فوز زهران ممداني صحوة أخلاقية في الضمير الأمريكي
تاريخ النشر: 9th, November 2025 GMT
ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
في مواجهة سيلٍ عارمٍ من الإسلاموفوبيا، ودعايةٍ صهيونيةٍ ضخمةٍ امتدّت من المليارديرات إلى النخب الإعلامية، جاء انتخاب زهران ممداني، أول رئيس بلدية مسلم في تاريخ نيويورك ليؤكد انتصار العدالة وتضامن الطبقة العاملة.
لقد أطلقوا عليه كل ما في جعبتهم من حقدٍ وسموم، من مليارديراتهم الماكرين، وحاخاماتهم الذين يبررون الإبادة، ومروّجي الكراهية من كارهي الإسلام، وصحفهم الصفراء، وقنواتهم المأجورة، وأخبارهم الزائفة، وحساباتهم المبرمجة بالذكاء الاصطناعي على «إنستجرام»، بل وحتى رئيسهم نفسه، ومع ذلك فشلوا فشلًا ذريعًا.
في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية في أكتوبر 2025، نشر عدد من الحاخامات المؤيدين لإسرائيل رسالةً يهاجمون فيها زهران ممداني، ويوضحون فيها أسباب قيادتهم «حملة صليبية» ضد المرشح المسلم الوحيد. كان عنوان رسالتهم، «الأغلبية اليهودية»، أكذوبةً خالصة، ادعاءً زائفًا لا سند له، إذ لا دليل على أن هذه المجموعة من الحاخامات الأثرياء والمتشددين تمثل أغلبية اليهود في نيويورك.
إنها تقنية «هاسبارا» (مصطلح عبري يُستخدم للدلالة على الدعاية الصهيونية) المعتادة، هدفها تشويه صورة الحاخامات الآخرين وجماعاتهم الذين رفضوا الانخراط في حملة الافتراء هذه. بل على العكس؛ فقد دعم عدد كبير من اليهود في نيويورك ممداني، وشاركوا في حملته الانتخابية.
بدأ بيان الحاخامات الصهاينة المتشددين بتناقضٍ منطقيٍ فاضح: «بصفتنا حاخامات من مختلف أنحاء الولايات المتحدة ملتزمين بأمن وازدهار الشعب اليهودي، نكتب بصفتنا الشخصية لنعلن أننا لا نستطيع أن نصمت أمام تصاعد معاداة الصهيونية وتطبيعها السياسي في بلادنا» لكن حين يخاطب الحاخام جماعته، لا يمكنه الادعاء بأنه يتحدث «بصفته الشخصية». هذا التناقض سمح لهم باللعب على الحبلين، فمن ناحية هم يمارسون سلطتهم الدينية لتوجيه الناس سياسيًّا، وفي الوقت نفسه يتظاهرون بالفصل بين الدين والدولة ليستفيدوا من الإعفاءات الضريبية.
لم يكن التناقض المنطقي وحده المشكلة؛ فقد استهدف بيان الحاخامات ممداني عن عمد، لأنه تجرأ على قول الحقيقة، وسماه كما هو؛ إذ وصف ما يجري في غزة بـ«الإبادة الجماعية»، شأنه شأن مؤسساتٍ أكاديميةٍ إسرائيليةٍ نفسها وعددٍ لا يُحصى من الأصوات الحرة حول العالم. أما الحاخامات الذين يدعمون تلك الإبادة ويتمنّون أن يُغمض العالم عينيه عنها، فقد أغضبهم صدقه. وليس جميع الحاخامات كذلك؛ فعدد كبير منهم رفض التوقيع على هذا البيان العنصري المتعصب الذي صاغه متطرفون يتناغمون مع جرائم إسرائيل ضد الإنسانية.
انضم كثير من اليهود إلى آلافٍ من سكان نيويورك الذين دعموا ممداني بفعالية وأسهموا في فوزه، مما أثار غضب الصهاينة المتعصبين أكثر فأكثر.
