أحمد الحارثي والسؤال الممتنع
تاريخ النشر: 27th, October 2025 GMT
منى حبراس
لا أذكر من قال لي مرّة إنه يحبّ سماع صوت أم كلثوم عن غير قصد، كأن يفتح شبّاك نافذته فيأتيه صوتها من شرفة الجيران، أو يفتح الراديو صباحا فإذا بها تغنّي، فيبقى منصتا لها حتى تفرغ، أو حتى يتحول البث إلى سواه من البرامج والأغنيات. السماع عفوا صرتُ أشبِّهه بالهدايا المغلّفة التي لا تعرف ما تنطوي عليه، فتأتيك المفاجأة كاستراحة عذبة غير منتظرة ولا متوقّعة، ولكنّها كافية لتثير في داخلك كلَّ أحاسيس السماع الأول، وذكريات الصبا، وعمر كامل ظننتَ أن الذاكرة لن تفعلها وتكُرّه كله أمامك دفعة واحدة، فإذا بها تفعل في غفلة منك وفي لحظة ربما لم تكن مستعدًّا لها.
تذكّرتُ ذلك بينما كنتُ أركن سيّارتي في مواقف "بيت الزبير" وقد وصلتُ إلى العمل أخيرا بعد مشوار طويل من المعبيلة، اخترتُ خلاله أن أستمع إلى إذاعة صوت عُمان الثانية، حيث تُبَث منوّعات غنائيّة عربيّة على مدار الساعة، ولكنّ الإذاعة في لحظة مراوغة كتلك، اختارت - بينما أهمّ بالنزول - أن تُسمعَني واحدة من أعذب أغنيات أحمد الحارثي العاطفية صدرت في عام 1993م، وهي أغنية "كم تمنيتك معي"!
لا أحسبني سمعتُ هذه الأغنية منذ ما يزيد على ثلاثين عاما، ولا أظنني كنت سأسمعها لولا الإذاعة الوحيدة في العالم كلّه التي تبثّها وقَدّرَت لي أن أسمعها في تلك اللحظة، فحكمتْ عليّ بالبقاء في السيارة حتى انتهائها. تساءلت: هل كنّا سننسى هذه الأغنية وسواها من أغاني أحمد الحارثي العاطفية لو لم تبثّها إذاعة صوت عُمان الثانية، بعد مرور ثلاثين عاما على توقّفه المفاجئ عن الغناء؟
كنتُ طفلة صغيرة عندما كتبتْ إحدى صحفنا المحلية بالعنوان العريض: "البحث جارٍ عن أحمد الحارثي!" فقلت بسذاجة الطفلة التي كنتُها لأختي الكبرى ميمونة: "دعينا نبحث عنه!" فضحكت منّي. ولكن كيف لي أن أعرف وقتها أن أحمد الحارثي لم يكن يلعب معنا لعبة الغمّيضة، وأنه موجود ولكنّه اختار الاختفاء بصوته، مكتفيا بأغانيه التي أدخلته كل بيت في عُمان؛ حيث أوجد له في كل مناسبة أغنية، فضَمِنَ سلفا أنه لن يغيب طوال العام؛ فهذه أغنية للعيد السعيد، وتلك أغنيات ليوم النهضة، وأخريات للعيد الوطني، وأغان لمجلس التعاون الخليجي، وفي كل أوبريت غنائي يسجّل حضوره المميز. كما يغنّي لبعض مسلسلات التسعينيات، وفي فوازير رمضان عن الأفلاج والعيون، ويحصد جائزة البلبل الذهبي في مهرجان الأغنية العُمانية الأول في عام 1994م. حضر الحارثي كما لم يحضر أحد. يُغنّي فتحسبه وحده مَن يُغنّي الكلمة والمعنى معا؛ يُغنّي فتشعر أنه النموذج والمثال. حتى عندما غنّى "نحن الشبابُ للوطن"، تخيّلتُه في كلمة الشباب التي لو تجسّدت رجلا لكانتْه، وهو يُغنّي فاردا ذراعيه للكاميرا بابتسامته الجميلة، ويكمل: "درعٌ له عند المحن"، فنطمئن على الوطن. كان الحارثي في طفولتي صورة كاملة لفتى الأحلام؛ في صوته الدافئ، وطلّته الشابّة الفتيّة التي حسبتُها لن تشيخ أبدا.
