نايف بن نهار يكتب: هل تحتاج أميركا إلى استقلال ثانِ؟
تاريخ النشر: 9th, November 2025 GMT
"أي عضو في الكونغرس ينتقد إسرائيل أو يكشف عن انتهاكاتها للقانون الدولي فغالبًا أنه لا يجد نفسه في الكونغرس في الدورة الانتخابية القادمة".
بواسطة الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر (Jimmy Carter)
"كل عضو في الكونغرس لديه شخص من الأيباك كالمربّي الخاص".
بواسطة النائب الجمهوري توماس ماسي (Thomas Massie)
"أستطيع جمع تواقيع 70 عضوًا في مجلس الشيوخ على ورقة منديل فارغة بمجرد أن أطلب منهم ذلك".
بواسطة المدير السياسي السابق للأيباك ستيفن روزن (Steven Rosen)
تختلف النظم السياسية باعتبار مصدر السلطة، فالديمقراطية تحيل السلطة إلى الشعب، والثيوقراطية تحيل السلطة إلى النخبة الدينية، والأوتوقراطية تحيل السلطة إلى الفرد، والأوليغاركية تحيل السلطة إلى النخبة الغنية، والأرستقراطية تحيل السلطة إلى النبلاء، والميرتوقراطية تحيل السلطة إلى النخبة العلمية، وهلم جرا.
وهناك تقسيمات أخرى للنظم السياسية باعتبارات أخرى، كما نرى ذلك عند أفلاطون (Plato) في قسمته الخماسية، [1] وأرسطو (Aristotle) في قسمته السداسية التي جمعت بين الشكل والغاية، وتبعه في ذلك إيمانويل كانت (Immanuel Kant)، [2] وابن خلدون في قسمته الثلاثية التي ركزت على غاية النظام لا شكله، [3] ومكيافيللي (Machiavelli) الذي نظر إلى طريقة الوصول إلى السلطة لا غايته.[4]
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لماذا تخاف إسرائيل من زهران ممداني؟list 2 of 2لماذا يستهدف اللوبي الإسرائيلي بأميركا أسامة أبو ارشيد؟end of listورغم كثرة هذه التقسيمات وتنوعها، فإننا في العصر الحالي نحتاج أن نضيف نظامًا سياسيًا جديدًا، وهو النظام الذي تسيطر فيه أقلية بطريقة قانونية على صناعة القرار لصالح دولة أجنبية، وهو ما تقترح هذه المقالة تسميته "AIPACROCY" (يمكن تعريبها الأيبوقراطية) ونستمد هذا المصطلح من الحالة الأميركية التي تسيطر فيها جماعة الأيباك (AIPAC) على صناعة القرار الأميركي لصالح دولة أجنبية (إسرائيل).
إعلانفالأيباك وإن كانت مجرد جماعة ضغط، لكن نقترح في هذه المقالة التعامل معها على أنها مفهوم يعبّر عن كل نظام سياسي تسيطر فيه الأقلية بطريقة قانونية متحيّزة لدولة أجنبية.
والأيباك تستعمل القانون للسيطرة، لكن القانون لا يعترف بهذه السيطرة، وهذا تفريق مهم لفهم فكرة هذه المقالة، وهي أن عمل الأيباك في توجيه السياسة الأميركية لتلائم المصلحة الإسرائيلية هو عمل قانوني، ما دامت لا تتلقى دعما مباشرًا من إسرائيل، وما دامت لا تقدم دعمًا مباشرًا للمرشحين الأميركيين، لكن هذه الطريقة القانونية استثمرها الأيباك للسيطرة التامة على صناع القرار الأميركي، وهذه السيطرة هي التي لا يعترف بها القانون.
ومن الطبيعي أن القانون لا يعترف بها، لأنه سيكون اعترافًا بغياب السيادة؛ إذ السيادة ليست سوى الاستقلال القانوني للدولة في صناعة قرارها داخليًا وخارجيًا.[5]
لكن الواقع لا يُفهم من خلال ما يقوله القانون فحسب، بل من خلال المعطيات العملية كذلك، إذ القانون لا يعبر عن حقائق الأشياء دائمًا، ولذلك صحيح أن الدستور الأميركي ينص على أن السلطة بيد الشعب كما تنص على ذلك ديباجته، لكن معطيات الواقع تخبرنا بوضوح -كما سنرى في هذه المقالة- أنه لا يمكن لإرادة الشعب الأميركي أن تعلو على إرادة الأيباك في القضايا التي تمس المصالح الإسرائيلية.
ونشير كذلك إلى أن الأيباك مشروع طارئ في الحياة الأميركية، فلم يكن موجودًا قبل الخمسينيات، وربما لن يكون موجودًا مستقبلاً، ولذلك وصف النظام الأميركي بأنه أيباكروسي هو وصف لحالة الانحراف المستمرة منذ عقود، وليست وصفًا لطبيعة النظام السياسي في أصله.
فالنظام الأميركي في أساسه ديمقراطي، لكن قوانينه أتاحت للأيباك أن ينقلب على الديمقراطية نفسها، فإلى أن تنتهي حالة الانقلاب هذه سيبقى الأدق أن نصنف النظام السياسي الأميركي بأنه "أيبوقراطي"، وليس "ديمقراطيا".
الأيباك منظمة تهدف لتقوية العلاقات الأميركية الإسرائيلية بحسب تعريفها القانوني، وتأسست في عام 1954 على يد إشعيا كنعان (Isaiah Kenen) الذي بقي مديرًا لها منذ لحظة التأسيس إلى عام 1974، ثم بعد ذلك تولى المهمة موريس أميتاي (Morris Amitay) الذي كان مساعدًا قانونيًا لأحد نواب الكونغرس الأميركي، ثم من عام 81 تولى الإدارة توماس داين (Thomas Dine) والذي كان أيضا يعمل مساعدًا لكثير من النواب، إلى أن وصل الأمر إلى بيستي بيرنز كورن (Betsy Berns Korn) في المرحلة الحالية.
وكثير من الناس يخلط بين "الأيباك" و"اللوبي الصهيوني"، والحقيقة أن الأيباك جزء من اللوبي الصهيوني الذي يشمل جماعات أخرى تؤمن بالصهيونية أو تساندها، كمنظمة التحالف المسيحي الأميركي، ومنظمة المسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل، لكن الأيباك بطبيعة الحال هو أقوى مكونات اللوبي الصهيوني على الإطلاق، يقول جونثان رينهولد (Jonathan Rynhold): "الأيباك أقوى وأهم جماعة مؤيدة لإسرائيل في أميركا".