ما شهدته نيويورك منذ الانتخابات التمهيدية في يونيو لم يكن صراعًا بين اليهود والمسلمين، بل مواجهة بين زعماء يهود يبررون الإبادة في غزة وجماهيرهم المتناقصة من جهة، ومن جهة أخرى الضمير الإنساني العالمي الذي رأى بأمّ عينيه فصول جريمةٍ مستمرة ضد الفلسطينيين.
لقد كانت هذه الانتخابات مقياسًا لتمرد ملايين الأمريكيين على طبقة المليارديرات وحاخاماتهم الذين يسخّرون موارد الولايات المتحدة لدعم جرائم الحرب. فقد خسر هؤلاء جميع أدواتهم: الحاخامات الداعمون للإبادة، وممولوهم الأثرياء، وصحفهم اليومية من نيويورك تايمز ونيويورك بوست إلى فوكس نيوز وسي بي إس نيوز -رغم حملاتهم المسعورة لتشويه المرشح المسلم الوحيد في تاريخ المدينة، إلا أنهم خسروا. خسروا أمام تحالفٍ متنوعٍ من سكان نيويورك يضم طيفًا واسعًا من الطبقات والمعتقدات، من بينهم عدد كبير من اليهود الأحرار الذين استعادوا كرامة ديانتهم من أيدي المتطرفين.
فهؤلاء الحاخامات الصهاينة لا يعترضون على الإبادة ذاتها، بل على تسميتها «إبادة». يريدون أن يكونوا شركاء في ذبح أمةٍ بأكملها، رجالًا ونساءً وأطفالًا، لكنهم يرفضون أن يُقال عن ذلك باسمه الحقيقي. إنهم «يشعرون بالتهديد»، كما يزعمون.
منذ يونيو وحتى نوفمبر، كشف ممداني أمام الرأي العام الأمريكي الآلة الضخمة للإسلاموفوبيا التي يقودها الصهاينة المتطرفون لتشويه صورة ملايين المسلمين الأمريكيين باسم كيانٍ استعماريٍ أوروبيٍ يدعمونه في الشرق الأوسط. ممداني مسلم، وُلد لأبٍ مسلم وأمٍ هندوسية، يدين الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ويرفض نظام الفصل العنصري القائم في إسرائيل.
صرّح بوضوح أنه لو جاء مجرم الحرب الهارب بنيامين نتنياهو إلى نيويورك، فسيتصرف وفق القانون الدولي ويأمر باعتقاله. ورفض الانحناء أمام «المافيا الصهيونية» أو التودد إليها، كما رفض أن يعلن أنه سيزور إسرائيل إذا فاز.
إنه كابوس الصهاينة؛ فقد تآمروا ضده من كبار المليارديرات إلى الحاخامات إلى وسائل الإعلام، ساعين إلى اغتيال سمعته وقتل فرصه السياسية، لكنهم فشلوا، فشلوا لأن الشعب انتصر، ولأن الحقيقة، مهما حوصرت، وجدت من ينطق بها.
في نحو أربعين عامًا قضيتها في نيويورك، لم أشهد موجة كراهية ضد المسلمين بهذه الوحشية منذ أحداث 11 سبتمبر. فالكراهية التي يغذيها الصهاينة المتطرفون اليوم في الولايات المتحدة بلغت ذروتها. إنهم يديرون هذه الآلة، ويستثمرون فيها، وينفخون في نارها، ثم يصرخون «معاداة السامية» كلما انتقد أحدهم المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، بينما يروّجون في الوقت ذاته لكراهية المسلمين.
لكن ما يجب أن يعرفه العالم هو أن قطاعًا واسعًا من اليهود في نيويورك وقف بشجاعة في وجه هذه الحملة الشرسة ضد المسلمين، ففي بيان أصدره عدد منهم جاء: «نحن اليهود، الموقعين أدناه، نؤمن بأن مستقبلنا متشابكٌ مع مستقبل كل جماعة أخرى في هذه المدينة. نعمل جنبًا إلى جنب مع جيراننا لبناء ديمقراطية متعددة الأعراق تمثل الجميع وتتيح لكل إنسان أن يزدهر». هذه هي روح اليهودية الأصيلة وقد استعادت نقاءها بينما كان ممداني يستعد لتولي قيادة المدينة.
