بين “الفساد الصغير” و”الولاء الكبير”… هكذا تُدار معارك الشفافية في المملكة!
تاريخ النشر: 9th, November 2025 GMT
بين “ #الفساد_الصغير ” و” #الولاء_الكبير ”… هكذا تُدار #معارك_الشفافية في المملكة!
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
في عالمٍ عربيٍّ تتناسل فيه الشعارات كما تتكاثر التصريحات، يطلّ علينا بحث أكاديمي جديد ليذكّرنا بأنَّ “مكافحة الفساد” ليست دوماً حرباً مقدسة، بل قد تكون ـ ويا للمفارقة ـ جزءاً من أدوات الحكم نفسها!
الدراسة التي نُشرت في مجلة Mediterranean Politics تحت عنوان:
مقالات ذات صلة“The politics of anti-corruption crackdowns in autocracies: Evidence from Jordan”
أو بالعربية: “سياسات حملات مكافحة الفساد في الأنظمة الاستبدادية: أدلة من الأردن”
هي عملٌ علميّ رصين للباحثين شون يوم (Sean Yom) وستيف إل.
النظام الأردني يُحارب الفساد… ولكن ليس كله! يبدأ الباحثان من ملاحظة دقيقة: معظم الأنظمة الاستبدادية تَعِد بمحاربة الفساد، لكنها تفشل في تنظيفه من جذوره. ومع ذلك، لا تتوقف هذه الأنظمة عن تنظيم “حملات مكافحة” بين الحين والآخر. لماذا إذن؟ ومن الذي يُعاقَب فعلاً؟
الإجابة كما يقولان، تُثير قدراً من الحيرة والابتسامة السوداء معاً: فالحملات لا تستهدف عادةً الفاسدين الكبار أو أصحاب النفوذ، بل تركز على “الفساد الصغير” — موظفون صغار، بيروقراطيون محدودو الصلاحية — ليظهر المشهد العام وكأن الدولة تخوض معركة طاحنة ضد الشرّ المستشري، بينما “الفساد الكبير” يختبئ في الظلّ مبتسماً.
اختار الباحثان الأردن بوصفه “حالة مفصلية” لفهم هذه الظاهرة. اعتمدا على بيانات من هيئة النزاهة ومكافحة الفساد الأردنية (JIACC)، ومن ديوان المحاسبة، ومن الصحافة المحلية، ليرسما صورة دقيقة تمتد على عقدين من الزمن. النتيجة كانت واضحة وصادمة في آن: الجهود الرسمية تتركّز على القضايا الصغيرة ذات الرمزية العالية، بينما تتجنّب تماماً ملاحقة المتنفذين أو أصحاب القربى السياسية. السبب؟ بحسب الدراسة، يكمن في “الطبيعة الشخصانية للنظام الأردني”، حيث يقوم الاستقرار على شبكة من الولاءات الشخصية والعائلية والقبلية، يصعب المساس بها دون الإضرار بعمود النظام نفسه. بمعنى آخر: مكافحة الفساد هنا تشبه تنظيف غرفة الجلوس بينما يُترك القبو يعجّ بالغبار والعناكب!
ومن الطريف (أو المحزن) أن الدراسة وجدت من خلال تحليلٍ إحصائيٍّ أن توقيت الحملات ليس صدفة. بل هي غالباً ما تأتي بعد احتجاجات شعبية كبرى أو قبيل الانتخابات النيابية، وكأنها تقول: “ها نحن نفعل شيئاً… أليس هذا كافياً؟” بهذا المعنى، يتحوّل “الفساد” إلى مسرحية متعددة الفصول: في كل فصل، يُلقى القبض على موظف أو مدير، تُنشر صورته في الصحف، يتنفس الناس الصعداء، ثم يُسدل الستار حتى العرض القادم. وهكذا تُدار السياسة بخبثٍ ناعمٍ يجعل من “مكافحة الفساد” أداة لتسكين الألم لا لاستئصاله.
الكاتبان، رغم حيادهما الأكاديمي، لا يُخفِيان الدلالة الكبرى التي تنطوي عليها نتائج بحثهما: في الأنظمة الاستبدادية، الفساد ليس خللاً في النظام، بل جزء من النظام ذاته. تُحارب السلطة الفساد عندما تحتاج إلى استعادة شرعيتها، وتغضّ الطرف عنه عندما تحتاج إلى شراء الولاء. وهكذا يصبح “الفساد الصغير” كبش فداءٍ يُضحّى به لإطعام “الولاء الكبير”. ولأن المشهد يتكرر، يصبح المواطن متفرجاً محترفاً يعرف نهاية المسرحية قبل أن تبدأ.
