عربي21:
2025-11-09@21:15:43 GMT

السودان المُفكّك.. من القاتل؟

تاريخ النشر: 9th, November 2025 GMT

يقولون إن بريطانيا خاضت حروبها الكبيرة في أوروبا: حرب واترلو مع نابليون (1815م) وحربها مع هتلر(1939م) لأسباب كثيرة، لكن أهم هذه الأسباب كلها، هو منع قيام أوروبا الموحدة! الأمر الذي سيجعل منها لاحقا جزرا معزولة، وسرعان ما سيتم السيطرة على إمبراطوريتها فيما وراء البحار.

سنتذكر أيضا أن بريطانيا كان لها دور في الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1861م، وكانت تساعد الولايات الجنوبية سرا في حرب الانفصال عن الشمال.



ولن ننسى بالطبع موقفها من محاولة محمد على باشا لتجديد شباب الإمبراطورية العثمانية والحفاظ عليها انطلاقا من مصر، ووقفت بصرامة وقسوة ضده، متحالفة مع روسيا والنمسا، لكن الدور البريطاني الذي قاده وزير الخارجية البريطاني بالمرستون، كان له دور أساسي في منع محمد على من تحقيق حلمه الكبير، الذي اختلطت فيه ذات الشخص مع ذات الأمة، في طموح فريد شمل الاثنين معا، ووجد القوة والظرف التاريخي لتحقيقه، لكن بريطانيا كانت له بالمرصاد.. وسعت بكل الحيل خلف معاهدة 1840م، التي تحاصر محمد علي في مُلك مصر والسودان.

وهي.. هي بريطانيا نفسها التي ستقف بمكر شديد خلف تقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى!! فيما تم من تقاسم بينها وبين فرنسا في الاتفاقية المعروفة بسايكس بيكو (1916م)، حيث القوميات الموزعة بخبث شديد، ما يحول دون أن تكون هذه المنطقة الأهم في العالم وحدة استراتيجية واحدة.

* * *

بريطانيا فيما يبدو لديها مشكلة وجودية عميقة في وحدة البلدان المتصلة جغرافيا، قد تكون معاناتها من حالة أوروبا الموحدة بعيدا عنها، وهي الجزر المنفصلة، أوجدت لديها هذا الطابع الذي انطبع به عقلها الاستعماري لاحقا في كل علاقاتها بالأوطان التي تحمل خصائص وحدوية قوية، وتمنحها هذه الوحدة قوة مضاعفة إلى قوتها الأصلية (الهند / مصر والسودان)..

* * *

ما يعنينا هنا هو موقفها من السودان، الذي كان طوال تاريخه تحت حكم التاج المصري بلدا واحدا (مصر والسودان)، بكل عناصر الوحدة الثابتة المستقرة التي اقتضتها الطبيعة الجغرافية والتاريخية في العلاقة بين البلدين شمال الوادي وجنوب الوادي. وسنرى اثنين من كبار القادة والزعماء التاريخيين في مصر الحديثة؛ سعد زغلول (ت: 1927م)، ومصطفى النحاس (ت: 1965م) رحمهما الله، يقفان موقفا صلبا في وجه بريطانيا، طوال فترة الاحتلال البريطاني لمصر، لمنع فصل السودان عن مصر.

وظلت بريطانيا كعادتها تناور وتهادن وتتقدم وتتراجع، إلى أن واتتها فرصتها بعد الحرب العالمية الثانية (1945م) لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، لا ليكون كما كان قبل تلك الحرب، بل ليكون أسوا مما كان عليه بكثير، وحددت لذلك خرائط سياسية تتمركز في قلبها عواصم جديدة بقيادات جديدة تعرف تماما ما هو هذا الشرق أوسط الذي سيكون، وفق نهج مدروس ومخطط له مسبقا؛ ليس فقط لئلا يكون تهديدا للدولة الصهيونية الوليدة، ولكن لئلا يكون تهديدا للمصالح العليا للحضارة الغربية ذاتها.. والهدفان يصبان في إناء واحد على أي حال..

ماذا فعلت بريطانيا في ملف مصر والسودان قبل رحيلها؟

* * *

ضمن خدعة "ليحمل الاستعمار عصاه ويرحل" التي تردد صداها الهوائي الخوائى في أجواء الخمسينيات والستينيات زمنا طويلا، وأسفر عما نراه الآن في عالم العروبة والإسلام، حيث الأحلام الضائعة والتجربة المرة؛ اشترطت بريطانيا لجلائها عن مصر في الاتفاقية الشهيرة بنفس الاسم سنة 1954م؛ أن ينفصل السودان عن مصر، وتحت الشعار الاستقلالي الزائف "حق تقرير المصير".

وهذه أكذوبة كبيرة يستغلون بها جهل العامة من الناس بالمصالح الاستراتيجية الكبرى، ويُدفعون إلى استفتاء تكون نتيجته تأييد الانفصال.. (ولنرَ ونحكم من موقف بريطانيا تجاه أيرلندا واسكتلندا!)، رغم أن طفل الابتدائي بمجرد نظره إلى الخريطة، لا يرى لهذا "الوادي الكبير" الذي يشقه النيل العظيم، إلا أن يكون وحدة واحدة.. ناهيك عن كل العوامل الثابتة من لغة ودين، وتاريخ مشترك، وجغرافيا تفرض كلمتها في صمت مهيب.

* * *

مجرد اشتراط بريطانيا -لتحقيق الجلاء- هذا الفصل اللئيم، مع ما هو معروف في كل تاريخها السابق من تكرار الطلب بإلحاح على الزعماء المصريين السابقين، سيثير ألف شك وشك في أن هناك مصلحة بريطانية هامة في هذا الفصل، والذي يتعارض، بطبيعة التلازم المنطقي، مع مصالح البلدين، بل مع مصالح الأمة كلها وفي القلب منها مصر والسودان بكل خصائصهما الاستراتيجية الجامعة.

وحتى إن جاز قبول فكرة أن الاستقلال عن بريطانيا كان مطلبا عزيز المنال طوال ثمانين عاما، فلنا أن نتساءل عن سبب هذا الإهمال القاسي من نظام ما بعد 1952م لموضوع السودان! لماذا لم يلتف النظام الجديد حول هذا الطلب البريطاني المريب، ويعمد إلى أساليب وأدوات أقوى وأعمق من أساليب السياسة الصاخبة؟

ومصر في الأربعينيات والخمسينيات كانت "البلد الرائد" في المنطقة العربية كلها؛ بأزهرها وتعليمها وعلمائها وفنانيها ومفكريها وشعرائها وأدبائها.. لماذا لم تستفد مصر من هذه القوة التأثيرية الهائلة العميقة، في إبقاء السودان في حضن مصر، وإبقاء مصر في عناق السودان..؟

* * *

أن تقبل شروط خصمك مضطرا لسبب أو لآخر شيء.. وأن تتماهى مع هذه الشروط شيء آخر تماما. وهذا ما فعلته الحكومة المصرية بعد 1952م.. لقد تماهت مع الشرط البريطاني بخصوص السودان، كأنه نابع من المصالح العليا لمصر الثورة والعروبة والوحدة والحلم القومي في "الوطن الأكبر".

والمثير أن الحكومة وقتها ذهبت إلى سوريا تطلب الوحدة، رغم كل العوائق والعلائق المشوبة بالتوتر، وكل الموانع التي تحول بين هذه الوحدة في البقاء والنماء.. وهي أيضا التي سترفض الوحدة مع ليبيا سنة 1969م بعد حركة الرئيس القذافي.. وما ينطبق على السودان أصلا أصيلا، ينطبق على ليبيا بدرجة أقل، وسيكون ظلا ظليلا.

* * *

الملفت للنظر أن البلدين الجارين لمصر، غربا وجنوبا، هما الآن أكثر البلدان عُرضة للتقسيم والتفكك، في سيناريوهات متشابهة إلى حدود التعرية والفضح، والكشف عن أيادي السوء التي تتحرك في داخلها بكل أدوات الأذى والفرقة والضرر ذي الأمد البعيد.

وحسنا فعلت تركيا بحديثها المعلن الصريح مؤخرا عن خطورة ترك السودان هكذا لعبث العابثين، وأتصور أن هناك توافقا مصريا تركيا حول هذا الملف الخطر.

دائما ما يكون الجاني المستفيد من الجريمة محل بحث واستقصاء، والجاني في حالة السودان تحديدا، واضح وتاريخه قديم في جناية" التقسيم والتفكيك والحروب الداخلية، وهو بالطبع يتحرك في خفاء، وعبر وسطاء.

لكن أمور المنطقة بلغت من التكشف والتعري بعد "طوفان الأقصى" ما جعل كل خفاء جلاء.. فلم يبق للأرض من سر تكاتمه، إلا وقد أظهرته بعد إخفاء..

x.com/helhamamy

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء بريطانيا الانفصال مصر تقسيم السودان بريطانيا مصر السودان تقسيم انفصال قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مصر والسودان

إقرأ أيضاً:

بريطانيا ترفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع

بريطانيا ترفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع

مقالات مشابهة

  • كاتب سياسي: السودان يشهد أبشع الجرائم التي سجلت في تاريخ الإنسانية
  • صحف عالمية: هدنة غزة في خطر وسكان الفاشر عانوا الجوع القاتل
  • مانشستر يونايتد ينجو من الهزيمة في الوقت القاتل
  • غارديان: بريطانيا تجاهلت خططا لمنع الفظائع بالسودان
  • تصاعد الاعتداءات على المساجد في بريطانيا خلال 3 أشهر
  • وزير التعليم يطلع اليونسكو على حجم الدمار الذي أحدثته مليشيا الدعم السريع في المباني التاريخية والجامعات وسرقة الآثار
  • بريطانيا: قلقون من التقارير التي تفيد بإطلاق كوريا الشمالية صاروخا باليستيا جديدا
  • بريطانيا ترفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع
  • بريطانيا تحذر مسؤولو الدعم السريع والجيش وتتحدث عن منع وصول المساعدات