قبل أربعة أعوام تقريبا، تحديدا في مايو 2021م، فرح محبّوه عندما أطلّ بعد طول غياب في صورة رفقة الإعلامي حمود الطوقي، ثم ظهر في نوفمبر من العام نفسه في مقطع فيديو يؤدّي بصوته المجرّد إحدى أشهر أغنياته الوطنيّة "بلادي تغنّى بها المُلْهَمون"، وقد غزا الشيب لحيته من دون أن يغزو صوتَه وبريقَ عينيه، فراودني السؤال عمّا إذا كان توقّفه إنما عن الظهور وحسب وليس عن الغناء؛ لأن الصوت الذي ظهر في مقطع الفيديو ذاك صوتُ مَن لم يتوقّف عن الغناء، صوتٌ رافقته الدربة ولم يُفقده الغياب شيئا من عذوبته. وهي ملاحظة لم تفُت سليمان المعمري الذي كتب مقالة في 21 نوفمبر 2021م في جريدة عمان بعد انتشار هذا المقطع، من دون أن تفوته كذلك تهنئة الحارثي المستحقة "على بقائه في ذاكرتنا كل هذه السنين، وهو شرف لا يمكن أن يناله إلا فنان محترم عرف كيف يختار أغانيه وألحانها، وأتقن أداءها"، فداهمتني الرغبة في لقاء أحمد الحارثي لمرة واحدة فقط، مرة واحدة أطرح عليه سؤالا واحدا لا سواه. ولا أنسى الجهد الذي بذلته في سبيل ذلك، وقد تقمّصت دور الصحفي الباحث عن حقيقة، حتى تمكّنت من الحصول على رقم هاتفه والمكان المحتمل تردّده عليه، ولكن مع كثير من التحذيرات، فهو – من ضمن ما قيل لي - رجل يرفض أن يُخرجه أحد من عزلته ويُعرّضه للضوء من جديد.
مرّ الوقت وهاتف الرجل محفوظ في هاتفي، ولم أجرؤ على الاتصال به أو حتى إرسال رسالة صغيرة تخيلتُني أكتب فيها: "مرحبا أيها الشّابُ الأكمل، معك فتاة تدعى منى حبراس، كانت تستمع إليك في طفولتها كثيرا، وتحفظ كل أغنياتك، فهل تسمح بأن أطرح عليك سؤالا واحدا فقط؟" كتبتُ هذه الرسالة مرارا ولكني لم أضغط يوما على أمر الإرسال. مع الوقت أدركتُ أن التردد ليس بسبب السؤال الذي سأطرحه، ولكن في احتمالية عدم رغبته في الإجابة من الأساس، أو في رفضه فكرة أن أنشر إجابته على الأقل. ثم فكّرت إذا كان من الّلباقة أن نستبيح بفضولنا عزلة أحدهم التي اختارها طواعية واطمأن إليها، حتى لو لم نكن راضين عن اعتزاله؟ فرضيتُ أخيرا أن يبقى السؤال مشرعا دون أن أطرحه عليه، ودون أن تشغلني إجابته المنتظرة.
وإذا كانت أغنيات الحارثي الوطنيّة تجد سبيلها إلينا في كثير من مناسباتنا الوطنيّة - وقد اشتهر بها شهرة واسعة، وما فتئت تثير حنينا ضاجّا في الوجدان كلما عبرت أسماعنا - فإن أغنياته العاطفيّة لا تقلّ عنها عذوبة وجمالا، ولكنّها على العكس من الوطنيّة، لا تجد مساحتها الكافية بعد أن توقّف كلٌ من تلفزيون وإذاعة عُمان الرسميَّيْن عن بث الأغنيات العاطفيّة العُمانية إلا فيما ندر، واكتفيا بالوطنيّة فقط في مناسباتها وسياقاتها؛ فشعرتُ أنّي في مهمّة من نوع خاص، فرُحت أحصي أغنياته العاطفيّة التي أسعفني بها اليوتيوب والزميل خالد البراشدي – صاحب أكبر مكتبة مرئية خاصة في عُمان – بتسع أغنيات على الأقل، جمع الحارثي ستا منها في ألبومه الغنائي العاطفي الوحيد "يا حبيبي" الصادر في عام 1993م من إنتاج شركة هالي للإنتاج الفني، وهي: "قلت له"، و"لا تستمع" من كلمات عمر سعيد مرهون، و"يا حبيبي" و"راحت وجات" من كلمات عبدالله صخر العامري، و"إذا سافرت" من كلمات سعيدة خاطر؛ مؤلفة أغنيته الوطنيّة "وحي الإلهام" ("بلادي تغنّى بها المُلْهَمون")، و"كم تمنيتك معي" من كلمات علي مبارك الفارسي. وقد لحن الحارثي أغنيات هذا الألبوم بنفسه، ما عدا "راحت وجات" و"إذا سافرت" اللتين كانتا من ألحان الفنان أحمد فتحي.
