كيف انحرفت الانتخابات عن مسارها
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
29 أكتوبر، 2025
بغداد/المسلة: ليث شبر
لم تعد الانتخابات في العراق مناسبةً ديمقراطية بالمعنى الذي وُلدت من أجله، بل تحولت إلى موسمٍ انتخابي يتكرّر كل بضع سنوات، تتبدل فيه الوجوه ولا يتبدل فيه الجوهر.
لقد كانت الغاية منها أن تكون أداةً لتداول السلطة، فصارت وسيلةً لإعادة إنتاجها. وكان يُفترض بها أن تُعبّر عن إرادة الشعب، لكنها باتت تُدار لتأكيد هيمنة فئةٍ محددةٍ من الطبقة السياسية التي استطاعت أن تُخضع القانون، والإعلام، والمال، وحتى مؤسسات الدولة، لخدمتها.
الانحراف لم يبدأ من الصناديق، بل من الفكرة ذاتها حين جرى تفريغها من محتواها. فالقانون الذي يُفترض أن يضمن تكافؤ الفرص بين المرشحين صُمِّم بطريقةٍ تُناسب الكبار ممن في القرار والحكم . وإذا كان قانون الانتخابات يحفز المناطقية والطائفية والإثنية فإن قانون الأحزاب مازال معطلا في محاسبة وأقصاء الأحزاب المسلحة والفاسدة..
ثم جاءت الحملات الانتخابية لتكشف هشاشة الوعي الجمعي وعمق التشوه الأخلاقي في الممارسة السياسية. فبدلاً من النقاش حول البرامج، امتلأت الشوارع بصورٍ عملاقةٍ لوجوهٍ سئمناها ووجوه التصقت بهم رغم فسادها، وكأن الإنفاق الباذخ على اللافتات والولائم والولاءات كافٍ لشراء شرعيةٍ لا يملكها أصحابها. في المقابل، وفي خضم كل ذلك لم يجد المرشح المستقل سوى شبكات التواصل الاجتماعي وسيلةً للتعبير، وسط مليارات من المال السياسي والإعلام المسيس.
أما البرامج، فبقيت شعاراتٍ عائمةٍ لا علاقة لها بواقع الدولة ولا بمشروعها المستقبلي. فلم نقرأ عن خطةٍ اقتصاديةٍ واضحة، ولا عن إصلاحٍ إداريٍّ جاد، ولا عن رؤيةٍ لبناء دولة مستقبلية كتلك التي نؤمن بها. وانشغل المرشحون بصورهم ودعاياتهم التي غالبا ماكانت تعبر عن انحطاط وقلة ذوق وعدم فهم لوظيفة النائب وقسم منهم يتحدث عن محاربة الفساد وكأن الفساد مخلوقٌ مجهول لا ينتمي إلى أحد، ويتحدث عن الإصلاح وكأن الدولة تدار من كوكبٍ آخر.
ثم جاءت المقاطعة لتُعبّر عن وعيٍ شعبيٍّ غاضبٍ ولكنه يائس. فالملايين الذين قرروا عدم المشاركة ليس لديهم سوى مشروع المقاطعة وليس هناك ما يبدو واضحا فيما بعد المقاطعة .
إن أخطر ما أنتجته هذه الدورات المتلاحقة من الانتخابات هو فقدان الثقة بين المواطن والدولة، وبين الصندوق والضمير. فحين يُصبح التصويت تجارة، والمقاعد غنائم، والتحالفات صفقات، والمرشحون بهذا المستوى تضيع الفكرة الكبرى التي من أجلها قُدِّم هذا النموذج الديمقراطي إلى الشعوب.
ولذلك فإن استعادة المعنى الحقيقي للانتخابات لا يمكن أن يتم عبر تجميل القانون أو قرارات وقتية أو تحسين العدّ والفرز الإلكتروني، بل عبر إعادة بناء البيئة السياسية من جذورها. نعم يجب أن نعيد تعريف المواطنة قبل أن نُعيد صياغة الصندوق، وأن نؤسس لمفهوم المشاركة الواعية لا المشاركة المؤدلجة أو المشتراة، وأن نُعلّم أنفسنا أن الانتخاب ليس بيعةً ولا ولاءً، بل عقدٌ اجتماعيٌّ بين الإنسان والدولة.
هكذا فقط يمكن أن تعود الانتخابات إلى مسارها، لا كآليةٍ شكليةٍ للشرعية، بل كأداةٍ لبناء الدولة المدنية الذكية السيادية النابضة التي تُنتج قادتها من وعي الناس لا من جيوبهم، وتُقاس فيها القوة بعمق الفكر لا بحجم اللافتة. وحينها فقط سيصبح الصندوق مرآةً حقيقيةً للإرادة الوطنية، لا مرآةً مشوهةً لسلطةٍ فقدت معناها.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
إنفوغراف.. تصاعد المقاطعة العالمية لإسرائيل رغم توقف الحرب
القدس المحتلة- لم تتبدد العزلة الدولية التي تحيط بإسرائيل رغم اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس. فبينما حاولت الحكومة الإسرائيلية إقناع جمهورها بأن "جنون المقاطعة انتهى" وأن الحياة عادت إلى طبيعتها، يتضح أن العالم لا يشاركها هذا الشعور.
وتظهر المؤشرات في مختلف المجالات، من الرياضة والثقافة إلى الأكاديميا والبحث العلمي وحتى التبادل التجاري، أن المقاطعة العالمية لإسرائيل مستمرة، بل تتوسع بهدوء. ويمكن رصد اتجاه عام واضح يُظهر تنامي العزلة الدولية لإسرائيل منذ بداية الحرب على غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتجمع القراءات الإسرائيلية على أن كثيرين حول العالم يرون أن الحرب لم تنته فعليا، وكذلك المقاطعة. فما تزال مشاهد الدمار والضحايا في قطاع غزة حاضرة في الذاكرة العالمية، مما يجعل من الصعب على إسرائيل استعادة مكانتها في الساحات الدولية.
ويرى محللون إسرائيليون أن هذه العزلة لا تعكس فقط غضبا دوليا من سياسات حكومة بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- بل تدل على أزمة هوية أعمق تعيشها إسرائيل في نظرة العالم إليها، فبينما تحاول الحكومة إظهار نفسها كدولة منفتحة وديمقراطية، يجدها كثيرون متورطة في جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
رغم صعوبة تحديد التأثير الاقتصادي الكلي للمقاطعة بدقة، لكن المؤشرات تُظهر أن الاقتصاد الإسرائيلي يواجه ضغوطا متزايدة. فبحسب دراسات لمركز أبحاث الكنيست، كانت إسرائيل قد طورت قبل طوفان الأقصى نظاما مرنا لمواجهة تأثير حركة المقاطعة. إلا أن فترة عامي الحرب على غزة غيرت المعادلة وأدت إلى تراجع الاستهلاك المحلي، وانخفاض الصادرات، وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
وأبرز مثال على ذلك هو المقاطعة التركية الشاملة التي فرضت في مايو/أيار 2024، مما أدى إلى انخفاض بنسبة 64% في الواردات التركية وتوقف شبه كامل في الصادرات الإسرائيلية، باستثناء بعض التجارة غير المباشرة، وفق ما أفادت صحيفة "غلوبس" الإسرائيلية.
إعلانأما على صعيد الشركات، فقد استهدفت حملات المقاطعة عددا من العلامات التجارية الدولية المتهمة بدعم إسرائيل، مما دفع بعضها إلى بيع أصولها داخل البلاد. ومع ذلك، تشير الدراسات الإسرائيلية إلى أن الأثر المالي على الشركات الكبرى -خصوصا الأميركية- كان محدودا وقصير المدى، رغم النشاط الواسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الأكاديميا
تشهد المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية تراجعا غير مسبوق في تعاونها الدولي، في ظل تصاعد المقاطعة الأكاديمية عقب الحرب على غزة. ووفق بيانات برنامج "هورايزون أوروبا" (برنامج بحثي يتبناه الاتحاد الأوروبي) فقد سجل عام 2025 أدنى مستوى من المشاريع البحثية المشتركة مع إسرائيل منذ انضمامها إليه.
وقد تنوعت أشكال المقاطعة الأكاديمية في العالم لتشمل:
رفض نشر مقالات أو بحوث لباحثين إسرائيليين. تأجيل أو إلغاء مشاركاتهم في مؤتمرات ومحاضرات دولية. تعليق أو إنهاء شراكات بحثية بين مؤسسات أجنبية وإسرائيلية.كما سُجل انخفاض ملحوظ في التمويل الأوروبي لمشاريع علمية تضم شركاء من إسرائيل، خصوصا مجالات التكنولوجيا والعلوم الاجتماعية.
ويقول ليئور ديتال، وهو مراسل صحيفة "ذا ماركر" الاقتصادية الإسرائيلية لشؤون التعليم، إن المعطيات تظهر أن "المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل لم تعد ظاهرة ظرفية مرتبطة بالصراع الحالي، بل تحولت إلى نهج مؤسسي ومنهجي يمتد عبر القارات".
ويضيف أنه على الرغم من استمرار الإنتاج العلمي الإسرائيلي من حيث الكم فإن "نوعية التعاون والشراكات الدولية تشهد انكماشا حادا، مما يُنذر بتآكل المكانة الأكاديمية لإسرائيل على المدى المتوسط، ويضعها أمام عزلة علمية متزايدة تعكس فقدانا تدريجيا لشرعية حضورها في الفضاء البحثي العالمي".
انسحاب متدرجامتدت موجة المقاطعة ضد إسرائيل إلى المجال الثقافي والفني، لتتحول تدريجيا إلى ظاهرة عالمية متصاعدة. فخلال العام الحالي وقع آلاف الفنانين والكتاب والموسيقيين والمخرجين حول العالم عرائض تدعو إلى مقاطعة إسرائيل ثقافيا، متهمين مؤسساتها بـ"ممارسة الفصل العنصري" و"انتهاك حقوق الإنسان" في غزة.
وعن ذلك، يقول مراسل شؤون الفن والموسيقى بصحيفة "هآرتس" شاي رينجل إن "المقاطعة تجلت في رفض العديد من الفنانين والمثقفين المشاركة في فعاليات تقام داخل إسرائيل، أو التعاون مع مؤسسات إسرائيلية رسمية" وشهدت بعض المهرجانات الثقافية انسحابات فردية وجماعية أدت إلى إلغاء فعاليات كاملة أو نقلها إلى دول أخرى.
وإلى جانب ذلك، يضيف رينجل أن "المؤسسات الفنية والثقافية الدولية أصبحت أكثر حذرا في استمرار شراكاتها أو تمويلها لمشاريع إسرائيلية" خشية من حملات "منع الاستثمارات" أو المقاطعة الجماهيرية التي تتسع رقعتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعد المجال الثقافي والفني -بحسب رينجل- من أكثر الساحات تأثيرا في تشكيل الصورة العالمية للدول، وهو ما يجعل المقاطعة الثقافية لإسرائيل "ضربةً قاسية" على المستوى الرمزي والمعنوي، ويزيد من تآكل الصورة الدولية لها وازدياد عزلتها في الفضاء الإبداعي العالمي.
لم تكن الساحة الرياضية الإسرائيلية بمنأى عن موجة المقاطعة العالمية، إذ تصاعدت الضغوط على الهيئات الدولية مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" واللجنة الأولمبية الدولية، لتعليق عضوية إسرائيل أو تقييد مشاركاتها في المنافسات الدولية.
إعلانومع مرور الوقت، بدأت هذه الضغوط تأخذ طابعا أكثر تنظيما ومؤسسية، مدفوعة بالحملات الحقوقية والاحتجاجات الشعبية في أوروبا وأميركا اللاتينية، فقد ألغيت هذا العام بطولة أوروبا للجمباز الفني التي كانت مقررة في إسرائيل، كما نُقلت بطولة أوروبا لكرة الماء إلى خارجها لأسباب "أمنية وأخلاقية".
وقد تزايدت حالات رفض مئات الرياضيين الدوليين المشاركة في فعاليات تقام داخل إسرائيل، كما أقدمت عشرات الأندية الأوروبية على إلغاء تعاونها الرياضي مع فرق إسرائيلية.
وبرزت المقاطعة في شكل حملات دعائية واجتماعية واسعة تدعو إلى إقصاء المنتخبات والأندية الإسرائيلية من البطولات القارية والعالمية، مستندة إلى دواع سياسية وإنسانية.
تقول أورلي نوي المحررة بالموقع الإلكتروني "شومريم" إن "الأرقام تظهر أن المقاطعة لم تعد مجرد نشاط رمزي، بل باتت ظاهرة عالمية متشابكة تمس الاقتصاد والأكاديميا والثقافة والرياضة في آن واحد".
وبينما تسعى إسرائيل لاحتواء آثارها عبر الدبلوماسية وحملات العلاقات الدولية، توضح نوي أن الاتجاهات تشير إلى أن العزلة تتعمق عاما بعد عام، مما يعكس تحولا في المزاج الدولي تجاه سياساتها بالأراضي الفلسطينية.
ونبهت إلى تراجع فرص التعاون البحثي الإسرائيلي دوليا، مما قد يؤثر على الابتكار العلمي والمشروعات التقنية المشتركة، محذرة من احتمال تراجع تدريجي في التمويل الخارجي للمشاريع الجامعية الإسرائيلية أو في جذب الكفاءات العالمية.
ولفتت إلى أن التآكل التدريجي في المكانة الدولية لإسرائيل كـ"شريك أكاديمي ثقافي طبيعي" من شأنه أن يفرض عليها إعادة تقييم علاقاتها ومراكزها البحثية والثقافية.