وتزيد التوتر بنسبة 25%، خصوصًا في البيئات ذات القيادة الهرمية والسياسات الغامضة، وهي أوصاف تتطابق جزئيًا مع المشهد الوظيفي لدينا.
الفساد لا يُقاس فقط بالرشاوى أو الاختلاسات، بل أيضًا عندما تُشوَّه العدالة التنظيمية، فحين تُستخدم أنظمة التقييم الفردي كغطاء لقرارات إدارية مسبقة أو لتبرير تمييز غير مشروع، يتحول "التطوير" إلى سلوكٍ إداري فاسد في جوهره.
تقرير جهاز الرقابة أشار إلى أن ضعف الحوكمة في إدارة "إجادة" يفتح الباب أمام ممارسات تُضعف مصداقية الأداء العام، وهو ما يستدعي رقابة فنية وقانونية أشد. وتتوافق هذه النتيجة مع دراسة المركز العربي للأبحاث (لعام 2022)، التي كشفت أن 41% من مؤسسات القطاع العام العربي تستخدم التقييم الفردي لتغطية قرارات جاهزة مسبقًا، ما يؤدي إلى “تسيس الأداء” وإسكات الأصوات الناقدة.
في الواقع العملي، أفرغت "الإجادة الفردية" القيم من معناها الحقيقي. يُكرَّم موظف بارع في صياغة التقارير المنمّقة، ويُتجاهل آخر أنقذ موقفًا حرجًا خلف الكواليس. تُربط قيمة الذات بنتيجة تقييم، فينشأ إحباط جماعي وقلق دائم حول "الاستحقاق". وهنا يتحول الشغف بالعمل إلى سباقٍ للظهور، ويُستبدل التعاون بالتزلف الإداري. وقد بيّنت دراسة معهد غالوب لعام 2020، أن المؤسسات التي تعتمد بشكل مفرط على تقييمات فردية ترتفع فيها معدلات الإرهاق الوظيفي، وينخفض الولاء المؤسسي بنسبة تصل إلى 30%.
الحل لا يكون في إلغاء المنظومة؛ بل في إعادة تعريفها جذريًا لتواكب العدالة والحوكمة الحقيقية، ومن أهم الخطوات المقترحة؛ تحويل محور التقييم من الفرد إلى الفريق، لأن النجاح المؤسسي ثمرة جهد جماعي لا بطولة شخصية.
ولذلك فإنَّ الاعتراف بالجهد غير المرئي، والدعم اللوجستي، والمتابعة اليومية، والعمل في الظل يجب أن يكون له وزن حقيقي في التقييم. قياس النوع لا الكمّ، لا تُقاس الإجادة بعدد النقاط، بل بتأثير العمل في تحسين الخدمة العامة. كما يتعين تمكين وزارة العمل من الإدارة التقنية الكاملة للمنصة، مع رقابة دورية من جهاز الرقابة الإدارية والمالية، وضرورة فصل المكافآت عن المحسوبيات، وبناء نظام حوافز عادل يضمن تكافؤ الفرص لجميع فئات الوظائف، بما فيها المساندة والخدمية.
لقد آن الأوان لمراجعة "الإجادة الفردية" بجرأة، فما صُمّم ليكون أداة تطوير، تحوّل في بعض أوجهه إلى آلة ضغط نفسية وتنظيمية تُفرز القلق وتكرّس الطبقية وتُفرغ العمل من روحه الجماعية. الإجادة الحقيقية لا تُقاس بالنتائج الشكلية ولا بتقارير التزلف؛ بل تُقاس بقدرتنا على بناء بيئة عمل عادلة، شفافة، متعاونة، وإنسانية. إن كنا نسعى إلى تحقيق رؤية "عُمان 2040"، فطريق "الإجادة" يجب أن يبدأ أولًا من العدالة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رئيس "الشورى" يؤكد أمام الاتحاد البرلماني الدولي ضرورة دعم قيم العدالة والسلام
مسقط- الرؤية
ألقى سعادة خالد بن هلال المعولي رئيس مجلس الشورى كلمةً أمام الجمعية العامة الـ151 للاتحاد البرلماني الدولي في إطار مشاركة المجلس في أعمال الجمعية والاجتماعات المصاحبة لها بمدينة جنيف السويسرية، تحت عنوان "الالتزام بالمعايير الإنسانية ودعم العمل الإنساني في أوقات الأزمات".
وأكد المعولي أهمية هذا اللقاء الدولي في ترسيخ قيم العمل الإنساني وتعزيز مبادئ التضامن والتعاون المشترك بين البرلمانات من أجل مستقبل أكثر سلمًا واستدامة، مشيرًا إلى أن هذا الاجتماع يأتي في مرحلة حساسة تتطلب من جميع الدول والبرلمانات تكثيف الجهود لمواجهة التحديات الإنسانية والاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم. وأوضح أن حماية العمل الإنساني في أوقات الأزمات بات واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا، وأن الأزمات المتلاحقة من نزاعات مسلحة وكوارث طبيعية وأزمات اقتصادية تلقي بظلالها على الجهود الإنسانية وتضع العاملين في هذا المجال أمام تحديات غير مسبوقة، مما يستدعي التمسك بالمبادئ الإنسانية وتعزيز الأطر التشريعية التي تكفل احترام الحياد والاستقلال وعدم التمييز، وضمان وصول المساعدات إلى المستحقين دون عوائق أو تسييس.
وأشار سعادته إلى أن العمل الإنساني يمثل لغة مشتركة بين الأمم، وأن الحفاظ على كرامة الإنسان في أوقات الأزمات هو المعيار الحقيقي لمدى وعي المجتمعات وإنسانيتها، مؤكدًا أن العالم بحاجة اليوم إلى رؤية موحدة تضع الإنسان في قلب كل جهدٍ ومبادرة، وأن تعزيز التعاون البرلماني الدولي وتبادل الخبرات وإطلاق مبادرات مشتركة في مجالات التشريع والتوعية يشكل ركيزة أساسية لضمان التطبيق الفاعل للقانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين وصون السلم والأمن الدوليين.
وأشار سعادة خالد بن هلال المعولي في معرض حديثه إلى جهود سلطنة عُمان في هذا المجال؛ موضحًا بأنها جعلت من العمل الإنساني أحد مرتكزات سياستها الوطنية، حيث نصّت الرؤية المستقبلية "عُمان 2040" على أن قيم التضامن الاجتماعي والمسؤولية المجتمعية تشكل أساسًا لبناء مجتمع متماسك ومستدام، معتبرًا العمل الإنساني والخيري جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية العمانية. وأكد أن سلطنة عمان، من خلال مؤسساتها الرسمية وعلى رأسها الهيئة العُمانية للأعمال الخيرية ووزارة الخارجية والفرق التطوعية والمبادرات الأهلية، قدّمت الدعم والمساعدات الإنسانية للدول المتضررة من الكوارث الطبيعية والنزاعات دون تمييز أو اعتبارات سياسية، بما يجسد النهج العماني القائم على الحياد الإيجابي والإنسانية الخالصة. كما أشار إلى أن سلطنة عمان حرصت على تعزيز شراكاتها مع المنظمات الدولية المعنية بالعمل الإنساني، مثل مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، بما يسهم في بناء قدرات وطنية وإقليمية أكثر فاعلية في إدارة الأزمات والاستجابة السريعة لها.
وأضاف سعادته أن دعم العمل الإنساني لا يمكن فصله عن دعم العدالة الإنسانية، موضحًا أن ما يتعرض له الأبرياء في مناطق النزاعات يعد انتهاكًا صارخًا لكل القيم الإنسانية والاتفاقيات الدولية، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية، والعمل المشترك لوقف الانتهاكات ضد المؤسسات الإغاثية والعاملين فيها، واحترام القانون الدولي الإنساني الذي يشكل حجر الأساس لحماية الإنسان وكرامته.
إلى ذلك، ترأس سعادة رئيس مجلس الشورى أعمال المؤتمر الاستثنائي لعام 2025 للاتحاد البرلماني العربي الذي عقد على هامش أعمال الجمعية العامة الـ151 للاتحاد البرلماني الدولي، بحضور رؤساء وأعضاء البرلمانات والمجالس العربية، وممثلي المنظمات البرلمانية والإقليمية ذات الصلة، والذي شهدت أعماله مناقشات واسعة للأبرز تطورات المنطقة حول المستجدات السياسية والأمنية في المنطقة العربية، مع التركيز على القضية الفلسطينية وتطورات الأوضاع في قطاع غزة، في ظل التطورات المتلاحقة خاصة عقب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وبحثت أعمال المؤتمر الخطوات العملية لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، بما في ذلك إعادة إعمار القطاع وتنسيق الجهود العربية والدولية لدعم الشعب الفلسطيني، كما ناقش المؤتمر الاعتداء الذي تعرضت له دولة قطر مؤخرًا، وأكد المجتمعون ضرورة التضامن العربي في مواجهة أي انتهاكات تمس سيادة الدول العربية.
وأقرَّ المشاركون خلال المؤتمر بيانًا ختاميًا موسعًا أكدوا خلاله على الترحيب بالاتفاق الذي تم التوصل إليه بشأن غزة وبدء تنفيذ مرحلته الأولى لوقف الحرب، معتبرين أن الاتفاق يُجسد انتصار إرادة السلام والحوار على منطق الحرب والعنف. وأشاد المؤتمر بالجهود الدبلوماسية الحثيثة التي بذلتها جمهورية مصر العربية ودولة قطر في رعاية المفاوضات، وأكد البيان على مسؤولية المجتمع الدولي في دعم الشعب الفلسطيني وتقديم المساعدات العاجلة لإعادة بناء البنية التحتية وتحقيق التعافي الشامل. كما أكد البيان على ضرورة استغلال الصحوة الدولية في مساندة جهود دولة فلسطين، ودعمها للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
وعلى هامش أعمال الجمعية العامة، عقد سعادة خالد بن هلال المعولي رئيس مجلس الشورى عددًا من اللقاءات الثنائية في إطار تعزيز الدبلوماسية البرلمانية؛ حيث التقى بمعالي محمد أحمد اليماحي رئيس البرلمان العربي، جرى خلال اللقاء بحث سبل تعزيز التعاون المشترك بين مجلس الشورى والبرلمان العربي، وتبادل وجهات النظر حول القضايا الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
من جانب آخر شارك سعادة الشيخ أحمد بن محمد الندابي أمين عام مجلس الشورى، في اجتماع جمعية الأمناء العامين للبرلمانات الوطنية.