لن نُحاكم النوايا، ولن نُطلق الأحكام المطلقة، فالدراسة — في نهاية المطاف — عملٌ أكاديميّ موثّق، ومن المهم الاطلاع عليه. لكنها تطرح أسئلة موجعة علينا كأردنيين: هل نريد فعلاً محاربة الفساد أم فقط معاقبة الفاسدين الصغار؟ هل نريد شفافيةً تُطال الجميع، أم استعراضاً يُريح الضمير؟ ربما آن الأوان أن نفهم أن النزاهة ليست حملة إعلامية، بل ثقافة دولة، وأنَّ تنظيف السطح لا يجدي إذا كان العفن في الأساس.
إن مثل هذه الدراسات لا ينبغي أن تُقابَل بالانفعال أو الحساسية المفرطة، بل بالقراءة الهادئة والعقلانية، لأنها تقدم مرآةً علميةً لما نعرفه ونعيشه، ولكن من منظور خارجي محايد. ومن المفيد أن نستفيد من نتائجها، لا لأنّها معصومة عن الخطأ، بل لأنها تضعنا أمام تساؤلاتٍ مؤلمةٍ قد نغضّ الطرف عنها محلياً. فالعلم لا يُعادي الأوطان، بل يمدّها بالأدوات لتفهم نفسها وتُصلح واقعها. وربما آن الأوان أن ننظر إلى مثل هذه الأبحاث كفرصة للتطوير، لا كتهديدٍ للهيبة أو المسلّمات.
ويبقى السؤال المثير الذي يطرح نفسه: ماذا لو كانت هذه الدراسة من تأليف باحث أردني؟ هل كانت ستُستقبل بنفس الاهتمام والهدوء؟ أم كانت ستُقابل بالعواصف، وتُتهم بأنها “تسيء لسمعة الوطن”؟ هذه المفارقة المؤلمة تُظهر حجم الهوة بين نظرتنا للنقد حين يأتي من الخارج، ونظرتنا له حين يصدر من داخل البيت. فإذا كان الغريب يجرؤ على طرح الأسئلة، فلماذا نخاف نحن من الإجابة؟ ألا يجدر بنا أن نمنح لباحثينا المحليين الحرية نفسها التي نمنحها للأجانب حين يكتبون عنا؟
✍️ هذا المقال يستند إلى ما ورد في الدراسة الأكاديمية المذكورة أعلاه، ولا يُعبّر بالضرورة عن موقفي الشخصي من محتواها. إنما الغرض منه الإضاءة على بحثٍ علميٍّ رصين لكاتبَين مرموقَين مختصَّين بالشؤون الأردنية، نُشر في واحدة من أهم المجلات السياسية المحكمة عالميًّا، ليكون مادةً للتفكير والنقاش والوعي.
للاطلاع على الدراسة، انظر الرابط أدناه:
???? https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/13629395.2025.2582243
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: الفساد الصغير مکافحة الفساد
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة: النزاعات الإقليمية تدمر الأنظمة البيئية
حذرت الأمم المتحدة من أنّ النزاعات المسلحة حول العالم، من غزة إلى أوكرانيا وغيرهما، لم تتسبب في موت ودمار واسعين فقط بل أدت إلى تدمير الموارد الطبيعية كأنظمة المياه والأراضي الزراعية والغابات.
وتؤثر هذه النتائج على سبل العيش، وتغذي موجات النزوح وعدم الاستقرار المستمر، بل وتدوم آثارها حتى بعد نهاية القتال. ففي سيراليون، على سبيل المثال، قالت نائبة وزير الخارجية فرانسيس بياجي ألجالي أمام مجلس الأمن: "حين سكتت أصوات البنادق في 2002 بعد عقد من النزاع، سكتت أيضاً غاباتنا الرئيسية وسهولنا. شهدنا فقدان التنوع البيولوجي، وهجرة الحياة البرية قسرًا، وهجر الأراضي الزراعية والمستنقعات، وكلها نتائج مباشرة للصراع المسلح".