وإلى جانب هذه الأغنيات الست، هناك أغنياته: "إلى متى" التي كتب كلماتها الشاعر علي الشرقاوي ولحنها الفنان خالد الشيخ، و"حبيبة قلبي" التي كتب كلماتها الشاعر عبدالله صخر العامري، ولحنها الحارثي بنفسه، و"عندي رجاء" التي حصد بها جائزة البلبل الذهبي في مهرجان الأغنية العمانية الأول في عام 1994م كما أسلفنا.
لا يدهشنا تعاون أحمد الحارثي مع شعراء وفنانين كبار في الثمانينات والنصف الأول من التسعينيات قبل اعتزاله في عام 1996م، فإلى جانب أحمد فتحي وخالد الشيخ، نتذكر تعاونه مع أنور عبدالله والسيد خالد بن حمد وآخرين. مثلما تعاون شعريا مع عبداللطيف البنّاي وسعيد الصقلاوي، إلى جوار من سبق ذكرهم من الشعراء. أقول: لا يدهشنا تعاونه مع الأسماء الكبيرة لحنا وكلمات، فهو فنان من طراز خاص؛ بقدر ما يجيد اختيار الكلمة واللحن اللذين يناسبانه، تختاره الألحان والكلمات كذلك، وإلا فمن منا يتذكّر أغنية لأحمد الحارثي لم تترك أثرا في نفوسنا؟ ونحسبه نجح كذلك حتى عندما مثّل دور العاشق في كليب أغنيته الشهير "حبيبة قلبي"، إذ لم يعهد بالدور لمودل يؤدّيه ككثير من الفنانين، بل أقنعنا أكثر بالمعاني التي تفيض بها الأغنية كلماتٍ ولحنا وغناء و(تمثيلا)، وحققت تأثيرها الكبير في ذلك الوقت بينما يظهر محاولا الوصول إلى محبوبته وإن برسالة صغيرة لا تصل، فتعاطفنا مع الفنان العاشق وقد تجسّدت فيه صفات بطل الشاشة بوسامته إذ يلقي بمصرّه على كتفه، يراقب رسالة أخطأت طريقها، ثم وهو يؤدي مع البحّارة بعض فنونهم البحرية على ظهر مركب.
قد يثير الاستغراب أنه لا توجد لأحمد الحارثي مقابلة واحدة أو حوار – على حدّ بحثي - طوال مسيرته، باستثناء حوار قصير أجراه معه الإعلامي خالد الزدجالي في العاشر من ديسمبر 1994م، قبل صعوده مسرح مهرجان الأغنية العمانية الأول. يقول له الزدجالي: "معظم أغانيك وطنيّة، فكيف اخترت هذه الأغنية العاطفيّة لتشارك بها ضمن هذا المهرجان؟"، فيرد الحارثي: "هذه ليست أول مرة أغنّي فيها أغنية عاطفيّة، ولكنّي ربما اشتهرت بالأغاني الوطنيّة أكثر. واخترت هذه الأغنية لأن اللحن جيّد، والكلمات أيضا جيّدة". ولدى سؤال الزدجالي إياه عن رأيه في مثل هذه المسابقات الفنية، قال: "إن هذه المسابقة تعطي الفنانين دافعا للتقدم والعطاء أكثر في المستقبل"، وأضاف أنه يعوّل على الجمهور في الحكم على أغنيته التي سيشارك بها ما إذا كانت جيّدة أو لا.
يكشف هذا الحوار اليتيم والسريع، عن الذائقة الخاصة بأحمد الحارثي، التي تجيد الحكم على الكلمة واللحن، وتملك تقرير جودة الأغنية التي سيغنيها تبعا لذلك، واحترامه الكبير للجمهور، الذي يعوّل عليه في الحكم على جودة ما يقدم، على الرغم من أن المهرجان في ذلك الوقت لا يعتمد على تصويت الجمهور أو الرسائل النصية، ولكنها الثّقة التي بناها مع جمهوره الذي أحبَّه وأحبَّ ذائقته التي تنتقي لهم ما يصعد بالفن إلى أجمل مستوياته، فبقيت أغنياته خالدة رغم اعتزاله منذ ثلاثة عقود.
