تحت وقع طائرات مسيّرة مجهولة اخترقت أجواء أوروبية، وجدت القارة العجوز نفسها أمام اختبار قاسٍ لأمنها الداخلي، إذ كشفت الدرونات الرخيصة أن التكنولوجيا الباهظة لا تضمن الأمان، وأن الحروب المقبلة قد تُحسم بطائرات لا يتجاوز ثمنها بضع مئات من الدولارات.

ما حدث في بلجيكا لم يكن حادثا عابرا، بل كان إنذارا يختصر تحوّل موازين القوة في الفضاء الأوروبي، فتعطّل الرحلات الجوية وإغلاق المجال الجوي لعدة ساعات أثبت أن التهديد لا يحتاج إلى جيش أو ترسانة، بل إلى مشغّل واحد وخبرة تقنية محدودة.

وتحت ضغط القلق الشعبي والسياسي، بدت أجهزة الأمن الأوروبية في موقف دفاعي مرتبك، تحاول تفسير ما جرى أكثر مما تسعى إلى منعه.

وفي هذا السياق، يرى دانيال بومر، كبير محرري صحيفة "دي فيلت" الألمانية والمحلل المختص بالشؤون الأوروبية، أن الحادثة تُبرز "اللامساواة التقنية" بين الكلفة والتأثير، إذ يمكن لطائرة تجارية معدّلة أن تتجاوز أكثر الأنظمة إحكاما وتحدث فوضى تشغيلية ضخمة، وهو ما يجعل أي استثمار دفاعي تقليدي غير متناسب مع طبيعة الخطر الجديد.

فالدفاعات الجوية المصممة لاعتراض الصواريخ والمقاتلات، حسبما يرى المحلل الأمني في حديثه لبرنامج "ما وراء الخبر"، لا تُجدي أمام سرب صغير من الدرونات تحلّق على ارتفاع منخفض يصعب رصده بالرادار.

ويضيف بومر أن أوروبا تواجه معضلة مركّبة؛ فكل إجراء وقائي ضد المسيرات يتطلب تفعيل أنظمة مراقبة ورادارات وحظر طيران مكلف، وهذا يعني استنزافا متكررا للموارد من أجل التصدي لتهديد زهيد الكلفة.

تلك المفارقة -كما يقول- تعيد تعريف مفهوم الردع، وتجعل الدول الغربية مطالبة بابتكار هندسة أمنية جديدة تراعي الاقتصاد بقدر ما تراعي التفوق التقني.

هشاشة أوروبية

من جهته، رأى المحلل الروسي سيرغي ستروكان أن الأزمة تكشف هشاشة البنية الدفاعية الأوروبية أكثر مما تعكس قدرة جهات خارجية على اختراقها، معتبرا أن الانزلاق السريع نحو اتهام روسيا هو جزء من "ردّ فعل نفسي جماعي" في الغرب منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.

إعلان

فالمشكلة -في رأيه- داخلية الطابع، وتتصل بفرط الاعتماد على التكنولوجيا المعقدة مقابل ضعف في التنسيق الاستخباري والقدرة البشرية على الاستجابة السريعة.

أما الدكتور زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في باريس فقد لفت إلى أن المشهد الأوروبي يعيدنا إلى "منطق الاستنزاف غير المتكافئ"، إذ تجد الدول الغنية نفسها مضطرة لإنفاق أموال طائلة لمواجهة تهديدات بدائية، في معركة لا يمكن كسبها بالكامل.

ويشير إلى أن هذه الحالة تذكّر بحروب العصابات أو الإرهاب الفردي، حيث يكفي فعل بسيط لإحداث ارتباك سياسي وإعلامي واسع، فالمسيرات لا تُهاجم فقط منشآت حساسة، بل تضرب الثقة الجماعية بالمؤسسات الأمنية الغربية.

وفي خلفية هذه التطورات تلوح تداعيات جيوسياسية متشابكة، فبينما تلمّح بعض التقارير الأوروبية إلى احتمال تورط أطراف خارجية تريد اختبار دفاعات القارة، يرى محللون أن ساحة الصراع الحقيقي هي "الفضاء السيبراني-الجوي" الذي أصبح مجال تنافس إستراتيجي بين الشرق والغرب.