تداعيات طويلة الأمد
تتولى سيراليون رئاسة مجلس الأمن الدورية هذا الشهر، وترأست ألجالي جلسة نقاش حول تأثير النزاعات المسلحة على البيئة والمخاطر الأمنية الناتجة عن تغير المناخ. جاء ذلك في وقت يشهد فيه العالم مزيداً من النزاعات المسلحة مقارنة بأي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويعيش فيه مليارا شخص – أي ربع البشرية – في مناطق متأثرة بالصراعات.
وقالت إنجر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: "الأضرار البيئية الناجمة عن النزاعات تواصل دفع الناس نحو الجوع والمرض والنزوح، بما يزيد من حالة عدم الأمان". وأوضحت أن النزاعات تؤدي إلى التلوث والنفايات وتدمير الأنظمة البيئية الحيوية، مما يخلف آثاراً طويلة الأمد على الأمن الغذائي والمائي والاقتصاد والصحة. في الوقت نفسه، "يؤدي تغير المناخ إلى تأجيج التوترات" وقد يسهم في نشوب النزاعات في ما يتعلق بموارد المياه أو الأراضي.
فقدان المحاصيل والتلوث والفيضانات
وأشارت أندرسن إلى أمثلة عدة، منها دمار غزة الذي أدى على مدار عامين من الحرب إلى فقدان 97% من الأشجار المثمرة، و95% من الشجيرات، وأكثر من 80% من المحاصيل الحقلية السنوية. وأضافت: "النظم البيئية للمياه العذبة والبحرية تلوثت بالذخائر، والمياه غير المعالجة، وغيرها من الملوثات، ويجب الآن إزالة أكثر من 61 مليون طن من الركام بحذر لتجنب مزيد من التلوث". أما في أوكرانيا فقد تسبب تدمير سد كاخوفكا في يونيو 2023 في غمر أكثر من 600 كيلومتر مربع من الأراضي بالمياه، ما أدى إلى فقدان المواطن الطبيعية والنباتات والأنواع بسبب الغمر طويل الأمد للأنظمة البيئية.
التحرك القانوني
وخلال اليوم الدولي لمنع استغلال البيئة في الحروب والنزاعات المسلحة، وفي ظل اعتراف متزايد بالحاجة إلى تحرك عالمي. أوضح أستاذ القانون تشارلز جالو، عضو لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، أن هناك جهوداً لتعزيز الإطار القانوني الدولي لحماية البيئة، منها 27 مبدأً اعتمدتها اللجنة في 2022، لتعزيز الحماية البيئية قبل وأثناء وبعد النزاعات، بما في ذلك حالة الاحتلال.
و قدمت ماراناثا دينات من منظمة الإغاثة العالمية رسالة من هايتي، حيث تتضافر آثار التدهور البيئي وتغير المناخ وعدم الاستقرار السياسي، مما يقوض السلام والأمن والتنمية المستدامة. وأكدت ضرورة "تعزيز الروابط بين العمل الإنساني، والتكيف مع المناخ، وبناء السلام" لتعزيز القدرة على الصمود، ودعم التلاحم الاجتماعي، وتحقيق الاستقرار الدائم.
واستعرضت أندرسن سبل دعم المجتمع الدولي للدول المتأثرة بالنزاعات، بدءاً من إعادة بناء قدراتها في إدارة البيئة، ليُمكّن ذلك الحكومات من إدارة مواردها الطبيعية للتنمية المستدامة والتعافي الاقتصادي والتكيف مع التغير المناخي، ما يقلل من الفقر والجوع والاعتماد على المساعدات.
ودعت إلى زيادة الاستثمارات في التكيف المناخي، مشيرة إلى أحدث تقرير حول فجوة الانبعاثات الصادر مؤخراً عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي أكد أن العالم يواجه صعوبة في حصر ارتفاع الحرارة في 1.5 درجة مئوية. وقالت: "بينما نتوجه إلى مؤتمر المناخ COP30 في بيليم، يجب أن نرفع الطموح في كل من التكيف والتخفيف. كل جزء من الدرجة يحدث فرقاً، وكل جزء من الدرجة نتجنب ارتفاعه يعني خسائر أقل للناس والأنظمة البيئية، وفرصًا أكبر للسلام والازدهار"