وكانت الأيباك في البدء تسمى The American Zionest committee for public affairs (AZCAB)؛ لكن لاحقًا -وتحديدًا عام 1959- أزيلت كلمة الصهيونية وحلت كلمة إسرائيل محلها، فأصبحت (AIPAC): American Israel Public Affairs Committee . وتشير صفحة الأيباك الرسمية إلى أنها جماعة وطنية ينتمي لها أكثر من 3 ملايين عضو، ليس كلهم من اليهود، فقد ذكر روزنبرغ (Rosenberg) أنَّ الأيباك فيها أكثر من مئة ألف من غير اليهود الأميركيين.[6]
إعلانوعلى الرغم من أن الأيباك تأسس عام 1954، فإنه من المهم الانتباه إلى أن هذه كانت نقطة التأسيس لا التأثير، أما بداية التأثير الحقيقي للأيباك في المشهد السياسي الأميركي فهي مرحلة الثمانينيات، والتي يرى دوغ روسينو (Doug Rossinow) أنها "التاريخ الحقيقي للايباك. [7] وربما يعود ذلك لأنها المرحلة التي تولّى فيها رونالد ريغان (Ronald Reagan) رئاسة الولايات المتحدة، وهو أحد أهم رموز المسيحية الصهيونية التي تدعم فكرة الدولة الإسرائيلية دعمًا مطلقًا.
أما غاية الأيباك وهدفه الأساس فيكمن في بناء الإجماع السياسي الأميركي على تأييد إسرائيل لضمان استمرار دعم صانع القرار الأميركي للمصلحة الإسرائيلية كما تقررها الحكومة الإسرائيلية.
وحين نقول: "كما تقررها الحكومة الإسرائيلية" فهذا قيد مهم، فلو رأت الإدارة الأميركية أن مصلحة إسرائيل تقتضي الاتجاه يمينًا، والحكومة الإسرائيلية ترى أنها تقتضي الاتجاه شمالاً، فإن وظيفة الأيباك حينها أن تجعل الإدارة الأميركية تتجه شمالاً، بصرف النظر عن صحة الطريق من عدمه. وهذا الأمر صرّح به الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر (Jimmy Carter) نفسه حين قال إن الأيباك لا يهدف إلى "إحلال السلام"، ولكنه يهدف لتأمين مصالح إسرائيل: "AIPAC is not didcatede to peace, they didcate induce in the maxmuim support in Amarica for whatever the Israeli government wants
أما وسائل الأيباك في تحقيق هذه الغاية فهي كثيرة ومتنوعة، منها مثلاً:
توفير الدعم غير المباشر للمرشحين من خلال تشجيع منتسبي الأيباك للتبرع لهم، ومؤخرًا أنشأت الأيباك لجنة عمل سياسي تابعة لها تقدم الدعم المباشر. عمل دورات مكثفة للعاملين في دوائر صناعة القرار الأميركي، بما في ذلك دورات تدريبية في إسرائيل. ضمان استمرار تدفق المساعدات العسكرية والتكنولوجية والمالية الأميركية لإسرائيل. تشجيع القواعد الانتخابية للمرشحين للتصويت والتواصل معهم قبيل وأثناء الانتخابات ضمان أن يكون الموقف الأميركي معبرًا أو ممثلاً للموقف الإسرائيلي في المحافل الدولية لا سيما الأمم المتحدة. تشجيع صانع القرار الأميركي على فرض عقوبات على خصوم إسرائيل والتأكد من استمرار ذلك. الضغط على أميركا لشراء السندات حين تطرحها إسرائيل. تقديم إحاطة دائمة لأعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ وموظفي البيت الأبيض عن كل ما يهم المصالح الإسرائيلية.ولا نحتاج للتوسع في سرد التفاصيل المعلوماتية عن الأيباك، من نشأته وتاريخه ومراحل تطوره وآليات عمله، فهناك العديد من الدراسات التي تكفّلت بذلك، [8] لكن ما يهمنا أن نقوله هنا إن الأيباك وإن كانت جماعة ضغط من بين مئات جماعات الضغط التي تملأ المشهد الأميركي، فإنها رغم ذلك تختلف اختلافًا جذريًا عما سواها، وهو ما سنوضحه الآن.
يقول مسؤول الأيباك السابق دوغ روسينو (Doug Rossinow) إن "الفرق الجوهري الوحيد بين جميع اللوبيات المحلية التي تسعى لشراء الدعم لأجندتها هو أن الأيباك تعمل لصالح دولة أجنبية". [9]
وهذا هو الفارق الأساس بين الأيباك وغيره أنه الوحيد الذي يعمل لصالح دولة أجنبية، أما بقية اللوبيات فهي تتمحور حول قضايا معينة، فمثلاً اللوبي الأرمني يتمحور حول قضية الاعتراف بـ "المجزرة"، [10] لكن إن تعارضت مصالح الحكومة الأرمينية مع قضية "المجزرة" فإن اللوبي الأرمني يقف ضد الحكومة الأرمينية، كما حصل ذلك حين أظهر الرئيس الأرميني سيرج سركسيان (Serzh Sarksyan) مرونة لإعادة العلاقات مع تركيا، فبادر اللوبي الأرمني بوصفه بالخائن!
وهذا الأمر لا يمكن أن يحصل في حالة الأيباك، لأنه يخدم المصالح الإسرائيلية وفقًا لتعريف الحكومة الإسرائيلية لها، فمثلاً يدرك الجميع أن استمرار إسرائيل في حرب غزة لا يصب في مصلحة إسرائيل، لكنه يصب في مصلحة الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو ، ولذلك لا يملك الأيباك إلا أن يساند قرار الحكومة الإسرائيلية، فهو يخدم المشروع الإسرائيلي كما يقدره صانع القرار الإسرائيلي نفسه.
إعلانولذلك فالأيباك ليست مشروعًا يهوديًا، ولا حتى مشروعًا صهيونيًا فحسب، وإنما هي مشروع إسرائيلي، فالأيباك تستخدم اليهودية ولا تخدمها، وتتحالف مع الصهيونية لكنها لا يرتهن لها.
وستكون الأيباك مشروعًا يهوديًا لو أن وظيفتها كانت مقتصرة على تأمين مصالح الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة، لكن الواقع أن الأيباك قد تستهدف اليهود أنفسهم إن عارضوا الصهيونية، وقد أشار بعض الباحثين إلى أن الصوت اليهودي المناهض للصهيونية كان عاليًا، بل يرى دوغ روسينو (Doug Rossinow) أن المعادين للصهيونية بين اليهود كانوا هم التيار العام، [11] لكن بعد الخمسينيات تم تهميشهم، وهو تحديدًا موعد نشأة الأيباك. ومن الأمثلة على استهداف الأيباك لليهود المناوئين لإسرائيل ما فعلوه ضد النائب الديمقراطي اليهودي آندي ليفين (Andy Levin) حين سعوا لإسقاطه في انتخابات ولاية ميشيغان، مع كونه يهوديًا!
