العراق… حين تتعب الحضارة من الوقوف
تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT
آخر تحديث: 15 نونبر 2025 - 9:12 ص بقلم:د. نوري حسين نور الهاشمي إن سألوك عن العراق، فقل لهم:
لم يعُد العراق هو العراق الذي نعرفه؛ ذاك الذي كان يمشي في مقدّمة الأمم رافعًا رأسه كمنارةٍ لا تنحني، ولا عاد الفرات نهرَه القديم الذي كان يجري بالعزّة في عروق الأمة ويُعلِّم الأجيال معنى الندى والشموخ.
الفرات اليوم حزين؛ ماؤه نضب، وما تبقّى منه يشبه دمعةً سالت من عين حضارةٍ أرهقها الإنهاك وأثقلتها التبعية، حتى بدا وكأن الأرض نفسها باتت تتنهّد في صمتٍ موجع.
تراجعت ضحكته التي كانت تُنير المشرق في زمنٍ كان العراقي فيه يضحك فيضيء وجه الأمة، وغاب الكبرياء الذي كان يسكن ملامحه، وانطفأت هيبته بين دهاليز القرار الموجَّه من وراء البحار، حيث لا يُسمع لصوته صدى ولا لحلمه أثر.
لقد انكسر العراق، أو كُسِر عمدًا؛ لا بالهزيمة العسكرية التي يراها الجميع، بل بتلك الهزيمة المعنوية التي تتسلّل من أبواب المال والسياسة والإعلام، هزيمةٌ تُشبه السمّ الذي لا يُرى لكنه يفتك بالروح ببطءٍ قاتل.
لم يَعُد القرار يُصنَع في بغداد؛ فبغداد التي كانت يومًا قلعةَ الأسود ومنارةَ المجد التليد، أضحت جحورًا للخفافيش، خفافيش الظلام التي لا تظهر إلا لتنهش ما تبقّى من الضوء. كما هي الحال في القاهرة ودمشق وبيروت، حيث تتقوقع السلطة وتضيع إرادات الشعوب، إلا أن صنعاء بقيت صامدة، تحتفظ لنا بإرثنا المغيب وتذكّرنا بأن جذور الحضارة ما زالت حيّة في قلب الأرض العربية.
وراحت أبراج ترامب تحلّ محلّ منائرها العتيقة، كأنها أشباحٌ عملاقة تسخر من مدينةٍ كانت أمّ المدن، مدينةٍ علّمت الدنيا معنى الشموخ فإذا بها اليوم تقف أمام ظلالٍ غريبة لا تشبهها.
كلّ شيءٍ فيها بات مُصطنعًا؛ القيادة ضائعة، وسافايا يتقلّب في شوارعها يأخذ ما يشاء ويهدم ما يشاء، كأنه الحاكم بلا حاكمية، والآمر الناهي في أرضٍ لم تبقَ فيها للسيادة إلا ذكريات بعيدة.
وجاء سافايا ليُعلّم العراقي – ويا للمفارقة الموجعة – كيف يُدير ثروته، بعد أن غرّد ترامب ساخرًا بأنكم «لا تُحسنون إدارة ثروتكم النفطية». يا لسخرية القدر! أرضٌ صدّرت أول قوانين الإدارة والريّ والزراعة عبر التاريخ، يُملى عليها اليوم درسٌ في كيفية إدارة خيراتها! فالقرار يُصاغ الآن في مجالس العواصم المُترفة، حيث تُقاس الأوطان بمقادير النفط والدولار، لا بتاريخها ولا بأحلام أهلها. وتُختزل حضارة آلاف السنين إلى معادلات مصالح تُكتب بيدٍ لا تعرف حرارة تراب العراق ولا وجع أهله.
وصار “أبو الدنيا” – ويا للمفارقة المرّة – مجرد ولايةٍ رمزيةٍ في إمبراطورية الدراهم، تتحرّك فيها الإرادات بقدر ما تسمح به شهوات الرعاة الجدد ووصاياهم.لم تعد بغداد قبلة الأحرار؛ فالأحرار غادروها واحدًا تلو الآخر، وتركوا خلفهم فراغًا يملؤه المتخاذلون.صارت تفرش السجاد الأحمر لكل جبان، ويتقلب في شوارعها الجواسيس والخونة بكل حرّية، يُكرَّمون على خيانتهم، وتبثّ محطّاتها النفاق والكراهية كأنه خطابٌ رسمي.
صار العراقي غريبًا في وطنه، وأصبح الإرهابي صاحب القرار، أما الدين فلم يعد مبدأً، بل صار وسيلةً سهلة للتسلق والتمويه والوصول، وبابًا خلفيًا للنفوذ والسلطة.وأمّا الشعب – ذلك الشعب الذي كان إذا نطق تغيّر وجه التاريخ – فقد أُخرس اليوم بصخب الدعاية والخوف، حتى بات صمته أعلى من صوته.لم يَعُد العراقي قادرًا على قول ما في صدره؛ أصبح صوته مرهونًا برغيف الخبز، ورغيفه مرهونًا بولاءٍ يُملى عليه، وبانحناءةٍ تُفرض عليه.صار التصفيق طوق نجاة، والاختلاف جريمةً لا تُغتفر.تحوّل الوطن إلى مسرح تُعاد فيه الأدوار القديمة: المأساة نفسها، لكن الممثلين الجدد أكثر براعةً في التمثيل، وأقل شجاعةً في قول الحقيقة.
النخبة الصادقة بين السجون والمنافي، والعقول الحرّة تُطارَد بالتهم الجاهزة، والضمير الوطني يعيش عزلةً تشبه منفى داخليًا تتقطّع فيه الروح على حدود الوطن.وفي المقابل، يُمنح الذل رتبةً، وتُقدَّم الأوسمة لمن يبرع في تزويق العبودية وتسويقها على أنها «حكمة الدولة» و«حنكة القائد».تُقدَّس التبعية باسم الواقعية، وتُباع السيادة على موائد الصفقات باسم الدبلوماسية، حتى صار الخضوع مدرسةً كاملة، وصار بيع الوطن يُبرَّر بعباراتٍ براقة.
لقد غدا العراق اليوم مرآةً تعكس أزمة أمةٍ بأكملها؛ أمة فقدت توازنها بين الكبرياء والخبز، بين الحرية والأمن، بين الصوت والحياة.أمةٌ تخشى على نفسها من كل شيءٍ إلا من موت المعنى.
تخاف من زعل ابن زايد، وابن سلمان، وآل ثاني، وتفرح بابتسامة ترامب، وتُقنع نفسها بأن الانحناء للغريب ذكاءٌ سياسي، وأن السير تحت الظل أفضل من المشي في الشمس.
يا عراق المجد والذاكرة، يا وطن الحرف الأول والدم الأول، كيف صرتَ تقتاتُ على مجدٍ قديم دون أن تصنع مجدًا جديدًا؟كيف استطاعوا أن يقنعوك بأن الذلّ براغماتية، وأن الخضوع حنكة، وأن الاستقلال الكامل رفاهٌ غيرُ واقعي؟
لقد علّمتَ العرب والعالم معنى النهضة، وها أنت اليوم درسٌ مؤلمٌ في سقوط الإرادة، كأنك تتلو على الأمة فصلًا جديدًا من فصول الوجع.أحقًا اقتنعتَ أن مجرد أرقامٍ توافقوا عليها مع سافايا تمثّل رأيك؟ راحوا يصبغونها ويلبسونها لباس «ديمقراطيتهم التوافقية»، وكأن الأوطان تُدار بالأقنعة لا بالحقائق.وأنت – بتاريخك الطويل في الحرية – لا يمكن أن تقبل مسرحياتهم، ولا أن تؤمن بأن إرادة أمة تُختزل في دفتر نتائج مزور؛ فالتاريخ لا يُغلق صفحاته بسهولة، ولا يترك الأوطان لمن لا يستحقها.سينهض العراق، لأن الجذور لا تموت وإن ذبلت الأوراق، ولأن الأرض التي اشتعلت حضارة لا يمكن أن تنطفئ. وعندما ينهض العراق تنهض معه مصر وسوريا ولبنان من جديد.ولأن الفرات – مهما اختنق – سيجد مجراه من جديد، فالنهر لا يعرف طريق الهزيمة.
فكلُّ انكسارٍ فيه يحمل وعدًا بالنهوض،
وكلُّ صمتٍ قاسٍ يسبق صرخةً تعيد للعروبة لحنها الأول.
وسيقول للعالم من جديد:
إن العراق، مهما أُخضِع… لا يُستعبَد.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: الذی کان
إقرأ أيضاً:
تيم ديفي مدير إذاعة بي بي سي الذي أطاح به خطاب لترامب
سياسي وإعلامي بريطاني، وُلد عام 1967 في العاصمة لندن، درس الأدب الإنجليزي في جامعة كامبردج، ثم بدأ مسيرته المهنية في مجال التسويق، وعمل بين عامي 1991 و1993 في شركة "بروكر آند غامبل"، وهي شركة أميركية متعددة الجنسيات.
وقبل بداية مسيرته المهنية خاض تجربة سياسية وترشح لرئاسة البلدية عن حزب المحافظين في بريطانيا، لكنه فشل في حجز مقعده.
ثم انتقل إلى شركة المشروبات الغازية (بيبسي) عام 1993، وهناك شغل منصب رئيس قسم التسويق حتى عام 2005، ثم انضم بعدها إلى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وعُيّن مديرا لقسم التسويق والاتصالات والجماهير، ثم أوكلت إليه إدارة قسمي الصوت والموسيقى عام 2008.
وفي تلك الفترة أسهم في تعزيز انتشار محتوى الهيئة دوليا وزيادة أرباحها التجارية، وفي عام 2012 أصبح المدير التنفيذي الـ17 والأعلى أجرا في تاريخ المؤسسة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2025 أعلن استقالته بعدما ظهرت تقارير صحفية وسُربت وثائق اتهمت هيئة الإذاعة البريطانية بـ"تضليل المشاهدين والتحيز" في بعض القضايا.
المولد والنشأةوّلد تيموثي دوغلاس ديفي يوم 25 أبريل/نيسان 1967 في مدينة كرويدون الواقعة جنوبي عاصمة المملكة المتحدة لندن.
نشأ في كنف عائلة من طبقة متوسطة، فقد كان والده تيموثي جون ديفي بائع نبيذ، في حين كانت والدته أليسيا مارغريت ديفي معلمة وطبيبة نفسية.
أظهر تيم ديفي أثناء طفولته اهتماما بالثقافة والأدب والرياضة، وكان والداه من أكبر مشجعيه على التعلم منذ صغر سنه، لكنهما انفصلا عندما كان في الـ11 من عمره، وهو متزوج وله 3 أبناء.
الدراسة والتكوين العلميتلقى تعليمه الأولي في مدرسة داونسايد الخاصة، قبل أن يحصل على منحة دراسية ويلتحق بمدرسة ويتغيفت المرموقة في مدينة كرويدون الواقعة جنوبي البلاد لمواصلة تعليمه بين عامي 1980 و1985.
وبعد نيله شهادة البكالوريا التحق بكلية سيلواين في جامعة كامبردج البريطانية، وحصل على شهادة في الأدب الإنجليزي، وكان أول فرد من عائلته يلتحق بالجامعة.
في أوائل التسعينيات من القرن الـ20 خاض ديفي تجربة سياسية قصيرة بين عامي 1993 و1994، وترشح عن حزب المحافظين في بريطانيا لعضوية مجلس بلدية هامر سميث وفولهام في لندن، لكنه لم ينجح في الفوز بالمقعد.
إعلانوإلى جانب ترشحه شغل منصب رئيس الجمعية المحلية للحزب، مما أتاح له فرصة إدارة أنشطته على المستوى المحلي وصياغة السياسات الخاصة بالمنطقة.
المسيرة المهنيةوبعد تخرجه باشر مسيرته المهنية بالعمل في شركة "بروكر آند غامبل"، واشتغل في القطاع الخاص بمجال التسويق عام 1991.
وفي عام 1993 بدأ عمله في شركة المشروبات الغازية (بيبسي)، وتدرج فيها إلى أن تولى منصب نائب رئيس التسويق، وظل يشغله حتى عام 2005.
وبعد تركه ذلك المنصب انضم عام 2005 إلى "بي بي سي"، وعُيّن مديرا لقسم التسويق والاتصالات والجماهير، وفي الأول من سبتمبر/أيلول 2008 أوكلت إليه إدارة قسمي الصوت والموسيقى.
وقد أدرجته صحيفة غارديان البريطانية ضمن قائمة أكثر 100 شخصية تأثيرا في الإعلام، بفضل إسهاماته في تطوير "بي بي سي" وزيادة أرباحها التجارية وانتشار محتواها دوليا.
وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 تولى منصب المدير التنفيذي لـ"بي بي سي" بعدما استقال سلفه جورج إنتسويل.
وبذلك، أصبح الرئيس التنفيذي الـ17 في تاريخ هيئة "بي بي سي" والأعلى أجرا في تاريخها.
وفي الفترة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2012 وأبريل/نيسان 2013 تولى ديفي منصب المدير العام بالوكالة لهيئة الإذاعة البريطانية.
وفي أبريل/نيسان 2018 أشرف على شركة الإنتاج "أستوديوهات بي بي سي" التابعة لهيئة الإذاعة بالشراكة مع "بي بي سي ورلد وايد"، وهي المسؤولة عن إنتاج المحتوى حول العالم وتوزيعه وتمويله.
وبين عامي 2018 و2019 كان عضوا في المجلس التنفيذي لاتحاد البث الأوروبي، وفي الوقت ذاته كان رئيس مجلس إدارة مؤسسة "كوميك ريليف" الخيرية البريطانية وعضو مجلس أمناء الجمعية الملكية للتلفزيون.
وشارك حينها برفقة ريتشارد كورتيس وهاري كيتون وتريستيا هاريسون وجيني هودجسون في عدد من المشاريع الخيرية.
في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2025 نشرت صحيفة تلغراف البريطانية تقارير ومذكرة مسربة تتهم إذاعة "بي بي سي" بتضليل المشاهدين والتحيز في بعض قضاياها.
وذكرت الوثيقة أن برنامج "بانوراما" -الذي تبثه "بي بي سي"- عرض وثائقيا بعنوان "ترامب.. فرصة ثانية" ظهر فيه تحرير وتعديل أجزاء من خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أعقاب ولايته الأولى جعلته يبدو وكأنه حرض على أعمال الشغب التي وقعت في مبنى الكابيتول الأميركي عام 2021.
ووفقا لما ذكرته بعض المصادر البريطانية، فإن من سرّب الوثيقة الداخلية هو المستشار المستقل السابق للجنة معايير التحرير في هيئة إذاعة "بي بي سي" مايكل بريسكوت.
تهديدات أميركيةفي المقابل، وجّه ترامب تهديدا إلى هيئة الإذاعة البريطانية وتوعد بمقاضاتها، إضافة إلى المطالبة بتعويض قُدّر بمليار دولار، ووصف التعديل الذي جاء في البرنامج بأنه "توليف مضلل وتشهيري".
وقال فريق ترامب القانوني "إن التعديل والتلاعب في خطاب ترامب كانا متعمدين"، وأعطى "بي بي سي" مهلة من أجل تقديم اعتذار رسمي للرئيس الأميركي.
وبسبب الانتقادات والضغوط أعلن ديفي استقالته من منصبه يوم الأحد 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إلى جانب الرئيسة التنفيذية لقسم الأخبار ديبورا تيرنس.
إعلانكما أوضح الرئيس التنفيذي المستقيل أن "طبيعة المنصب الصعبة والمرهقة" واقتراب موعد تجديد الميثاق الملكي كانا من الأسباب الأخرى وراء استقالته.
وقد تصدرت "بي بي سي" بعد استقالة رئيسها التنفيذي المشهد الإعلامي العالمي، وقالت صحيفة الإندبندنت البريطانية في مقال إن الاستقالة جاءت في وقت حساس، وإن كل ما تعرضت له الهيئة الإذاعية من انتقادات وضغوط أعاد طرح الأسئلة عن استقلالية وشفافية المؤسسة ودورها العام.
الأوسمةحصل تيم ديفي على وسام الإمبراطورية البريطانية "سي بي إي" برتبة قائد عام 2018 تقديرا لخدماته في تعزيز دور الإعلام البريطاني وجهوده بمجال التجارة الدولية.