لم تسقط الفاشر فقط: سقطت أكاذيب وأوهام
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
حسن عبد الرضي
حين يخرج علينا الجنرال “الحلمان” ليعلن “النصر”، لا بد أن نفتح أعيننا على حقيقة لا تقبل التجميل: ما حدث في الفاشر لم يكن نصراً بقدر ما كان موتًا مُدبَّراً وعارًا لا يُمحى. المدينة التي حوصرت لأشهر، والمقاتلون الذين تُركوا يتهاوون في مرمى القناصة، دون أن تُقدَّم لهم خطة إنقاذ واقعية — كل هذا يفضح أكاذيب من يصرخون بالنصر، بينما يشاهدون الناس يُبادون.
المواطنون يسألون سؤالًا بسيطًا وعاقلًا: لماذا لم تُعلن قيادة الجيش، منذ وقت طويل، عن تفاهمات أو انسحاب مشرف يحفظ الأرواح؟ لماذا استمر التكتيك بالمراوغة والوعود الفارغة، بينما يزداد حصار المدينة ونقص الغذاء والدواء؟ بدلاً من حماية الناس أو التحاور الفوري لتفادي المجازر، مارس بعض القادة — أو تحالفاتهم الإقليمية — لعبة إيهام الجمهور بالقدرة على التحرير، بينما كانوا في الواقع يضغطون على السكان، ويحوّلونهم إلى دروع بشرية لأهداف ليست وطنية، بل استراتيجية وسياسية. التقارير الصحفية ومنظمات الإغاثة أشارت إلى حصار طويل ومعاناة إنسانية هائلة قبل سقوط المدينة.
الاتهام الصريح: من قتل مقاتلي الفاشر ومن دفعهم إلى المحرقة؟ثمرة السياسة الفارغة واضحة: مقاتلون كانوا يشكِّلون أملًا لتجار الحرب العبثية أُركبوا على سفينة الهلاك. في سياق الحرب المعقدة، تصاعدت اتهامات بأن جهات إقليمية استغلت صراع الفاشر لتحقيق مكاسب — على حساب الدم السوداني. ما حصل داخل الفاشر من ضربات جوية، هجمات على مخيمات وبيوت، واستهداف مستشفيات ومساجد، لا يمكن تفسيره بــ«نكسات تكتيكية» فقط؛ بل يعكس فشل إدارة الأزمة وإصرارًا على استمرار القتال حتى النهاية على حساب أرواح البشر. تقارير عن ضربات على مخيمات النازحين ومساجد ومشاهد قتل جماعي تم توثيقها خلال الشهور الماضية.
التفاوض لم يكن ضعفًا — كان سبيلًا لإنقاذ الأرواحالقول بأن “التفاوض = استسلام” هي مفارقة قاتلة، حين يكون منظورنا إنسانيًا. التفاوض من أجل إخراج المقاتلين المدنيين، أو تبادل مناطق مقابل حياة البشر، ليس خيانةً للوطن، بل مسؤولية أخلاقية وسياسية للحفاظ على البلاد من نزيف لا نهاية له. كان بالإمكان — وعلى مدى سنة ونصف — الضغط دبلوماسيًا وإقليميًا لإجبار سحب آمن أو إتاحة ممرات إنسانية، لكن تغيُّب الإرادة السياسية وغياب سياسة إنقاذ حقيقية أديا إلى الكارثة. تقارير خبيرة تؤكد أن غياب الدعم الجوي أو الإمدادات أدى إلى انهيار الدفاعات تدريجيًا قبل السقوط النهائي.
ثالوث الجريمة: تحالفات أدت إلى إبادة ميدانيةلست أتهاون بالكلمات حين أقول إن هناك ثالثا يجب أن يُسأل: سياسات عسكرية فاشلة، تحالفات إقليمية ومصالح خارجية، واستغلال المآسي سياسياً وإعلامياً. هذه العناصر مجتمعة أنتجت مشهداً مُرّيعا من الإبادة المنهجية في بعض المناطق. ليست القضية فقط من يحارب من؛ بل من الذي اختار أن يضع خيار «الشهرة العسكرية» فوق واجب حماية المواطن. تقارير دولية وحالات ميدانية تُظهر أن التكتيكات التي اتُبعت لم تكن دائمًا تصب في مصلحة حماية السكان.