وستكون الأيباك مشروعًا صهيونيًا لو أن صناعة قرارها محددة بمصلحة إسرائيل كما يقدرها اللوبي نفسه، لكن ممارسات الأيباك تشير إلى أن هذه الجماعة متمحورة حول المصلحة الإسرائيلية أكثر من اليهودية أو الصهيونية، كحادثة اختراق الأيباك وزارة الدفاع الأميركية والحصول على معلومات سرية حول إيران، وذلك حين قام لورانس فرانكلين (Lawrence Franklin) مع اثنين من الموظفين السابقين في الأيباك ستيف روزن (Steve Rosen) وكيث وايزمان (Keith Weismann) بتسليم معلومات سرية للدبلوماسي الإسرائيلي ناعور جيلون (Naor Gilon) [12].
ما مصدر قوة الأيباك؟يرى مؤيدو الأيباك أن قوة هذه المنظمة نتيجة طبيعية لقوة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، [13] لكن الحقيقة أن الجميع يدرك أن هذا الكلام بعيد عن الواقع، فالمسألة ليست مجرد انعكاس طبيعي للتفاعل السياسي بين إسرائيل والولايات المتحدة، وإنما هي نتيجة عوامل متعددة على رأسها سطوة الأيباك وهيمنتها.
لقد أعاد الرئيس الأميركي الراحل كارتر ظاهرة هيمنة إسرائيل على المشهد الأميركي إلى أمرين: الالتزام الأميركي المسيحي الأصيل بضمان أمن إسرائيل، والأمر الثاني: قوة الأيباك.
وهذا صحيح، لكن ما سر قوة هذه الجماعة نفسها؟ الذي يبدو أنّ قوة الأيباك تكمن في 3 أمور أساسية:
الأمر الأول: حجم الدعم الذي تقدمه للمرشحين، وليس المقصود بالدعم المالي وحده، إذ المال وحده لا يحسم السباق التنافسي، ولو صح ذلك لفازت هيلاري كلينتون على دونالد ترامب، فقد جمعت حوالي نصف مليار دولار بحسب موقع Open Secret، في حين لم يتجاوز ما جمعه دونالد ترامب (Donald Trump) 71 مليون دولار!
لكن المقصود بدعم الأيباك هو مجموعة الخدمات التي تقدمها مما يعجز أي كيان آخر في أميركا عن منافسته، فهي لا تكتفي بتشجيع كل أعضائها وقاعدتها الجماهيرية بالتبرع بنحو مباشر للمرشح، بل تزيد على ذلك بالتواصل المباشر مع قواعد المرشح الانتخابية في ولايته لانتخابه، وتنظم له إعلاناته الانتخابية، وتقوم بهجمة معاكسة ضد منافسيه بما في ذلك تشويه سمعتهم لدى الرأي العام الأميركي، وقد ذكر أحدهم أن المرشح المناهض للأيباك جمال بومان (Jamal Bowman) شنت عليه هذه المنظمة حملة تشويه إلى درجة أن أمه لو قرأت ما قيل عنه لما صوتت له!
فإذن الأيباك ليست مجرد ATM توفر المال فحسب، بل تقوم بمهام كثيرة تتطلب جهودًا مؤسسية ضخمة. كما أنه من المهم الإشارة إلى أن منظمة الأيباك لا تعمل وحدها، وإنما لديها شبكة هائلة من اللوبيات ولجان العمل السياسي PACs مما يعمل معها لتحقيق الهدف نفسه، وهذا يضيف لقوتها أضعافًا مضاعفة.
الأمر الثاني: هيمنة السردية الصهيونية، والتي يمكن تلخيصها بشعارهم الذي يرددونه، وهو "Never again". وهذه العبارة تعكس -بحسب موريس سولومون (Morris Solomon)[14]- التزامين يطالب بهما اليهود:
الالتزام الأول: أنه لا يجوز أن يكون اليهود عرضة لهولوكوست آخر.
الالتزام الثاني: أن إسرائيل يجب أن تبقى كوطن آمن لليهود.
فالسردية الصهيونية تقوم على أن الغرب هو الذي سمح بجريمة الهولوكوست، وتاليًا عليه أن يكون المسؤول عن أمن اليهود من خلال ضمان عدم تكرار ما حصل، وأفضل وسيلةٍ لذلك هو أن تبقى إسرائيل وطنًا آمنًا لليهود، وعليه فالواجب أن يلتزموا بأمن إسرائيل ودعمها لتحقيق هذه الغاية.
وبالتأكيد أن الأمر لا يتوقف على منطق السردية نفسها، بل الأهم القدرة على ترويجها وترسيخها في الوعي الجمعي، وهذا ما فعله منظمة الأيباك بهيمنتها على وسائل الإعلام الأساسية كي تضمن ألا يسمع الرأي العام الأميركي سوى سرديتها، وإن كان ذلك لم يعد فاعلاً كالسابق بعد وجود وسائل التواصل الاجتماعي، ولذلك ليست مبالغة لو قلنا إن أكبر ما يهدد هيمنة الأيباك هو الثورة الرقمية.
إعلانالأمر الثالث: استثمار الحاضنة الإنجيلية، ربما يستغرب القارئ لو علم أن إسرائيل في أساسها مشروع مسيحي أكثر منها يهوديًا، ذلك أن اليهودية في الأساس تحرّم الرجوع إلى أرض الميعاد قبل خروج المسيح (عليه السلام)، لكن المسيحية الإنجيلية -التي نشأت في أحضان الإنجيليين- خرجت بنظرية أن المسيح لن يأتي إلى هذا العالم إلا إذا تجمع اليهود في أرض فلسطين وأنشؤوا مملكة إسرائيل، وهذا يقتضي دفع اليهود للرحيل إلى أرض فلسطين حتى يعجّل ذلك بمجيء المسيح.[15]
وهذا المعتقد -أعني المسيحية الصهيونية- يؤمن به كثير من الساسة الأميركيين، بل هناك من يرى أن معظم الجمهوريين يذهبون هذا المذهب، ويعدُّ الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان (Ronald Reagan) من أشهر المؤمنين بذلك، فقد كان يتحدث كثيرًا عن معركة هرمجدون التي أشار إليها العهد القديم (في سفر حزقيال)، [16] والتي تحكي أن قوى الظلام ستجتمع كلها لمحاربة مملكة إسرائيل، فيقتلون اليهود قتلاً كبيرًا، ثم يتنزّل المسيح بن مريم لحماية من تبقى من اليهود، ويحكم العالم لألف سنة، ولذلك تؤمن المسيحية الصهيونية بأهمية تأسيس إسرائيل وبقائها إلى أن تأتي هذه المعركة، وإلا فلن يتنزّل المسيح.
وقد استدعى النائب الجمهوري ريك دبليو ألين (Rick W. Allen) رئيسة جامعة كولومبيا وعاتبها قائلاً: لماذا لا تدعم جامعة كولومبيا إسرائيل؟ ألا تعرفين أن الإنجيل أخبرنا بأن الله يلعن من يعادي إسرائيل!
والشاهد أن المسيحية الصهيونية هي أحد أهم مصادر قوة الأيباك، صحيح أنها تختلف تمامًا مع هذه الجماعة في الهدف، لكنها تشترك معها تمامًا في الوسيلة، وتقاطع المصالح ركن ركين في التحالفات الإنسانية.
الأيباك واستثمار الثغرة الديمقراطية المميتةعلى الرغم من أن الديمقراطية تعد أقوى النظم السياسية الوضعية وأكثرها ديمومة، فإنها تعاني من عدة ثغرات تحدث عنها فلاسفة الفكر السياسي منذ العصر الأثيني إلى عصرنا الحالي، لكن في اعتقادي أن أخطر هذه الثغرات على الإطلاق هي ثغرة الاختراق الخارجي؛ أي تمكّن جهات أجنبية من التدخل في توجيه القرارات الحكومية.
وهذه الثغرة يصعب تفاديها في النظم الديمقراطية، ذلك أن الديمقراطية تعني التنافس الانتخابي بين مرشحين شعبيين، ولأن كل مرشح يحتاج إلى دعم واسع للنجاح، فإن هذه الحاجة هي الثغرة التي من خلالها تحصل الاختراقات الأجنبية.[17]
ولا شك أن القوانين في الدول الديمقراطية -بما في ذلك الولايات المتحدة- تمنع على مواطنيها المرشحين أن يتلقوا أي دعم من دول أجنبية في حملاتهم الإعلانية، لكن هذا القانون يقلل عملية الاختراق ولا يلغيها؛ لأن الدول الأجنبية تستطيع أن تجد ألف طريقة وطريقة لدعم المرشحين، لا سيما أن القوانين الأميركية لا تضع حدًا للإنفاق السياسي بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي، وإن كانت تضع حدًا لدعم مرشح أو حزب بعينه.
فمثلاً يمنع القانون الأميركي الفرد من التبرع للمرشح نفسه بأكثر من 6600 دولار، ويمنعه أن يعطي الحزب أكثر من 41 ألف دولار، فهو إذن يسمح لكل فرد بأن يدفع ما يقارب 47 ألف دولار كحد أقصى. [18] لكن هذا الحد لا يشكل حاجزًا لسببين:
الأول: أن منتسبي الأيباك عددهم كبير جدًا، فهم يقدرون بـ3 ملايين، فلو افترضنا أن الأيباك استعملت هويات عشرة الآلاف من هؤلاء لدعم مرشح معين، فإنها تستطيع أن تجمع له نحو نصف مليار! وهذا الأمر يتعزز مع هيمنة الأيباك على لجان العمل السياسي PACs التي لا تدعم بشكل مباشر، لكنها تستطيع جمع أعداد هائلة من المتبرعين، هذا علاوةً على ما يسمى لجان العمل السياسي الكبرى Super PACs.
والثاني: أن القانون لا يمنع الدعم غير المباشر، فصحيح أن الشركات محدودة بمبلغ معين في دعمها المباشر للمرشح، لكنها تستطيع أن تنفق ما تشاء لدعمه بطرق غير مباشرة، كأن يقوموا بالترويج للقضايا التي يدافع عنها المرشح أو إطلاق حملات لتشويه البرنامج الذي يعتمد عليه خصمه أو تشويه صورة الخصم نفسه وإطلاق الشائعات عليه، فثمة ألف طريقة وطريقة لدعم المرشحين.
والحقيقة أن الديمقراطية الأميركية رسخت ثغرة الاختراق في ديمقراطيتها لكونها تسمح بوجود جماعات الضغط، والتي في حقيقتها لا تعني شيئًا أكثر من شراء مواقف المشرّعين مقابل خدمات مادية! فمجرد السماح بوجود جماعات ضغط يعني ذلك تلقائيًا السماح بشراء مواقف المشرّعين.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الثغرة في الديمقراطيات عمومًا، وفي الديمقراطية الأميركية على وجه الخصوص، قد انتبه لها الصهاينة مبكرًا، وهذا ما دفعهم لتأسيس الأيباك في مرحلة مبكرة جدًا عام 1954، أي بعد 6 سنوات فقط من قيام دولة الاحتلال.
وستبقى جماعة الأيباك قادرة على استثمار هذه الثغرة المميتة في الديمقراطية الأميركية إلى أن يحصل أمر على شاكلة ما حصل قبيل الحرب العالمية الثانية حين خشيت الولايات المتحدة من اختراق ألمانيا النازية للمشهد الانتخابي الأميركي فسنّوا من التشريعات ما يعتقدونه سيمنع ذلك الاختراق، فهل يمكن أن يتكرر ذلك مع الأيباك لا سيما مع تصاعد اتهام أعضاء هذه المنظمة بتهمة ازدواجية الولاء بين أميركا وإسرائيل؟
يحكي موريس س. سولومون (Morris S. Solomon) اعتقاد الكثيرين بأن منظمة الأيباك هي الأكثر تأثيرًا في المشهد الأميركي، [19] وذكر ستيفن والت (Stephen Walt) أستاذ السياسة في جامعة هارفارد أن السبب الحقيقي وراء وقوف الساسة الأميركيين مع إسرائيل لا يمكن تفسيره بمنطق المصالح الإستراتيجية أو الاعتبارات الأخلاقية، وإنما يعود بشكل أساس لقوة الأيباك. [20]
والواقع أنه لا يجادل أحد في قوة منظمة الأيباك وتأثيرها، ولكن الجدل حول مستوى هذا التأثير، وهل يصل إلى حد السيطرة العملية على صناعة القرار أو أنه مجرد موجه من موجهات صناعة القرار؟
والفرضية التي يدافع عنها هذا المقال هي أن جماعة الأيباك ليست مؤثرة فحسب، بل هي صاحب اليد العليا في كل قرار أميركي يتعلق برسم السياسة الأميركية تجاه المصالح الإسرائيلية. فإذا كانت الدول تصنع مواقفها في السياسة الخارجية بناءً على مجموع المصالح المحلية والوطنية والدولية، فإن الولايات المتحدة حين يتعلق الأمر بإسرائيل تجعل هذه المستويات الثلاثة مستوى واحدًا، وهو مستوى المصلحة الإسرائيلية وحدها.
وهذا أمر اعترف به كثير من الساسة الأميركيين، فالرئيس الراحل كارتر ذكر في مقابلة له عام 2010 أنَّ أي عضو في الكونغرس ينتقد إسرائيل أو يكشف عن انتهاكاتها للقانون الدولي فغالبًا أنه لا يجد نفسه بالكونغرس في الدورة الانتخابية القادمة. "He will probably not be back in the congress next term"
ويقول كارتر في المقابلة نفسها إنه لا يستطيع أي عضو في الكونغرس أن يطلب من إسرائيل الالتزام بالقانون: Not a single member of congress would possibly speak out and call for Israel to withdraw to their legal boundaries
وقد ذكر النائب الجمهوري توماس ماسي (Thomas Massie) كلامًا حاسمًا في هذا السياق، حين قال بالحرف الواحد: "كل عضو في الكونغرس لديه شخص من الأيباك". وحين سأله المذيع: ماذا تعني بشخص من الأيباك؟ قال: It is like your babysitter. وتكمن قيمة هذا الاعتراف في أنه صدر من عضو جمهوري، وتاريخيًا يعد الحزب الجمهوري حليف الأيباك.
ولرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مقابلة مهمة في ثمانينيات القرن الماضي، حيث سأله المذيع عن كيفية التعامل مع أميركا في ظل اختلاف مواقف صناع القرار فيها. فأجاب نتنياهو: لا تقلق، إننا نسيطر على مجلس الشيوخ والكونغرس!
وهذا الاعتراف الواضح بسيطرة الأيباك تؤكده معطيات الواقع، ومن مرحلة مبكرة كذلك، وفي هذا السياق نتذكر حادثة إقصاء مندوب أميركا في الأمم المتحدة أندرو يونغ (Andrew Young) عام 1979 لمجرد أنه اجتمع مع ممثل منظمة التحرير الفلسطينية، فقد شنت عليه منظمة الأيباك حملة قوية جعلت الإدارة الأميركية تحيله إلى التقاعد بعد أقل من يومين من اجتماعه.
والأمثلة كثيرة على هيمنة الأيباك، لكن تبقى حرب العراق 2003 المثال الأشهر على قدرة الأيباك في توجيه صناعة القرار الأميركي بما يخدم المصالح الإسرائيلية، فهذه الحرب كانت نتيجة تأثير الأيباك في رأي أغلب المراقبين، [21] وأكد دوف واكسمان (Dov Waxman) سيادة هذا الاعتقاد عند الباحثين وإن لم يتفق معه. [22]
وقد ذكر مايكل شوير (Michael Scheuer) الرئيس السابق لما تسمى "وحدة أسامة بن لادن" في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) أن الأيباك وحدها كانت الدافع من وراء حرب العراق!
ولا ننسى خطاب نتنياهو المشهور في الكونغرس الأميركي قبيل الحرب على العراق، وحث الولايات المتحدة بصراحة على الهجوم العسكري على العراق، والغريب أن نتنياهو (Netanyahu) طالب الولايات المتحدة بالاقتداء بإسرائيل حين ضربت المفاعل النووي العراقي عام 1981 دون أن تستأذن أحدًا، لا الأمم المتحدة ولا غيرها؛ وبالتالي على أميركا أن تهاجم العراق دون الحاجة للاستئذان من أحد!
وفي النهاية نجحت الأيباك في جر الولايات المتحدة لحرب العراق، وانتصرت في المعركة التي يرى بعض المراقبين أنها أكبر معركة خاضتها الأيباك في تاريخ هذه المنظمة!
وهيمنة الأيباك لا تقف عند حدود التأثير المباشر على المواقف الأميركية، بل إنها تتجاوز ذلك إلى مستوى السيطرة على عالم المصطلحات والمفاهيم، فمثلاً معروف أن "معاداة السامية" أمر محظور، لكن من يحدد معنى معاداة السامية؟ هنا الأمر ليس متروكًا للقانون الأميركي بقدر ما هو متروك لجماعة الأيباك نفسها، ولذلك يمكن أن يصنف أي نقد لإسرائيل على أنه "معاداة للسامية"، بل إن مجرد نقد الأيباك يمكن تصنيفه على أنه معاداة للسامية، يقول ستيفن والت (Stephen Walt): "يصعب الحديث عن تأثير اللوبي الإسرائيلي في الإعلام دون أن يتم اتهامك بمعاداة السامية". [23]
ولدينا تجربة عملية تبرهن ذلك، وهو ما حصل مع النائبة الديمقراطية إلهان عمر (Ilhan Omar) التي لم تنقد اليهود ولم تنتقد حتى إسرائيل، ولكنها كتبت تعليقًا على سؤال حول من الذي يشتري أعضاء الكونغرس، فأجابت على ذلك بقولها: Aipac!
وقد فتحت هذه الإجابة على إلهان عمر (Ilhan Omar) النار، وجرى اتهامها بأنها معادية للسامية لمجرد أنها أشارت إلى الأيباك، ولذلك لا يمكن في الواقع الفصل بين نقد الأيباك ومعاداة السامية.
وخذ مثالاً آخر على هيمنة الأيباك على عالم المفاهيم، وهو تحديد مفهوم مصطلح تأييد إسرائيل Pro-Israel، إذ لا يمكن للمرء أن يكون مؤيدًا لإسرائيل بالطريقة التي يريدها أو التي يقتنع فعلاً بأنها مفيدة لإسرائيل، بل يجب أن يؤيد إسرائيل بالطريقة التي تريدها الأيباك حصرًا!
وهذا الأمر -أعني هيمنة الأيباك على عالم المفاهيم- أقر به المدير السياسي السابق لهذه المنظمة ليز شراير (Liz Shrayer)، بل إنه جعله أعظم نجاحات الأيباك على الإطلاق! [24]
وقد صدق في أنه أعظم إنجازات الأيباك؛ لأن هذا الإنجاز هو الذي يقود فعلاً للهيمنة على السياسة الأميركية؛ إذ إنَّ تأييد إسرائيل محل إجماع في دوائر صناعة القرار الأميركي، لكن الإشكال هو ما معنى تأييد إسرائيل؟ فإذا نجحت الأيباك في تحديد هذه المعاني كان لها بلا شك الكلمة العليا، ولذلك فنجاح الأيباك الحقيقي ليس في خلق حالة من الإجماع السياسي للتضامن مع إسرائيل فحسب، بل في أنها جعلت تأييد إسرائيل لا يتحقق إلا وفقًا لمعيار الأيباك.
ولأجل كل ما سبق فإن هذه المقالة تفترض أن منظمة الأيباك قد نجحت فعلاً في تحويل النظام الأميركي من نظام ديمقراطي إلى نظام أيباكروسي، إذ يصعب بعد كل ذلك تصنيف النظام الأميركي بأنه ديمقراطي إلا إذا غيّرنا تعريف الديمقراطية نفسها. فقد ذكرنا أن الديمقراطية هي النظام الذي يحقق إرادة الشعب. وعليه، فإنه إذا حال بين إرادة الشعب وصناعة القرار ما يعرقل تجسيدها فلا يصح تسميتها ديمقراطية، وفي الولايات المتحدة هناك أقلية (الأيباك) تعلو إرادتها على إرادة الشعب الأميركي ولو كان ذلك في مجال محدد.
وإذا كان الرئيس الأميركي نفسه والنواب الأميركيون -كما سبق نقل ذلك- يصرّحون بخضوع صناعة القرار الأميركي للأيباك، وإذا كانت المعطيات الواقعية والتجارب التاريخية تثبت ذلك، فكيف بعد ذلك نستطيع القول إن النظام الأميركي ديمقراطي لا يعلو فيه صوت على صوت الشعب؟
ولقد قال المدير السياسي السابق للأيباك ستيفن روزن (Steven Rosen) إنه يستطيع جمع تواقيع 70 عضوًا في مجلس الشيوخ على ورقة منديل فارغة بمجرد أن يطلب منهم ذلك! [25]
ولذلك من المنطقي أن تصرّ هذه المقالة على تسمية النظام السياسي الأميركي بأنه نظام أيبوقراطي لا ديمقراطي، إلى أن يأتي اليوم الذي يستطيع فيه المشرّع الأميركي نقد الأيباك دون الخوف على مستقبله.
لقد قالت النائبة الديمقراطية سمر لي (Summer Lee) تعليقًا على تأثير الأيباك: "سنخسر ديمقراطيتنا لأنه لا أحد منا كان شجاعًا بما يكفي في وجه التأثيرات غير الديمقراطية". [26]
وتقول إنها تخشى من أن تخسر أميركا ديمقراطيتها، والواقع أنها خسرتها فعلاً!
وإذا كانت جماعة الأيباك مهيمنة فكيف استطاع أوباما هزيمتها؟
ويشكك بعض الناس في مدى هيمنة الأيباك على صناعة القرار الأميركي، ويرى أن هذه المنظمة ليست بتلك القوة التي نتخيّلها، بدليل أن الرئيس الأسبق باراك أوباما استطاع هزيمة الأيباك حين ذهب لتوقيع اتفاقية النووي مع إيران JCPOA عام 2015.
والحقيقة أنه منذ ابتداء التأثير الجذري للأيباك في الثمانينيات لم يستطع أي رئيس أميركي هزيمة الأيباك، فقد كان رؤساء أميركا إما مطاوعين لها أو مختلفين معها ودفعوا ضريبة ذلك أو استفادوا من ثغرات الأيباك. وفي اعتقادي أن ما فعله أوباما كان من النوع الأخير، وهو استغلال حالة الاختلاف حول هذه الاتفاقية، إذ لم يكن هناك إجماع بين الأيباك والحلفاء على رفضها.
وقد اعترف بحالة الاختلاف الباحث الإسرائيلي جونثان رينهولد (Jonathan Rynhold)، والأهم من ذلك أنه أشار إلى أن 7 من 9 أعضاء يهود في الحزب الديمقراطي صوتوا لصالح الاتفاقية!
ولذلك لا تعد هذه الاتفاقية دليلاً على غياب تأثير الأيباك أو حتى ضعفها، فلم يكن هناك إجماع من المنظمة نفسها على هذا الأمر، ولم يكن هناك إجماع من النواب اليهود الديمقراطيين على ذلك، بل غالبية النواب اليهود الديمقراطيين كانوا معها.
وهذا علاوةً على أنه من المعروف أن الرئيس الأميركي في آخر سنتين من ولايته الثانية يكون أكثر تحررًا من الالتزامات، نظرًا لأنه لم يعد محتاجًا لأي دعم انتخابي، وتوقيع اتفاق النووي الإيراني جاء في هذه المرحلة تحديدًا من عهد أوباما.
هل تكون حرب غزة بداية لتفكيك هيمنة الأيباك؟إذا كانت أميركا ليست ديمقراطية بسبب هيمنة الأيباك، وإذا كانت الأيباك مشروعًا طارئًا، فإذن رجوع أميركا إلى الديمقراطية مرتبط بزوال هذه المنظمة أو على الأقل زوال سطوتها، فهل يمكن تفكيك هيمنة الأيباك؟
ولقد ذكرنا أن قوة الأيباك تعود إلى 3 أمور: حجم الخدمة، هيمنة السردية، الحاضنة الإنجيلية. وإذا كان هذا هو مصدر القوة فإن غزة تشكل تحديًا حقيقيًا لاستمرار هذه القوة:
أما ما يتعلق بالسردية الصهيونية، فإن الإبادة الكبيرة التي رآها الجميع بالصوت والصورة أصبحت لا تقل في وعي الناس عن جريمة الهولوكوست، أو على الأقل أصبحت تقلل كثيرا من فكرة "المظلوميّة" التي تستثمرها الصهيونية في بناء سرديّتها. أما من حيث قوة الدعم فقد خلفت حرب غزة فاعلية كبيرة لدى المسلمين الأميركيين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية من عموم اليسار، وهو ما أدى لوجود دعم مالي كبير لخصوم الأيباك، بل هو أكبر دعم في التاريخ الأميركي. وهذا الدعم الكبير أدى إلى زيادة الكُلفة على الأيباك، ولنأخذ مثالاً على ذلك ما حصل للمرشح الديمقراطي جمال بومان (Jamal Bowman)، فقد كانت هزيمته أمام مرشح الأيباك جورج لاتيمر (George Latimer) أكبر دليل على حالة التحوّل التي طرأت على الناخبين بعد أحداث غزة، ويرى بين ديفيس (Ben Davis) أن هزيمة بومان "تخفي تحولاً كبيرًا في ميزان القوى داخل السياسة الأميركية". [27]والسبب في أن هزيمة بومان أعطت هذا الانطباع يعود إلى أن هزيمته كلّفت الأيباك حوالي 25 مليون دولار، وهو ما جعلها أغلى انتخابات تمهيدية في تاريخ الولايات المتحدة! وما حصل للمرشح بومان تكرر مع المرشحة كوري بوش (Cori Bush) التي هددت بتدمير مملكة الأيباك، فاضطرت منظمة الأيباك أن تنفق ما يزيد على 8 ملايين دولار لهزيمتها.
ولا شك أن هزيمة الأيباك لبومان وكوري بوش تدل على قوة الأيباك الهائلة، فبومان مثلاً استطاع أن يخرج إليوت أنغل (Elliot Engel) عام 2020 الذي استمر في الكونغرس لأكثر من 30 عامًا في 16 ولاية متعاقبة، لكن حين اصطدم ببومان مع الأيباك بسبب غزة استطاعت المنظمة هزيمته!
ولكن هذه الهزيمة كانت بكلفة عالية جدًا، ولك أن تتخيل أن جميع ما أنفقته منظمة الأيباك على آخر انتخابات قبل "طوفان الأقصى" كان 17 مليون دولار بحسب بيانات الأيباك، وهذا المبلغ استطاعت هذه المنظمة من خلاله أن تدعم 345 مرشحًا مؤيدًا لها وتوصلهم إلى الكونغرس، [28] أما بعد "طوفان الأقصى" فقد كلّفتها هزيمة مرشحين اثنين فقط (بومان وكوري بوش) ضعف ما كلفها 345 مرشحًا قبل حرب غزة!
وهذه الكلفة العالية التي تضاعفت بعد "طوفان الأقصى" هي التي تجعل الأيباك غير قادرة على الاستمرار بهذه الطريقة، وهذا ما دفع بن ديفيس (Ben Davis) أن يقول إنه إذا كانت كل انتخابات ستكلف الأيباك وحلفائها نحو 20 مليون دولار فهي not a sustainable strategy".[29]
أما مسألة تعويل الأيباك على المسيحية الصهيونية فهذه معضلة حقيقية يصعب تفكيكها في ظل هيمنة البروتستانتية على المشهد الأميركي، وإن كانت فرص ذلك تزداد أكثر في أروقة الحزب الديمقراطي.
————————————————-
[1] أفلاطون (Plato)، الجمهورية، ترجمة: حنا خباز (Hanna Khabaz) (بيروت، دار القلم، د.ت) ص 228.
[2] كانت، إيمانويل (Kant, Immanuel)، مشروع السلام الدائم (القاهرة، دار كنوز، ط1، 2019) ص27
[3] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (Ibn Khaldun, Abd al-Rahman ibn Muhammad)، مقدمة ابن خلدون (بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2013) ص 326.
[4] مكيافيللي (Machiavelli)، الأمير، ترجمة خيري حماد (Khairy Hammad) (بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، 2008) ص 10.
[5] جاء في معجم أكسفورد السياسي: "السيادة هي ادعاء الكيان بأنه السلطة السياسية العليا دون الخضوع لسلطة أعلى في صنع القرار وتنفيذه". راجع مصطلح "Sovereignty" في معجم أكسفورد السياسي.
[6] روزنبرغ (Rosenberg), This Is How AIPAC Really Works,
[7] دوغ روسينو (Doug Rossinow), The Edge of the Abyss: The Origins of the Israel Lobby, Modern American History (2018), 1, 23-43, Cambridge University Press.
[8] دوغلاس يوفان (Douglas Youvan), The influence of AIPAC on U.S. Political Dynamics: A Historical and Contemporary Analysis
[9] "The only difference between all the domestic lobbies that essentially buy support for their agenda is that AIPAC is working for a foreign government". روزنبرغ (Rosenberg), This Is How AIPAC Really Works,
[10] وقد حقق ذلك حين قرر الكونغرس الأميركي في 29 أكتوبر/تشرين الأول الاعتراف بمجزرة الأرمن، بأغلبية 405 أصوات مقابل 11 صوتًا.
[11] دوغ روسينو (Doug Rossinow), The Edge of the Abyss: The Origins of the Israel Lobby, Modern American History (2018), 1, 23-43, Cambridge University Press.
[12] ستيفان لوفيفر (Stephane Lefebvre), Spying on friends? The Franklin Case, AIPAC, and Israel, International Journal of Intelligence and Counterintelligence, 19: 600-621, 2006, P 601
[13] رزقي مولانا فردوس (Rizki Maulana Firdaus), The strategy and effectiveness of the American Israel Public Affairs committee in lobbying the United states congress, P56
[14] موريس س. سولومون (Morris S. Solomon), The Agenda and Political Techniques of the American Israel Public Affairs Committee. National Defence University, p1
[15] غريس هالسل (Grace Halsell)، النبوءة والسياسة
[16] غريس هالسل (Grace Halsell)، يد الله
[17] والكلام السابق لا يعني أن ثغرة الاختراق خاصة بالنظم الديمقراطية وحدها، فالدول المستبدة كذلك يتم اختراقها، لكن اختراق الدول الديمقراطية أكثر سهولة وأقل كلفة، ولذلك تكثر فيها الاختراقات الخارجية أكثر من النظم المستبدة، فلو نظرنا مثلا إلى الصين لوجدنا أن الصينيين لديهم هامش كبير لاختراق المشهد السياسي الأميركي من خلال دعم مرشحين ضد مرشحين، أما المشهد الصيني فيكاد يكون مغلقًا؛ لتركز صناعة القرار بيد شخص واحد فقط.
[18] تستطيع من خلال موقع open Secret أن تعرف كل ما تحتاجه عن الداعمين، عن هوياتهم ومقدار ما أنفقوه.
[19] "AIPAC is considered by many to be the most influential Congressional lobby". موريس س. سولومون (Morris S. Solomon), The Agenda and Political Techniques of the American Israel Public Affairs Committee. National Defence University, p1
[20] ستيفن والت (Stephen Walt)، اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية، ترجمة أنطوان باسيل (Antoine Basil)، ص 10.
[21] فيليب وايس (Philip Weiss), The Iraq War Coverup: What did AIPAC do and when did it do it? Mondoweiss, Febrary 2, 2012
[22] دوف واكسمان (Dov Waxman), from Jerusalem to Baghdad? Israel and the War in Iraq, International Studies. His words: “Many people, in fact, hold Israel responsible-directly or indirectly- for the war"
[23] ستيفن والت (Stephen Walt)، اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية، ترجمة أنطوان باسيل (Antoine Basil)، ص 26
[24] جوناثان رينهولد (Jonathan Rynhold), Divide and Rule: Discursive Authority. Ethnic Lobbies, and US foreign Policy. Foreign Policy Analysis (2021)
يقول: AIPAC’s great success derives from its capacity to define what is means to be pro-Israel”.
[25] في مقابلة له مع جيفري غولدبرغ (Jeffrey Goldberg) من مجلة نيويوركر عام 2005
[26] أكيلا، لاسي (Akela, Lacy), At DNC, the Squad Warns Democrats to Wake Up to the Threat of AIPAC, https://theintercept.com/2024/08/24/dnc-aipac-squad-cori-bush-summer-lee/
[27] في مقاله المنشور في صحيفة غارديان بعنوان The Aipac-funded candidate defeated Jamal Bowman. But at What cost؟
[28] البيانات متاحة على موقع الأيباك.
[29] في مقاله المنشور في صحيفة غارديان بعنوان The Aipac-funded candidate defeated Jamal Bowman. But at What cost؟
"`
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات أبعاد
إقرأ أيضاً:
كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟
أظهرت دراسة جديدة أن المشي لأكثر من 5 آلاف خطوة يوميا قد يساعد في إبطاء التراجع الإدراكي ويحدّ من تراكم البروتينات المرتبطة بمرض ألزهايمر.
قام باحثون من جامعة هارفارد بتحليل بيانات 294 شخصا تتراوح أعمارهم بين 50 و90 عاما، لديهم تراكم لبروتيني الأميلويد وتاو في الدماغ –وهما مرتبطان ارتباطا وثيقا بمرض ألزهايمر– لكن من دون أن تظهر عليهم أعراض الخرف بعد.
شارك جميع المتطوعين في دراسة هارفارد لشيخوخة الدماغ، حيث استخدموا أجهزة عدّ الخطوات لقياس نشاطهم اليومي، وخضعوا لفحوصات تصوير دماغية واختبارات إدراكية سنوية على مدى 14 عاما.
نُشرت نتائج الدراسة في مجلة "نيتشر ميديسن"، وأظهرت أن زيادة النشاط البدني ترتبط بتباطؤٍ في تراجع قدرات التفكير والذاكرة لدى الأشخاص الذين يعانون من تراكم بروتين الأميلويد في الدماغ. كما بيّنت أن حتى النشاط المعتدل -أي ما بين 3 و5 آلاف خطوة يوميا- يُسهم في إبطاء تراكم بروتين تاو والتدهور الإدراكي، بينما كان المشي بين 5 آلاف و7500 آلاف خطوة يوميا أكثر فاعلية في تعزيز حماية الدماغ والحفاظ على وظائفه المعرفية.
تعزيز تدفق الدم والأكسجين إلى الدماغيوضح الدكتور ستيفن ألدَر، استشاري الأعصاب في مركز "ريكوغنشن هيلث"، أن المشي يساعد على زيادة تدفق الدم وتزويد الدماغ بالأكسجين، وهو أمر ضروري للحفاظ على كفاءة عمل الجهاز العصبي.
يقول ألدر إن "المشي يرفع معدل ضربات القلب ويُحسّن أداء الجهاز الدوري، مما يضمن إيصال الدم الغني بالأكسجين إلى جميع أجزاء الجسم، بما في ذلك الدماغ".
هذه الدورة الدموية المحسنة تسهم في تغذية الخلايا العصبية وإزالة الفضلات الأيضية، كما تحفز إفراز نواقل عصبية مهمة، مثل الدوبامين والسيروتونين، مما يرفع مستوى التركيز والمزاج والانتباه.
ويضيف ألدَر أن الانتظام في المشي يقوّي الأوعية الدموية الدماغية على المدى الطويل، ويقلل من خطر الإصابة بالسكتة الدماغية أو الخرف، مما يجعل المشي استثمارا فعليا في صحة الدماغ.
المشي السريع اليومي لا ينعش الجسد فحسب، بل يحفز القدرات الذهنية أيضا.
إعلانيقول ألدَر إن المشي، خاصة بوتيرة معتدلة إلى سريعة، يزيد إنتاج عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ (BDNF)، وهو بروتين أساسي لنمو الخلايا العصبية وبقائها وتعزيز التواصل فيما بينها.
هذا التحفيز العصبي يترجم إلى تحسن في الذاكرة والانتباه والقدرة على التعلم والتفكير المرن.
كما يشير الطبيب إلى أن المشي في الهواء الطلق وبين الطبيعة يمنح فائدة إضافية، إذ إن الجمع بين الحركة والهواء النقي والمناظر الطبيعية ينشط نصفي الدماغ معا، مما يعزز التفكير الإبداعي والقدرة على إيجاد الحلول.
ويساعد المشي الخارجي أيضا على تحسين جودة النوم، من خلال تنظيم الهرمونات وتقليل التوتر، وهو ما ينعكس إيجابا على الأداء الذهني في اليوم التالي.
ويوضح ألدر: "المشي المنتظم يحسن النوم عبر موازنة الهرمونات وتقليل الأرق، مما يساهم في تعزيز التركيز وترسيخ الذكريات".
تحسين المزاج وتقليل التوترإلى جانب فوائده الإدراكية، يتمتّع المشي بتأثير نفسي عميق، إذ يساعد على تحسين المزاج وتنظيم التوتر. يشرح ألدَر أن "الحركة الإيقاعية للمشي تُحفّز الاسترخاء من خلال خفض مستويات الكورتيزول –وهو هرمون التوتر– وتنشيط الجهاز العصبي اللاودي، المسؤول عن تهدئة الجسم طبيعيا".
ويضيف أن المشي المنتظم يُحفز إنتاج الإندورفينات والسيروتونين، مما يولد إحساسا طبيعيا بالسعادة والراحة النفسية ويُخفف من القلق والاكتئاب.
كما يوضح ألدَر أن المشي في الهواء الطلق يُضاعف من هذه الفوائد، لأن التعرض للضوء الطبيعي والمساحات الخضراء يساعد على تنظيم إيقاع الساعة البيولوجية وتحفيز إفراز الدوبامين، وهو الهرمون الذي يعزز الدافعية والتوازن العاطفي.
ويشير الطبيب إلى أن المشي المنفرد يعد وسيلة فعّالة لتعزيز الذهن الحاضر (اليقظة الذهنية)، وهي ممارسة أثبتت الدراسات فعاليتها في تقليل التوتر وتحسين صفاء الذهن.
ويقول ألدَر: "من الناحية النفسية، يمنح المشي الإنسان مساحة للتفكير الهادئ والتأمل، مما يساعده على فهم مشاعره والتعامل معها بوعي أكبر، ثم العودة إلى مهامه اليومية بذهن أكثر صفاء واتزانا".