الأدلة على وعيٍ يهوديٍ ما بعد صهيوني تتزايد بشكل لافت، ففي بيان آخر مؤثر نُشر خلال الحملة، ورد ما يلي: «بينما يتصاعد كلٌّ من معاداة السامية والإسلاموفوبيا في أمريكا، ندرك أن مصائرنا مترابطة... تُعلّمنا تقاليدنا أن العدالة لا تتجزأ، وأن أمننا الحقيقي لا يتحقق إلا بضمان كرامة وأمن الجميع. وهذا ليس أمرًا استراتيجيًّا فحسب، بل هو أمرٌ مقدّس» إنها بالفعل لاهوت التحرر اليهودي ما بعد الصهيوني وقد تجسّد على أرض الواقع.
ولم يقتصر دعم ممداني في نيويورك على اليهود المناهضين للصهيونية، بل امتد ليشمل إسرائيليين أيضًا. فقد كتبت ليبي لينكنسكي في صحيفة ذا فورورد قائلة: «أنا إسرائيلية أعيش في نيويورك، وهذا سبب تصويتي لممداني. جلس في الصف الأول في الكنيس إلى جانب النائب جيري نادلر والمراقب المالي براد لاندر. حين رحّب بهم الحاخام لاو-لافي، صُفّق لكلٍّ من نادلر ولاندر باحترام، لكن عندما ذُكر اسم ممداني دوّى المكان بالتصفيق. لم يكن مجرد تصفيق، بل عاصفة من الفرح والتحدي، طويلة ومستمرة ومفعمة بالأمل».
بدأ الإسرائيليون يتخيلون أنفسهم في عالمٍ محرر من الأيديولوجيا الإبادية التي خدعتهم لعقود، وها هي نيويورك، ومعها العالم، خصوصًا الفلسطينيين، تفتح ذراعيها مرحبةً بهم.
ورغم كل ما تبثه آلة الدعاية الصهيونية، أصبح ممداني القوة الأكثر توحيدًا في المدينة، بينما تواصل صحيفة نيويورك تايمز صناعة حالة من القلق اليهودي المصطنع تجاهه، فالجماعات اليهودية جزء أصيل من حملته، تحررت من أسر الصهيونية الملطخة بالدماء، واستعادت إنسانيتها ويهوديتها في كنف الإنسانية الجامعة التي تنتمي إليها.
قبل سنوات، كتبت مقالًا بعنوان «لماذا يجب أن يكون المسلمون في طليعة مقاومة معاداة السامية؟». واليوم تتضاعف هذه المهمة أكثر من أي وقت مضى، في نيويورك، وفي العالم كله. نحن حماة إخوتنا وأخواتنا في الإنسانية.
نيويورك مدينة مدهشة بتنوعها، مدينة يتمنى العالم أن يضاهيها -إلى جانب لندن وباريس والقاهرة وإسطنبول وطهران ودلهي وطوكيو ومكسيكو سيتي. ويمثل ممداني فيها الطبقة العاملة من السكان الأصليين والمهاجرين الذين ينهضون كل صباح ليجعلوا هذه المدينة تعمل وتزدهر. لكن نادي المليارديرات، وحاخاماته الصهاينة، وحلفاءهم في الإعلام، والسياسيين الفاسدين التابعين لهم، جميعهم توحّدوا لإسقاط المرشح المسلم، وفشلوا.
فقد اجتمع الناس العاديون، من اليهود والمسيحيين والمسلمين والهندوس، ومن كل أطياف المجتمع، ليقولوا بصوت واحد: نحن من نصنع هذه المدينة، ونحن أصحابها الحقيقيون. نحن ديمقراطيون واشتراكيون في آنٍ واحد، ولا نحمل ضغينة تجاه أحد.