نُضطر مرغمين أحيانا إلى مراجعة أنانيّة المتلقي فينا، وترويض رغبتنا الخاصّة في عدم انقطاع من أحببناهم عن فعل ما أحببناهم لأجله، ونتمرن على كبحِ تلك الرغبة المستمرة في جديد يصدر بين حين وآخر، شريطة ألاّ ينقص منسوب العذوبة الذي عهدناه؛ لأن الاستمرار منزوع العذوبة يشبه الغياب تماما. وما نحسبه أن الحارثي الذي اعتزل فجأة ودون سابق إنذار، قد انسحب عن المشهد وهو في قمة عطائه وعنفوان نجاحه، وترك الأطفال الذين كنّاهم يبحثون عنه، على أمل أن يخرج من مخبئه بألبوم جديد، ولكنّه لم يفعل، وسلوانا أنه ترك لنا إرثا من الأغنيات العِذاب يواسينا بها اليوتيوب في كل موجة حنين، أو تباغتنا بها إذاعة صوت عُمان الثانية بين حين وآخر، كما باغتتني بأغنيته الجميلة "كم تمنيتك معي". ولكن "عندي رجاء"، بما أنه لا أمل في أن نسمع هذه الأغنيات في غير إذاعاتنا العُمانيّة، وبما أن إذاعة صوت عُمان الأولى مخصصة للأغاني الوطنية فقط، أن تخصص إذاعة صوت عُمان الثانية ساعات محدّدة لبثّ الأغنيات العُمانيّة العاطفيّة وحدها، لأحمد الحارثي ورفاقه: سالم علي سعيد، ومحمد المخيني، ومدين مسلم، وسالم اليعقوبي، وعبدالله الحتروشي، وماجد المرزوقي، وصولًا إلى صلاح الزدجالي، وأيمن الناصر، والقائمة الجميلة من الأسماء العُمانيّة التي شدَت بأغانٍ عاطفيّة إلى جانب أغانيها الوطنيّة؛ لأنها إن لم تفعل، فلن تفعلها إذاعة أخرى أبدا، وسنخسر حينها مرتين: مرة بغياب الفنان، ومرة بغياب أغانيه!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أحمد الحارثی الأغنیة الع هذه الأغنیة العاطفی ة من کلمات الوطنی ة فی عام ة التی التی ت ولکن ه ه التی
إقرأ أيضاً:
القيادة التي لا تسمع.. لا تتعلّم!
خالد بن حمد الرواحي
حين تصمت المؤسسة عن نفسها. لا أحد يسمع أخطاءها وهي تتكرر.
في بعض المؤسسات، لا يُسمع الصوت إلا من الأعلى، وحين يتحدث الموظفون لا أحد يُصغي. يصبح الصمت هناك فضيلةً مفروضة، والكلمة مغامرةً غير مأمونة العواقب. ويُطلب من الموظف ألّا يُبدي رأيًا، بل أن يصمت بأناقة؛ فالرأي يُفسَّر تمرّدًا، والنقد يُعامَل كجريمةٍ إدارية، والكلمة تُقابَل بالحذر وكأنها تهديدٌ للنظام.
وهكذا يتحوّل الصمت تدريجيًا إلى سياسةٍ غير مُعلنة تُزيَّن بشعار «الانضباط»، لكنها تخفي وراءها خوفًا من المساءلة، وضياعًا للأفكار التي كان يمكن أن تُنقذ كثيرًا من القرارات.
وحين يُصبح الصمت أسلوبًا في الإدارة، لا يعود الهدوء دليلًا على الاستقرار، بل علامةً على أن المؤسسة فقدت صوتها الداخلي. ذاك الصوت الذي يُصحّح، ويقترح، ويجرؤ على القول قبل أن يتأخر الوقت.
الصمت في المؤسسات لا ينشأ صدفة، بل يُزرع بالتدريج. يبدأ حين يُهمَّش أول صوتٍ نقدي، ويستمر حين تُغلق الأبواب في وجه من يقترح أو يعترض، ثم يتحوّل مع الوقت إلى سلوكٍ جماعيٍّ يفضّل فيه الناس السلامة على المشاركة. عندها تختفي الحوارات، وتتحوّل الاجتماعات إلى مراسم شكلية تُتلى فيها القرارات بدل أن تُناقش.
إنها بيئة لا تُعاقب الخطأ بقدر ما تُعاقب الجرأة على كشفه، ولا تكافئ الصدق بقدر ما تُكافئ الصمت؛ وهكذا يتكوّن جدارٌ من الخوف، لا تراه في اللوائح، لكنه حاضرٌ في كل التفاصيل، يكمّم الأفواه قبل أن تنطق، ويُطفئ الفكرة قبل أن تولد. وحين يسود الصمت، يخسر الجميع.
فالقرارات تُبنى على نصف الحقيقة، لأن النصف الآخر حُبس في صدور من خافوا الحديث. تتكرّر الأخطاء نفسها، لأن من رآها أول مرة لم يتجرّأ على قولها، ويبهت الإبداع حين تموت الأفكار قبل أن تُولد.
وفي بيئةٍ يخاف فيها الناس من الكلام، لا يتعلّم أحدٌ من الآخر، بل يتقنون فنَّ الصمت أكثر من فنِّ العمل. فكم من فكرةٍ وُلدت في عقل موظفٍ بسيط، لكنها ماتت قبل أن تُقال، لأن الباب كان مغلقًا… والقلب كذلك.
وحين يصبح الخوف من الخطأ أكبر من الرغبة في الصواب، تتحوّل المؤسسات إلى مساحاتٍ هادئةٍ من الخارج لكنها قلقةٌ من الداخل؛ تسير على استقرارٍ ظاهريٍّ يخفي تحته فوضى من التردّد، ويتحوّل فيها الإنجاز إلى واجبٍ روتينيٍّ لا إلى قيمةٍ حقيقية. ويبهت الولاءُ شيئًا فشيئًا، لأن الخوف لا يبني انتماءً، والصمت لا يصنع ولاءً.
فالمؤسسة التي تُطفئ صوت موظفيها تُطفئ نبضها الحيّ معهم، وتتحوّل مع الوقت إلى كيانٍ إداريٍّ بلا روحٍ ولا ذاكرة، تُكرّر أخطاءها بثقةٍ مؤلمة.
كسر الصمت لا يحتاج إلى قراراتٍ عليا، بقدر ما يحتاج إلى قادةٍ يُنصتون. فالقائد الذي يفتح أذنيه قبل فمه يُعيد الحياة إلى مؤسسته من جديد. يبدأ التغيير حين يشعر الموظف أنّ رأيه لن يُحسب عليه، وأن خطأه فرصةٌ للتعلّم لا مناسبةٌ للعقاب. عندها تنكسر الحواجز، ويتحوّل الخوف إلى حوار، وتستعيد الاجتماعات معناها الحقيقي: مساحةً للتفكير لا استعراضًا للنتائج.
فالثقة لا تُبنى باللوائح، بل بالممارسات اليومية؛ بابتسامةٍ تُرحّب بالرأي المختلف، وبكلمةِ شكرٍ تُقال لمن تجرّأ على لفت النظر قبل أن تقع المشكلة.
القيادة التي تحتضن النقد تُنقذ نفسها من الأزمات قبل أن تبدأها؛ فالصراحة المبكرة علاج، بينما الصمت الطويل نزيفٌ مؤجَّل. والقائد الواعي لا يخشى الملاحظات، بل يراها مرآةً تُصحّح الرؤية قبل أن تتّسع الأخطاء. فالإصغاء ليس ضعفًا، بل ذروة القوة حين يُمارس بثقةٍ وعدالة.
وفي نهاية المطاف، لا يُخيف المؤسساتَ النقدُ بقدر ما يُضعفها الصمت. فالقائد الذي لا يسمع، يحرم نفسه من فرصة التعلّم قبل أن يُفاجئه الخطأ، ويقود مؤسسته إلى العزلة وهي تظنّ أنها تمضي بثقةٍ في طريقٍ خاطئ.
أمّا القيادة الواعية، فهي التي تُدرك أن أعظم القرارات تبدأ بكلمةٍ صادقةٍ قالها موظفٌ لم يُقاطعوه. فالحوار ليس رفاهيةً إدارية، بل خطَّ الدفاع الأول عن جودة القرار واستدامة الثقة. فالقائد الذي يُنصت لا يسمع الكلمات فحسب، بل يسمع نبض مؤسسته في أصوات أهلها.
وحين تُصغي القيادة بصدق، تُنقذ نفسها من التكرار، وتكتب بآذانها مستقبلًا أذكى وأصدق. فالقيادة التي تسمع… تتعلّم، والتي تتعلّم… تبقى.
رابط مختصر