فالتكنولوجيا الصينية والإيرانية والروسية في مجال الدرونز تطورت بسرعة مذهلة، وهذا يثير قلق العواصم الأوروبية التي اعتادت احتكار التفوق التقني.

سمعة متراجعة

وتشير تقارير غربية إلى أن الصناعات الدفاعية الأوروبية باتت مهددة بتراجع سمعتها بعد إخفاق منظوماتها في صدّ الهجمات الجوية التي شُنّت على البنية التحتية الأوكرانية، رغم كثافة الاستثمارات في أنظمة باتريوت وسامب وتايروس.

وتكمن المعضلة -وفق مراقبين- في أن الحلول الدفاعية المقترحة أكثر كلفة من الخطر نفسه، فكل صاروخ اعتراضي يكلّف ملايين الدولارات، بينما لا يتجاوز ثمن الدرون الواحد بضع مئات.

ومع اتساع استخدام المسيرات في الحرب الروسية الأوكرانية، تحوّل النقاش الأوروبي من جدوى الإنفاق العسكري إلى سؤال أعمق: كيف يمكن لدول تمتلك تكنولوجيا فضائية متقدمة أن تعجز عن حماية أجوائها من طائرات بلا طيار؟ وهو سؤال يعكس أزمة ثقة في مفهوم "الأمن الذكي" الذي بشّرت به أوروبا منذ عقدين.

ويرى زياد ماجد أن المشكلة أعمق من التقنية، فهي تعبّر عن تحوّل في طبيعة الحروب الحديثة، حيث لم تعد القوة النارية المفرطة ضمانا للأمان، بل أصبحت عبئا اقتصاديا وسياسيا كلما واجهت تهديدا غير متماثل.

ومن ثمّ، فإن الحل لا يكمن في زيادة الدفاعات، بل في إعادة التفكير في منظومة الأمن الأوروبي برمتها، بما يشمل القوانين، والاستخبارات، وإدارة المجال الجوي المدني.

وفي المحصلة، يبدو أن القارة الأوروبية تدخل مرحلة "عصر الدرون"، حيث يتقاطع الأمن مع الاقتصاد، ويتحول الخطر من الخارج إلى الداخل، فالمسيرات الرخيصة -رغم بساطتها- أعادت تعريف موازين القوة، وأثبتت أن من يمتلك وسيلة تهديد ذكية وغير مكلفة يمكنه فرض معادلات جديدة على أقوى الأنظمة الدفاعية في العالم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي بات يتنبأ بموجات الحر الأوروبية قبل أسابيع: كيف يعمل

درّب الباحثون نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بهم بالاستناد إلى عمليات إعادة بناء للمناخات القديمة التي تغطي الفترة من العام صفر حتى عام 1850.

تزداد صيفيات أوروبا حرارة وطولا وخطورة، لكن نظاما جديدا يعمل بالذكاء الاصطناعي قد يمنح العلماء إنذارا مبكرا يصل إلى سبعة أسابيع قبل وصول موجات الحر الشديدة. طور باحثون من "المركز الأورو-متوسطي لتغير المناخ" (CMCC) نموذجا للتعلم الآلي يقولون إنه قادر على التنبؤ بأحداث الحر القاسي بدقة وكفاءة تتفوقان على الأساليب الحالية. وتشير نتائجهم، المنشورة في دورية Communications Earth & Environment، إلى إمكانية تغيير طريقة استعداد أوروبا لأحد أخطر تهديداتها المناخية. ويقول مؤلف الدراسة الدكتور ماكآدم: "سيصبح [التعلم الآلي] جزءا أساسيا من الطريقة التي ندرس بها تباين المناخ. لقد أثبتت هذه الدراسة فائدة [التعلم الآلي] في التنبؤ بالأحداث المتطرفة، لكنها خطوة أولى فقط لتحديد كيفية القيام بذلك بما يتيح الحصول على نتائج قابلة للتفسير وذات معنى فيزيائي".

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يمنح ميزة جديدة في التنبؤ المناخي الموسمي

تُعد موجات الحر من بين أكثر المخاطر المناخية فتكا في أوروبا. فقد تسببت موجات حر مدمرة في 2003 و2010 و2022 في وفاة عشرات الآلاف وخسائر في المحاصيل وارتفاعات حادة في استهلاك الطاقة وأزمات صحية خطيرة، ويحذر العلماء من أن مثل هذه الأحداث تزداد طولا وشدة وتكرارا مع استمرار احترار الكوكب.خمسة أشهرفي السنة ببعض مدن جنوب أوروبا، إذ تبقى درجات الحرارة فوق 32 درجة إلى وقت متأخر من الخريف. وهذا الصيف كان من بين الأكثر سخونة على الإطلاق في إسبانيا مثلا. لكن دراسة عالمية صادرة عن World Weather Attribution وClimate Central حذرت من أن الكوكب قد يواجه ما يقرب من شهرين إضافيين من الأيام " شديدة السخونة" كل عام بحلول 2100. وفي هذا السياق، يقول الباحثون إن أنظمة الإنذار المبكر يمكن أن تنقذ الأرواح. ويضيف ماكآدم: "يمكن للتوقعات الموسمية التي تُعد في الربيع، من حيث المبدأ، أن تحدد ما إذا كان الصيف سيكون أكثر حرارة من المتوسط. ويمكن أن يساعد الإنذار المبكر بصيف شديد الحرارة المجتمع على الاستعداد للتخفيف من الخسائر الاقتصادية وتقليل مخاطر تهديد الحياة".

كيف يعمل النظام

لإصدار توقعاته، يمشّط نظام الذكاء الاصطناعي لدى فريق CMCC نحو 2.000 إشارة مناخية مختلفة تتراوح بين حرارة الهواء وظروف المحيطات ورطوبة التربة، للعثور على المزيج الذي يشير بأفضل صورة إلى موعد ومكان تشكل موجات الحر. وبمجرد تحديد تلك الأنماط الرئيسية، يستطيع النظام توليد توقعات لموجات الحر في أنحاء أوروبا. وبحسب الباحثين، فإن منهجهم يضاهي، وفي بعض الحالات يتفوق على، أنظمة التنبؤ التقليدية، ولا سيما في شمال أوروبا حيث كانت القدرة التنبؤية محدودة منذ وقت طويل. كما يزوّد العلماء برؤى قيّمة حول المتغيرات البيئية الأكثر تأثيرا في موجات الحر القصوى. ووجدت الدراسة أن كلا من الظروف المحلية (مثل مدى جفاف التربة، ودفء المنطقة مسبقا، وكيفية حركة الهواء فوق أوروبا) والأنماط البعيدة في المحيطات تساعد في تحديد توقيت تعرض أوروبا لموجة حر. ونظرا لأن سجلات الطقس المفصلة لا تعود إلا لبضعة عقود، درّب الباحثون نموذجهم على عمليات إعادة بناء حاسوبية لمناخات قديمة تمتد من سنة 0 حتى 1850. وقد وفّر ذلك للنموذج مئات "السنوات الافتراضية" الإضافية ليتعلم منها؛ ورغم أن البيانات جاءت من كوكب مُحاكى لا من مشاهدات حقيقية، فقد تمكن الذكاء الاصطناعي من تطبيق ما تعلمه على الظروف الحديثة، متنبئا بدقة بموجات حر فعلية وقعت بين 1993 و2016.

هل يمكن للذكاء الاصطناعي جعل التنبؤات المناخية أكثر إتاحة وانتشارا؟

تعتمد التوقعات المناخية التقليدية على حواسيب خارقة ضخمة تستغرق أياما أو حتى أسابيع لتشغيل نماذج معقدة للغلاف الجوي، بينما يجادل فريق CMCC بأن نظامه المعتمد على الذكاء الاصطناعي قادر على إصدار تنبؤاته باستخدام قدرة حاسوبية أقل بكثير.أنظمة الذكاء الاصطناعي تتطلب عادة كما كبيرا من الطاقة والمياه لتشغيل مراكز البيانات وتبريدها. ولم تحسب دراسة CMCC الكلفة البيئية لنظامها؛ لكن من حيث الأرقام البحتة، فإن سهولة الوصول إليه تعني على الأرجح أن مزيدا من فرق البحث والوكالات الحكومية يمكنها تحمّل استخدامه. وكما يوضح ماكآدم، يُظهر نهجهم أن التعلم الآلي قادر على تقديم توقعات موسمية موثوقة "باستخدام جزء صغير للغاية من الموارد الحاسوبية" مقارنة بالأساليب الأقدم.

ومن خلال تقديم إنذارات دقيقة بموجات الحر قبل أسابيع من وقوعها، يمكن لهذه التكنولوجيا أن تساعد أوروبا على التخطيط المسبق، وحماية المحاصيل، وتخفيف الضغط على شبكات الكهرباء، ومنح الخدمات الصحية الوقت للاستعداد لزيادة حالات الطوارئ. وقد تنقذ فوائد هذه الأداة المدفوعة بالذكاء الاصطناعي أرواحا ووقتا وموارد في أحداث قاتلة أخرى أيضا، إذ يعتقد الباحثون أن الإطار نفسه قد يُكيّف مستقبلا للتنبؤ بغيرها من الظواهر الجوية المتطرفة مثل الفيضانات أو الجفاف.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة الذكاء الاصطناعي تغير المناخ المناخ اعلان اعلان اخترنا لك إسرائيل تحدد هوية جثة رهينة سلّمتها حماس.. وغوتيريش: الوضع في غزة "هش للغاية" فرنسا: إصابة 10 أشخاص في حادث دهس بجزيرة أوليرون.. والتحقيق مستمر في الدوافع "صفعة لترامب": ممداني يظفر برئاسة بلدية نيويورك.. والديمقراطيون يحسمون نيوجيرسي وفرجينيا السعودية على أعتاب صفقة "إف-35".. نهاية التفوّق الجوي الإسرائيلي في الشرق الأوسط؟ بين القصف واعتقال مادورو.. خطط واشنطن تجاه فنزويلا تدخل مرحلة "الحسابات الثقيلة" اعلان اعلان الاكثر قراءة 1 مباشر. ترامب يتحدث بإيجابية عن "إتفاق غزة" وسط تصاعد التطورات الميدانية 2 اكتشاف فيروس يشبه كورونا لدى الخفافيش في البرازيل.. فهل يتكرر سيناريو الوباء؟ 3 مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن لدعم "خطة غزة".. وأنفاق رفح تتحول إلى "اختبار" لنزع سلاح حماس 4 من هو زهران ممداني؟ فوزه برئاسة بلدية نيويورك يعيد تسليط الضوء على ثروته ووالدته ميرا ناير 5 "نيويورك سلّمت مفاتيحها لمؤيد لحماس".. فوز زهران ممداني يشعل غضب ترامب ووزراء إسرائيليين اعلان اعلان

Loader Search

ابحث مفاتيح اليوم

إسرائيل دونالد ترامب دراسة حركة حماس ألمانيا الذكاء الاصطناعي غزة قوات الدعم السريع - السودان غسيل أموال دماغ اعتقال الصحة الموضوعات أوروبا العالم الأعمال Green Next الصحة السفر الثقافة فيديو برامج خدمات مباشر نشرة الأخبار الطقس آخر الأخبار تابعونا تطبيقات تطبيقات التواصل الأدوات والخدمات Africanews عرض المزيد حول يورونيوز الخدمات التجارية الشروط والأحكام سياسة الكوكيز سياسة الخصوصية اتصل العمل في يورونيوز صحفيونا لولوجية الويب: غير متوافق تعديل خيارات ملفات الارتباط تابعونا النشرة الإخبارية حقوق الطبع والنشر © يورونيوز 2025

مقالات مشابهة

  • الناتو : أوروبا تعاني نقص في أنظمة الدفاع الجوي
  • لماذا يريد العلماء نثر هباء كيميائي في غلاف الأرض الجوي؟
  • الاتحاد الأوروبي يطلق خطة بتكلفة 2.9 مليار يورو لاستخدام الوقود الأخضر للنقل الجوي والبحري
  • الذكاء الاصطناعي بات يتنبأ بموجات الحر الأوروبية قبل أسابيع: كيف يعمل
  • بلجيكا تتجه لتعزيز مراقبة مجالها الجوي بعد توغل مسيرات وتعطل الرحلات
  • لماذا لا تتأثر الأردن بالمنخفض الجوي فوق البحر المتوسط؟
  • مسيّرات تعطل الملاحة الجوية في بلجيكا
  • إلغاء عشرات الرحلات.. طائرات مسيرة تعطل الملاحة الجوية في بلجيكا
  • طائرات مسيّرة تعطّل الملاحة الجوية في بلجيكا وإلغاء عشرات الرحلات