رسالة للمتحكمين: التوقف الآن ليس ضعفًا بل إنقاذ لبلد كلهلا شيء يبرر استمرار سكب الدماء. إن الاستجابة الحقيقية الآن يجب أن تكون إطلاق مفاوضات فورية لإنقاذ المحاصرين وإخراج الجرحى والمدنيين آمنين. تقديم حسابات واضحة عن أسباب فشل الخطط العسكرية التي كلفت أرواحًا لا تُقدّر بثمن. التعاون مع المجتمع المدني والرباعية الدولية لتأمين عمليات إغاثة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
الأمر ليس مزاجًا سياسياً يُدار خلف الكواليس، بل حياة إنسانية يجب أن تُقدَّر. التقاعس عن ذلك هو جريمة في نظر التاريخ والضمير.
خاتمة: الحقيقة المرة واجبة الترديدنعم، الحقيقة مرة — لكن السكوت أَو التجميل أكثر مرارة. كل من استعمل دماء أهلنا أداة سيُحمل وزرها، وسيُحاسبه التاريخ. إننا لا نريد أن نعيق ثورة سلمية أو تغييرًا حقيقيًا، بل نطالب بحماية الناس واحترام كرامتهم قبل أي حسابات سياسية ضيقة. إن استمر هذا المسار، فإن سيناريو الانهيار سيطال كل المدن — أبيض، بورتسودان، وكل بقاع السودان — ولن يبقى أحد بمنأى عن النار.
نطالب بلطف، اليوم بالوقوف على ضمير كل مسؤول: أوقفوا المجزرة، تفاوضوا اليوم، وأنقذوا ما تبقى من وطن. التاريخ لن يرحم من اختار النصر الزائف على حساب دماء شعبه.
الوسومحسن عبد الرضيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
صمت الركام وصراع الذاكرة في غزة
حين يسدل القصف ستائره الدامية، ويخفت صوت القصف ليحل محله صمت ثقيل، لا يعني ذلك أن الحرب قد وضعت أوزارها ونفضت غبارها حقا في غزة، بل هي هدنة قصيرة تمنح الناجين فسحة لالتقاط الأنفاس، قبل أن يبدأ فصل جديد من الصراع، صراع الذاكرة مع الواقع. فبينما تتوقف القذائف والصواريخ، تبدأ قذائف الفقد والحزن الصامتة في الانفجار داخل الأرواح، يخرج السكان من أماكن الإيواء والخيم المرتعشة ليجدوا مدينتهم قد تحولت إلى أكوام دمار، ليست فقط مجرد أبنية مهدمة، بل هي أهرامات وتلال من الأسى، شُيدت على عجل بدموع وعظام وأشلاء الأحباء. إن المصاب الأكبر ليس في جدران تهدمت، بل في قلوب تمزقت وأرواح تعذبّت، وعائلات تبخرت، وأحلام أصبحت مجرد ركام.
إنها غزة ما بعد القصف والإبادة، حيث يصبح الحزن فيها هو التكوين الجيولوجي الجديد للأرض، والحداد هو اللغة الوحيدة التي يُجيدها الباقون.
صمت الركام وشهادة الغياب
الهدوء في غزة بعد توقف القصف ليس سكينة، بل هو صمت الركام الذي يصرخ بأسماء وذكريات الغائبين، إنه ثقل لا يُحتمل يترك مساحة واسعة للقلوب لتعي حجم الفاجعة بكل ثقلها. لقد أحصت النشرات الإخبارية أعداد الشهداء والمصابين بعشرات الآلاف، والمنازل والأبنية المدمرة كليا وجزئيا بالمئات والآلاف، ولكن هذه الأرقام، على ضخامتها، تبقى هياكل جامدة أمام الحقيقة الوجدانية، إنها مجرد كشوفات حساب لا تجيد رصد قيمة الروح البشرية، فكل رقم يمثل أسرة فُقد عمودها، وطفلا تيتم، وامرأة فقدت شريك حياتها. الفقد هنا ليس مجرد غياب، بل هو بتر روحي، لم يُتح حتى مراسم عزاء تليق به، فقد اختطف الموت أحباءهم بلا وداع، وتركهم يلملمون أشلاء الذاكرة بلا عزاء.. يتجوّل الأب بين بقايا منزله لا بحثا عن متاع، بل عن رائحة باقية، عن أثر لطفل بقيت لعبته تنتظر حضوره، كل خطوة فوق الأنقاض هي حنين موجع يحمل ثمن البقاء الباهظ، وكأن الناجي يدفع ضريبة العيش بقلب ممزق وروح موجوعة.
نزيف لا يتوقف في مرايا الأرواح
في هذه المرحلة الجديدة، تبدأ عملية إحصاء الخسائر الحقيقية التي تتجاوز أرقام المباني والضحايا بكثير؛ الخسائر هي تلك التي لا تُسجل في بيانات الأمم المتحدة، ودوائر الإحصاء، بل تُنقش بأحرف من نار في مرايا الأرواح الموجوعة؛ الأمان المفقود، والبراءة المسلوبة، والمستقبل المسروق. فإذا كانت الخسائر المادية تُقدر بالمليارات في البنية التحتية، فإن الخسارة الروحية لا تُقدّر بثمن ولا تداويها أموال الإعمار، بل هي جرح حضاري مفتوح. كيف ينام الطفل الذي شاهد سقف بيته يتهاوى؟ وكيف يبني الشاب خطة لحياة جديدة وهو يقف على أرض هُدمت كل معالمها التعليمية والصحية والاقتصادية؟ يجد أهل غزة أنفسهم أمام تحدٍّ وجودي، وهل يزرع الأمل في أرض ارتوت بالدماء؟
إنّ الفرحة بوقف إطلاق النار ممزوجة بحذر عميق وخوف مرير، خوف من عودة الكابوس، وخوف من أن يصبح النسيان جزءا من التعايش، إنهم يعيشون نزيفا مستمرا للمستقبل، وكأن الحياة نفسها تتعرض لاغتيال معنوي ممنهج.
الصمود كفعل مقاوم لا ردة فعل
تُرفع شعارات الإعمار، وتُعقد المؤتمرات، ولكن الإعمار الأهم والأصعب هو إعمار الأرواح المكلومة، بعد أن زحف بياض القهر إلى عيون الغزيين، وبعد أن أكل العذاب من جرف أحلامهم ما أكل.
بناء الجدران سهل، لكن ترميم القلب الممزق مستحيل، ومع ذلك، يبرز جوهر غزة الحقيقي، فمن تحت الركام لا يجد اليأس موطئ قدم، يحاولون النهوض بأيدٍ عارية وقلوب مثقلة، يقاتلون للحياة كي لا ينتصر الموت مرتين؛ مرة بالفقد، ومرة بالاستسلام لليأس. إن روح الصمود هنا ليست شعارا عابرا، بل هي فعل مقاوم يومي وممنهج، وليس مجرد ردة فعل على المأساة، فهذا الفعل يبدأ بتنظيف حطام المنزل والحي، وينتهي بزرع بذرة أمل في أرض الجار. يدرك السكان أن طريق التعافي طويل وشاق، لكن إيمانهم بأن الحياة تستحق أن تُعاش، وأن ذاكرة الشهداء يجب أن تُكرّم بالبقاء والعمران. هو الوقود الذي يدفعهم، إنهم يجدون في بعضهم البعض السند والمواساة، يتقاسمون النزر القليل من الموارد، والكثير من الوجع ليُعاد تدويره إلى قوة، ليعيدوا تشكيل ملامح مدينتهم ومخيماتهم من جديد، مُعلنين أن الإرادة هنا أقوى من التدمير.
خيط الأمل العنيد
غزة بعد توقف القصف هي مدينة معلّقة بين شهيق الحياة وزفير الموت، إنها ليست مجرد بقعة جغرافية، بل هي أسطورة الأساطير ومعجزة المعجزات، وبوصلة أخلاقية تكشف عجز العالم عن احتواء منظومة الحزن الأكبر.
إنها رسالة حُبرت بألم، مفادها أن النجاة من القصف لا تعني النجاة من الكارثة، ولكن وسط هذا البحر من الفقد والدمار، يظل هناك خيط رفيع من الصمود العنيد، يتدلى من سماء رمادية، هو إصرار الأهالي على البقاء، وعلى لملمة شتاتهم، وإعادة بناء ما يمكن بناؤه. فحتى في أشد اللحظات ظلمة، يرفض الفلسطيني في غزة أن يتحول إلى مجرد ضحية، بل يبقى صانعا للحياة بامتياز، يجدد الأمل في كل صباح كفعل تحدٍّ وصمود، سيعيدون بناء بيوتهم، لكنهم لن ينسوا، فالحزن والفقد أصبحا جزءا من هوية الأرض، وشاهدا أبديا على الثمن الباهظ للحياة والحرية، وعلى عظمة شعب يأبى أن يكون مجرد فصل منسي في كتاب التاريخ.