أما الحزب الديمقراطي الفاسد الذي لا أمل في إصلاحه، من تشاك شومر وهاكيم جيفريز إلى جو بايدن وهيلاري كلينتون وباراك أوباما، فقد باع ضميره لـــــ«إيباك» (اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للعلاقات العامة) ولأعلى المزايدين في سوق النفوذ. والمسافة التي أبقاها هؤلاء بينهم وبين ممداني هي نفسها المسافة التي تفصلهم عن جوهر إنسانيتنا وعن فجر السياسة الأمريكية الجديدة.
إن جبن الحزب الديمقراطي وعجزه أمام شجاعة ممداني وابتكاره في التعبير عن الغضب الشعبي الواسع يمثلان نقطة تحول فاصلة بين زمنين في التاريخ السياسي الأمريكي، ما قبل ممداني وما بعده.
في اللحظة الأخيرة، انضم أوباما إلى الجوقة بخبثه المعهود، فاتصل بممداني ليعرض عليه دعمًا شكليًّا وخدماته كمستشار. وعلى ممداني أن يصغي جيدًا لما يقوله أوباما -ثم يفعل عكسه تمامًا.
وأخيرًا، تأتي المفارقة الشعرية العميقة، فمن قلب قسمٍ في جامعة كولومبيا الذي حاول الصهاينة المتطرفون، برعاية ترامب، إغلاقه، يخرج اليوم ابن أحد أبرز أساتذته ليصبح رئيس بلدية نيويورك، مجسّدًا ثمرة ذلك القسم الفكرية والإنسانية.
إنها سخرية كثيفة إلى حد يمكن نحتها على لوحة تجمع وجوه إليز ستيفانيك، وباري فايس، وستيفن ميلر، ومايك هوكابي، وتيد كروز، وليندسي غراهام، ودونالد ترامب، والمليارديرات الصهاينة الذين يقفون خلفهم لإخفاء الحقيقة وتأجيل العدالة.
حامد دبّاشي أستاذ كرسي «هاكوب كيفوركيان» للدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك. من كتبه الحديثة: «مستقبل الوهمين: الإسلام بعد الغرب».
الترجمة عن موقع ميدل إيست آي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی نیویورک من الیهود
إقرأ أيضاً:
عبدالمنعم سعيد: فوز ممداني بمنصب عمدة نيويورك يُعيد تعريف المشهد الأمريكي
أكد الدكتور عبدالمنعم سعيد، الكاتب والمفكر السياسي، أن فوز محمد ممداني بمنصب عمدة نيويورك يمثل ضربة مزدوجة لخصومه.
وقال "سعيد"، خلال حواره على قناة "إكسترا نيوز"، إن ممداني تغلب على الجمهوري وعلى الديمقراطي الذي انشق وترشح مستقلًا، مشيرًا إلى أن هذا الإنجاز يبرز عبقرية ممداني في نسج تحالف أقليات قوي يتجاوز الحزبين.
وأضاف أن ممداني جمع قاعدة شعبية هامشية متنوعة لتهميش النخبة التقليدية، مشيرًا إلى أن هذا النموذج الجديد يعتمد على حشد المناهضين من داخل الحزب الديمقراطي وخارجه، مؤكدًا أن تجربة ممداني تقدم درسًا مدهشًا في السياسة الأمريكية المعاصرة.
وتابع سعيد أن الانتخابات تكشف الانقسام الجغرافي والإيديولوجي العميق، مؤكدًا أن قاعدة ترامب تتركز في الولايات الوسطى والجنوبية الزراعية والصناعية، وهذه المناطق صوتت تحديًا لـ"المؤسسة الشرقية" والنخب الأكاديمية في السواحل.
وأكد أن فوز ممداني يعزز صورة أمريكا المقسمة إلى عالمين، مشيرًا إلى وجود سواحل ليبرالية متقدمة وقلب داخلي محافظ متخلف نسبيًا، وهذا التحدي سيظل يواجه أي إدارة أمريكية قادمة.
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
زهران ممداني عمدة نيويورك ترامب أخبار ذات صلةفيديو قد يعجبك:
قد يعجبك
إعلان
أخبار
المزيدإعلان
عبدالمنعم سعيد: فوز ممداني بمنصب عمدة نيويورك يُعيد تعريف المشهد الأمريكي
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
32 22 الرطوبة: 41% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك