في أقلّ من اثنتي عشرة ساعة، شهد قطاع غزّة موجة قصف مدمّرة اجتاحت مدنه وأحياءه المدنيّة، وحصدت أكثر من مئة فلسطيني، بينهم 46 طفلا.

هذه المجازر نُفّذت على مرأى الوسطاء والمجتمع الدولي، الذين بقوا عاجزين عن وقف إراقة الدم المستمر. جاءت هذه الهجمة الشرسة بذريعة إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي مقتل أحد جنوده في رفح جنوبي غزّة (حدثٌ مزعم نفت المقاومة مسؤوليّتها عنه) لتُستأنف على أثره عمليات القصف بشكل أشدّ فتكا وتدميرا.



والسؤال المرير هنا: هل يُعقَل أن يُوازي مقتل جندي واحد -لم يتضح حتى ملابسات مقتله ولم يجر أي تحقيق محايد في الأمر- إبادة مئة نفس بريئة؟ أيُّ معادلة ظلمٍ هذه، وأيُّ عدالةٍ تلك التي تَقبل بمثل هذا الاختلال الفاضح في ميزان الدم؟

ذريعة "حقّ الدفاع عن النفس" وموقف واشنطن

منذ اللحظة الأولى لعودة آلة الحرب إلى العمل، سارعت الولايات المتحدة إلى تبرير المشهد المروّع تحت شعار "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". الرئيس الأمريكي حينها لم يكتفِ بالصمت، بل أيّد الضربات الإسرائيلية علنا بوصفها "ضربات انتقامية" لمقتل الجندي. قال بصريح العبارة إن إسرائيل تمارس حقها المشروع في الرد، وكأن القانون الدولي خوّلها أن تردّ على مقتل واحدٍ بمئة!

هكذا تحوّل مبدأ الدفاع عن النفس إلى شيك مفتوح يتيح لإسرائيل قصف المدنيين بلا حسيب ولا رادع. ولم تجد واشنطن حرجا في التهوين من هول المجزرة، إذ وصف نائب الرئيس الأمريكي ما حدث بأنه مجرد "اشتباكات صغيرة هنا وهناك" لا تُفسد للهدنة قضية، تصريح ينمّ عن تواطؤ ضمني ويطرح سؤالا أخلاقيا مريرا: هل أصبح قتل عشرات الأطفال "مناوشة جانبية" مقبولة في عين حليف إسرائيل الأكبر؟

إن تذرّع إسرائيل وحلفائها بمصطلح الأضرار الجانبية (Collateral Damage) لتبرير سقوط هذا الكمّ الهائل من المدنيين لا يصمد أخلاقيا ولا قانونيا. فعندما يقتل ستة وأربعون طفلا في ليلة واحدة، لا يمكن اعتبار ذلك نتيجة عرضية أو خطأ تكتيكيا؛ بل هو استهتار متعمد بالحياة الإنسانية، إن لم يكن استهدافا مباشرا لها.

ومع ذلك، تواصل إسرائيل عمليّاتها بضوءٍ أخضر أمريكي وصمتٍ دولي مطبق، وكأن قانون الغاب حلّ محلّ القانون الدولي، وكأن الإنسانية كلها قررت أن تُغمض عينيها أمام مأساة تُكتب في وضح النهار بحروفٍ من الدم.

مواقف الدول الضامنة: بين الإدانة والعجز

خلال الهدنة التي سبقت هذه الأحداث الدامية، شاركت عدة دول في رعاية الاتفاق ومراقبته، وعلى رأسها قطر ومصر وتركيا إلى جانب الولايات المتحدة. فما موقفها بعد انهيار الهدنة فعليا أمام هذه المجزرة؟

تركيا اتخذت موقفا صريحا وقويا؛ فقد اتّهم الرئيس رجب طيّب أردوغان إسرائيل بخرق اتفاق وقف إطلاق النار، ودعا واشنطن بالاسم إلى التحرّك لكبح جماح إسرائيل، وطالب أردوغان الولايات المتحدة وحلفاءها بالنظر في فرض عقوبات ووقف مبيعات الأسلحة للضغط على إسرائيل لاحترام الاتفاق. وأكد أن على المجتمع الدولي -وفي مقدمته الولايات المتحدة- بذل المزيد لضمان امتثال إسرائيل الكامل لوقف إطلاق النار.

قطر من جهتها، كانت راعية أساسية للتهدئة وعملية تبادل الأسرى. أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أدان في وقت سابق علنا الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة للهدنة، وصرّح بأن تحويل غزة إلى "منطقة غير صالحة للعيش" نتيجة القصف والحصار أمر غير مقبول البتّة، وذهب إلى حد وصف الحرب الإسرائيلية بأنها حرب إبادة جماعية تتطلب من المجتمع الدولي محاسبة إسرائيل عليها. كما ذكّر بأن إسرائيل تجاوزت كل القوانين والأعراف الدولية، حتى إنها استهدفت الأراضي القطرية نفسها بمحاولة اغتيال وفد فلسطيني في الدوحة خلال مباحثات وقف النار، في هجوم اعتبرته قطر "إرهاب دولة" وانتهاكا صارخا لسيادة بلد وسيط. هذا الموقف القطري القوي يُبرز حجم الاستياء من تغوّل إسرائيل حتى على الوسطاء.

مصر التي استضافت مفاوضات الهدنة في مدينة شرم الشيخ، تجد نفسها بين نارين: فهي ملتزمة سياسيا بإنجاح التهدئة، لكنها ترى بأمّ العين كيف نسفت إسرائيل الاتفاق. جاء رد الفعل المصري دبلوماسيا؛ فقد أعربت القاهرة عن "بالغ القلق" إزاء خرق إسرائيل لتعهداتها، وندّدت بأي استهداف للمدنيين في غزة باعتباره انتهاكا جسيما للقانون الدولي وللاتفاق ذاته الذي رعته.

ورغم كل تلك الإدانات من الشركاء الإقليميين، بقيت آلة الحرب تدور؛ لا تركيا استطاعت كبح إسرائيل، ولا قطر تمكنت من إعادة الأمور إلى نصابها، ولا مصر -وهي صاحبة الوزن الجغرافي والسكاني والسياسي الثقيل على حدود غزة- استطاعت فعل أكثر من الشجب العلني.

أما واشنطن، الضامن الأهم، فاختارت حماية إسرائيل سياسيا وتأمين الغطاء الدبلوماسي لها في المحافل الدولية، حتى وهي ترى صور أشلاء الأطفال الخارجة من تحت أنقاض المباني. لقد وضع هذا الموقف الأمريكي الدولَ الضامنة الأخرى أمام معضلة حقيقية: فما جدوى الضمانات والوساطات إن كانت القوة العظمى منحازة أحاديا، تُعطّل أي جهد لمحاسبة المعتدي أو حتى لإعادة وقف إطلاق النار مجددا؟

الحقيقة القانونية والإنسانية

لا يمكن النظر إلى ما يجري في غزّة بمعزل عن القانون الدولي الإنساني، الذي أُنشئ أساسا لحماية المدنيين من ويلات الحرب، لكنه اليوم يُداس تحت أقدام القوة. فالقواعد التي تحظر استهداف المدنيين أو استخدام التجويع كسلاح، لم تعد تُنتهك فحسب، بل تُقلب إلى سياسة ممنهجة تُمارس على مرأى العالم. لقد تحوّل الحصار الشامل على غزة إلى أداة عقاب جماعي تقطع الغذاء والماء والدواء عن أكثر من مليوني إنسان، حتى صار القطاع نموذجا لكارثة إنسانية مصنوعة عمدا.

التقارير الحقوقية الحديثة، من هيومن رايتس ووتش ولجنة التحقيق الأممية، لم تترك مجالا للشك: إسرائيل تمارس أفعالا تندرج تحت جرائم الحرب وربما الإبادة الجماعية، من حرمان المدنيين من المقومات الأساسية للحياة إلى قصفهم داخل بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم. أما محكمة العدل الدولية فقد أعادت التذكير في قراراتها الأخيرة بأن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، تتحمل واجبا غير مشروط في ضمان المساعدات الإنسانية وحماية السكان المدنيين، لا تبرير له ولا استثناء منه.

أمام هذه الوقائع، تتضح حقيقتان دامغتان: الأولى، أن استهداف المدنيين وترويعهم بهذه الكثافة لم يعد حادثا عرضيا بل سياسة عقابية ممنهجة، والثانية، أن الحصار والتجويع ليسا مجرد أدوات ضغط عسكرية، بل جرائم حرب موصوفة تنتهك صميم القانون الدولي الإنساني.

وعندما يُقتل عشرات الأطفال والنساء خلال ساعات، لا يعود لمصطلح "الخسائر الجانبية" أي معنى أخلاقي أو قانوني. على العالم اليوم مواجهة هذه الجرائم بجرأة وشجاعة وجدية؛ إن العدالة الحقيقية لا تُقاس بالبيانات، بل بقدرة الدول على مساءلة من جعل من غزة أرضا غارقة بالدماء.

ما المطلوب؟

في ضوء هذا الخرق المنهجي والإجرامي للهدنة، لم تعد بيانات القلق والاستنكار كافية. ما حدث لم يكن حادثا عابرا، بل استمرارا مدروسا لسياسة القتل المنظّم. المطلوب اليوم تحرك دولي فعلي يتجاوز البلاغة إلى الفعل، والمطلوب قبل كل شيء وضع آلية رقابة دقيقة وجادة لضمان استمرار الهدنة والوقوف عن الخروقات بشكل مهني واتخاذ الإجراءات اللازمة للجهة التي تخرق الاتفاق، وإلا سوف تبقى المسألة تخضع لمزاجية الاحتلال الذي لم يرق له أساسا وقف الحرب. ثم بعد ذلك المطلوب:

أولا، فتح تحقيق دولي عاجل يكشف المسؤولية السياسية والعسكرية. فالإفلات من العقاب، المدعوم أمريكيا، هو الذي جعل المجازر تتكرر بلا رادع.

ثانيا، رفع الحصار وتدفق المساعدات فورا، فالتجويع والحرمان من الدواء جريمة حرب لا تُغتفر. غزة تختنق، والطفولة تموت بصمت، بينما العالم يتفرج.

ثالثا، تفعيل العدالة الدولية عبر المحكمة الجنائية وسائر الآليات القانونية، وتحويل الأدلة إلى قضايا فعلية تضع القادة الإسرائيليين أمام المحاسبة، فالعدالة المؤجلة شراكة في الجريمة.

رابعا، فرض جزاءات سياسية واقتصادية رادعة على إسرائيل؛ وقف صادرات السلاح والتعاون معها بات واجبا أخلاقيا قبل أن يكون سياسيا.

صحيح أن الولايات المتحدة تواصل تبرير المجازر تحت شعار "الدفاع عن النفس"، لكنها لن تستطيع إخماد الغضب الإنساني المتصاعد، والمشهد في غزة تجاوز حدود الاحتمال.

في المحصّلة، لسنا بحاجة إلى بيانات جديدة بقدر ما نحتاج إلى إرادة توقف شلال الدم. فالعدالة لا تُقاس بالشعارات، بل بقدرتها على حماية الحياة. ما يجري في غزة اليوم اختبار أخلاقي للنظام الدولي بأسره؛ فالصمت بحجة "الواقعية السياسية" لم يعد حيادا، بل تواطؤا مع الجريمة.

لقد بلغ أهل غزة حدّ الإنهاك، وفقدوا الثقة بعد أن رأوا العدالة تُؤجَّل كل يوم، ومع كل لحظة تأخير، ينهار ما تبقى من شرعية المنظومة الدولية. ومع ذلك، يظل الأمل في أصواتٍ حرّة ترفض الصمت وتؤمن أن العدالة، وإن تأخرت، قد تنقذ أرواحا أخرى، فهذا -في ميزان الإنسانية- أضعف الإيمان.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الإسرائيلي الحرب غزة إسرائيل غزة حرب ابادة قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة مقالات مقالات صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة القانون الدولی الدفاع عن

إقرأ أيضاً:

صحة غزة: 104 شهداء بينهم 46 طفلا و253 مصابا في غارات الاحتلال الليلة الماضية

أفادت قناة "القاهرة الإخبارية" في نبأ عاجل عن "وزارة الصحة بغزة" بسقوط 104 شهداء بينهم 46 طفلا و253 مصابا في غارات الاحتلال الليلة الماضية.

بينهم 35 طفلًا.. 100 شهيد في غارات إسرائيلية على قطاع غزة ارتفاع حصيلة عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة إلى 68.643 شهيدًا وقف إطلاق النار

موفد "القاهرة الإخبارية": وتيرة إدخال المساعدات إلى قطاع غزة ارتفعت بمجرد إعلان الاحتلال الإسرائيلي وقف إطلاق النار.

قال همام مجاهد، موفد "القاهرة الإخبارية" إلى معبر رفح من الجانب المصري، إن وتيرة إدخال المساعدات إلى قطاع غزة ارتفعت بمجرد إعلان الاحتلال الإسرائيلي وقف إطلاق النار قبل أكثر من ساعة من الآن، حيث كانت تقف الشاحنات وتتراص بجوار معبر رفح إلى الجانب المصري.

وأضاف خلال رسالة على الهواء، أن الشاحنات تدخل منذ فجر اليوم بعدد قليل إلى معبري كرم أبو سالم والعوجة وكانت وتيرة إدخاله قليلة قياسا بما كانت عليه بالأيام الماضية حيث لم تشهد في قطاع غزة إطلاق نار لكن بمجرد أن عاد وقف إطلاق النار مرة أخرى في القطاع عادت وتيرة هذه المساعدات.

الهلال الأحمر المصري

وتابع أن الهلال الأحمر المصري والجمعيات الأهلية المصرية بالإضافة إلى المساعدات الخارجية تصل بالفعل إلى منطقتي العريش والشيخ زويد وصولا إلى رفح من أجل عبورها إلى قطاع غزة، مشيرا إلى أن الهلال الأحمر المصري قال إنه وجه وضخ أكثر من 9 آلاف طن من السلال الغذائية والمستلزمات الطبية ومستحضرات الوقود وغيرها من المواد.

مقالات مشابهة

  • صحة غزة: 104 شهداء بينهم 46 طفلا و253 مصابا في غارات الاحتلال الليلة الماضية
  • ارتفاع عدد شهداء غزة إلى 104 شهداء بينهم 46 طفلا و253 مصابا
  • بينهم 24 طفلاً وعشرات النساء.. استشهاد 70 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة الليلة الماضية واليوم
  • 63 شهيدا بينهم 24 طفلا في قصف إسرائيلي على منازل وخيام بغزة
  • 63 شهيدا بينهم 24 طفلا في غارات للاحتلال على منازل وخيام نازحين في غزة
  • مستشفيات غزة: 63 شهيدا بينهم 24 طفلا بغارات الاحتلال
  • مجزرة جديدة في غزة: 59 قتيلاً بينهم 22 طفلاً
  • بينهم 11 طفلاً .. عشرات الشهداء جراء القصف الإسرائيلي على غزة
  • «صمود»: على طرفا القتال الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين