الحقيقة في زمن الخوارزميات.. الإنسان بين الوعي والأتمتة.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 15th, November 2025 GMT
الكتاب: فلسفة الذكاء والحقيقة في علاقة الانسان بالمدار المعلوماتي
الكاتب: الدكتور عبد السلام الزبيدي
الناشر: سوتوميديا للنشر 2025
عدد الصفحات: 448 صفحة
يكشف هذا الجزء الثاني والأخير من قراءة خاصة كتبها الباحث التونسي عامر عياد خصيصًا لمنصة "عربي21" عن عمق المشروع الفلسفي للكتاب الأخير لعبد السلام الزبيدي، فلسفة الذكاء والحقيقة في علاقة الإنسان بالمدار المعلوماتي (سوتوميديا للنشر، 2025).
يتابع عياد في هذا الجزء تحليل التحول الجوهري لمفهوم الحقيقة من فضاء الأنطولوجيا إلى فضاء الخوارزميات، مستعرضًا كيف أصبح إنتاج الحقيقة اليوم رهينة للمنصات الرقمية، حيث تُقيَّم المعلومات وفق معايير الترشيح، التضخيم، والارتباط، ما يجعل الإنسان أمام مأزق معرفي جديد: هل يظل وعيه مركزًا للحقيقة، أم مجرد تابع لما تفرزه الخوارزميات؟
في هذا الجزء الختامي، يعيد الزبيدي رسم العلاقة بين الإنسان والمعرفة، بين الذكاء والحرية، ليطرح سؤالًا جوهريًا عن مصير الإنسانية في عصر الأتمتة الرقمية.
الحقيقة من الأنطولوجيا إلى الخوارزمية
يشكّل مفهوم "الحقيقة" ذروة الإشكال الفلسفي في مشروع عبد السلام الزبيدي، لأنه يضعه في قلب التحوّل الأكبر الذي أحدثته الرقمنة في البنية المعرفية للعالم. فالسؤال لم يعد: ما الحقيقة؟ وفق التقاليد الفلسفية العريقة، بل أصبح: من ينتج الحقيقة؟ وبأي آليات؟ ومن يملك سلطة تعريفها في زمن المدار المعلوماتي؟
في هذا التحول الجذري، تنتقل الحقيقة من فضاء الأنطولوجيا ـ باعتبارها انكشافًا للوجود ـ إلى فضاء الخوارزمية، باعتبارها منتجًا حسابيًا يُبنى داخل شبكات البيانات. وهنا يظهر المسار الذي يتتبعه الزبيدي:
كيف تهاوت الحقيقة من مقامها الفلسفي والمعرفي إلى وظيفة تقنية تحكمها معايير المنصة الرقمية: الترتيب، الترجيح، التصفية، والانتشار.
أخطر ما يرصده الزبيدي هو أن الحقيقة لم تعد حتى "موضوع نقاش"، بل أصبحت "تأثيرًا". فالحقائق الرقمية تختفي بسرعة، وتظهر أخرى تحلّ مكانها، في دورة لا تسمح بتكوين رأي متماسك.في التراث الفلسفي الكلاسيكي، كانت الحقيقة تُفهم باعتبارها تطابقًا بين الفكر والواقع، أو انكشافًا للوجود، أو اتفاقًا بين العقول السليمة، أو تجليًا للمعنى عبر التجربة. أما في السياق الديني، فقد كانت الحقيقة مرتبطة بالوحي والرسالة والمعنى الأعلى. لكن مع الثورة الرقمية، ظهرت طبقة جديدة من الحقيقة تُسمى “الحقيقة الخوارزمية”، وهي الحقيقة التي يقررها النظام الرقمي عبر عمليات حسابية دقيقة، مبنية على تحليل البيانات وتوقع السلوك. هذه الحقيقة ليست صحيحة لأنها مطابقة للواقع، بل لأنها أقرب إلى ما يمكن للنظام التنبؤ به.
إذن، الحقيقة اليوم لم تعد تُنتج عبر منهج، بل عبر خوارزمية؛ لم تعد تُبنى بالحجة، بل بالبيانات؛ لم تعد نتاجًا للجدل العقلي، بل للمقارنة الإحصائية. وهذا تغيير عميق يجعل الحقيقة الحديثة وظيفة لا قيمة. يُظهر الزبيدي أن أخطر ما في هذا التحول هو انتقال "سلطة الحقيقة" من الإنسان ـ الفيلسوف، العالم، المثقف، المؤرخ، الشاهد ـ إلى المنصة الرقمية. فالذي يحدد ما يظهر وما يُخفى، وما ينتشر وما يُدفن، لم يعد العقل البشري بل "منطق الخوارزمية".
وبما أن الخوارزمية لا تفهم المعنى بل تحسب الارتباطات، فإن الحقيقة التي تنتجها ليست حقيقة بقدر ما هي ترتيب للأولويات وفق مصالح المنصة: الحقيقة الأكثر انتشارًا، لا الأكثر صحة؛ الأكثر تداولًا، لا الأكثر واقعية؛ الأكثر انجذابًا، لا الأكثر تماسكًا.
وتنشأ هنا مفارقة خطيرة: لم تعد الحقيقة تُبحث، بل تُسلّم. لم تعد تُكتشف، بل تُقترح. ولم يعد الإنسان يملك المسافة النقدية لفحصها، لأن الزمن الرقمي يلغي المسافة ويقدّم المعلومة بوصفها “حقيقة جاهزة” لا تقبل التأمل.
ويكشف الزبيدي أن "الحقيقة الخوارزمية" تُنتج عبر ثلاث عمليات رئيسية:
1 ـ الترشيح: حيث تُخفي الخوارزمية كميات هائلة من المحتوى وتُبقي على ما تتوقع أنه أكثر استجابة لمزاج المستخدم.
2 ـ التضخيم: حيث تتحول بعض المعلومات إلى “حقائق كاسحة” بسبب سرعة انتشارها.
3 ـ الارتباط: حيث تُقيّم صدقية المحتوى بناءً على حجم تفاعله، لا على حججه.
من خلال هذه العمليات، تصبح الحقيقة خاضعة للاقتصاد المعرفي أكثر من خضوعها للمعيار الفلسفي. فالحقيقي ليس ما يتوافق مع الواقع، بل ما يحقق أعلى معدل تفاعل، وما يتناسب مع منطق اقتصاد الانتباه. وهكذا تتحول الحقيقة إلى سلعة معرفية تتنافس على مرونة العرض وفعالية الانتشار.
ويتعمق الزبيدي في بيان أن الحقيقة ما عادت تتحدد وفق معايير "الصدق" بل وفق معايير "الملاءمة الخوارزمية": أي مدى انسجام المعلومة مع النموذج التنبؤي.
هذا التحول يمسّ جوهر الوعي الإنساني، لأنه يفرض على العقل أن يتعامل مع الحقائق ليس بوصفها معايير للحكم، بل بوصفها توصيات للانخراط الرقمي.
ولأن الخوارزمية تُعيد تشكيل مسارات التفكير، فإن الحقيقة تتحول تدريجيًا من مفهوم معرفي إلى معطى تقني.
وبهذا، ينشأ شكل جديد من هيمنة المعرفة، لا يعتمد على الإقناع ولا على البرهان، بل يعتمد على "تنسيق الوعي"؛ أي توجيهه دون شعور، من خلال التحكم في ما يظهر وما يُخفى، من يراه ومن يُحجب عنه، وكيف يُقدّم له المحتوى، وكيف يُفهم. هذه الهيمنة تجعل الحقيقة امتدادًا لسلطة المنصة، لا لعقل الإنسان.
إن أخطر ما يرصده الزبيدي هو أن الحقيقة لم تعد حتى "موضوع نقاش"، بل أصبحت "تأثيرًا". فالحقائق الرقمية تختفي بسرعة، وتظهر أخرى تحلّ مكانها، في دورة لا تسمح بتكوين رأي متماسك.
وبقدر ما تنتشر الحقائق، يتراجع أثرها المعرفي، لأنها تفقد سياقها وتعتمد على أثرها اللحظي. وهكذا يولد نمط جديد من الحقيقة: حقيقة سائلة، قابلة للتغير حسب حركة البيانات. وهذا يذكر بقراءة زيغمونت بايومان للحداثة السائلة، لكنه عند الزبيدي يأخذ بُعدًا معرفيًا أخطر: الحقيقة لا تتبدل فقط في معناها، بل في مصدر إنتاجها.
ويختم الزبيدي تحليله بفكرة عميقة: إن الحقيقة في العصر الرقمي لم تعد "مشكلة معرفية" بقدر ما أصبحت "مشكلة سياسية وتقنية"، لأن من يتحكم في الخوارزمية يتحكم في الوعي الجماعي. إنها عودة مقنّعة للمسألة القديمة: من يملك سلطة تعريف الحقيقة؟ لكنها عودة تُمارَس اليوم عبر أنظمة لا تُرى، ولا تُسأل، ولا تُحاسب.
تقييم نقدي للمشروع المعرفي في كتاب "الذكاء والحقيقة في علاقة الإنسان بالمدار المعلوماتي"
يمثّل كتاب عبد السلام الزبيدي إضافة نوعية للمكتبة العربية في مجال الفكر الرقمي، لأنه يتجاوز القراءات التقنية أو التربوية السائدة، ليطرح سؤالًا فلسفيًا عميقًا حول مصير الإنسان في زمن الذكاء الخوارزمي.
ومع ذلك، فإن قوة الكتاب لا تعفيه من مناقشة نقدية تتناول منهجيته وتصوراته ومداخله، وإمكانيات تطويرها.
أولى نقاط القوة في هذا المشروع هي جرأته النظرية؛ فالزبيدي لا يكتفي بوصف تأثير الرقمنة، بل يسعى إلى إعادة بناء مفاهيم كبرى مثل الذكاء، الحقيقة، الذات، الوعي، السلطة، والمعرفة.
هذا التوجه يمنح الكتاب سمة العمل التأسيسي، لأنه يضع أمام القارئ العربي سؤالًا ظل غائبًا طويلًا: هل بقي المفهوم الكلاسيكي للإنسان صالحًا بعد أن أصبح العالم يقوم على الخوارزميات؟
إن طرح هذا السؤال يحرّك النقاش حول مستقبل الوعي والعقل، ويستدعي مراجعة التراث الفلسفي من زاوية جديدة.
بقدر ما تنتشر الحقائق، يتراجع أثرها المعرفي، لأنها تفقد سياقها وتعتمد على أثرها اللحظي. وهكذا يولد نمط جديد من الحقيقة: حقيقة سائلة، قابلة للتغير حسب حركة البيانات. وهذا يذكر بقراءة زيغمونت بايومان للحداثة السائلة، لكنه عند الزبيدي يأخذ بُعدًا معرفيًا أخطر: الحقيقة لا تتبدل فقط في معناها، بل في مصدر إنتاجها.كما ينجح الزبيدي في تجنب النزعة التمجيدية للتقنية والنزعة التشاؤمية الساذجة في الآن نفسه. فهو لا يعادي الذكاء الاصطناعي، ولا ينحاز له؛ بل يعرضه باعتباره مستوى جديدًا من السلطة يحتاج الإنسان إلى وعيه ونقده.
هذه النزعة الاتزانية تمنح الكتاب مصداقية فكرية، لأنه يرى في الذكاء الاصطناعي خطورة حضارية لا تقنية فقط، لكنه يُصرّ على أن الخطر الحقيقي ليس في الآلة بل في تخلي الإنسان عن مسؤوليته المعرفية.
إحدى أهم مساهمات الكتاب تكمن في تفكيكه لمفهوم “الحقيقة الخوارزمية”، وربطه بسلطة المنصة الرقمية.
فالزبيدي يبيّن أن الخوارزمية لم تعد أداة، بل أصبحت بُنية معرفية تتحكم في ما يظهر وما يختفي، وما يعتبر "خبرًا" وما يصبح "حقيقة".
هذه القراءة تضعنا أمام تحوّل عالمي في فهم الحقيقة، يجعل من النقد ضرورة وليس رفاهًا.
كما يضيف تحليل الزبيدي بُعدًا أخلاقيًا مهمًا: إذا كانت الخوارزمية أداة لترشيح الوعي، فمن يراقبها؟ ومن يحدد قواعدها؟ ومن يضمن ألا تتحول إلى سلطة غير خاضعة لأي مساءلة؟ مع ذلك، يواجه المشروع بعض الإشكالات التي تستحق التوقف عندها.
أول هذه الإشكالات هو غياب التفريق بشكل دقيق بين الواقع الرقمي العالمي والواقع العربي المحلي. فالزبيدي يفترض أن المنصات تؤثر بالطريقة نفسها على جميع المجتمعات، لكنه لا يستحضر الفوارق البنيوية بين بيئات المعرفة، ولا تأثير الأمية الرقمية، ولا طبيعة الأنظمة السياسية العربية التي قد توظف الذكاء الاصطناعي بطرق مغايرة جذريًا للمجتمعات الغربية.
إن إضافة هذا البعد كانت ستعطي الكتاب قيمة تفسيرية أكبر، خاصة في ظل تنامي الاستعمال الأمني للرقمنة في بلدان الجنوب.
كما أن الكتاب يعتمد، أحيانًا، على لغة تأملية عالية دون أن يسند بعض أطروحاته بأمثلة تجريبية أو دراسات حالة، رغم توفر هذه المواد بكثافة في الأدبيات الرقمية الحديثة. فلو قدّم المؤلف نماذج مرئية لكيفية عمل الخوارزميات في توجيه الرأي العام، أو في خلق "فقاعات معرفية"، لكان أثر الكتاب التحليلي أقوى، خاصة للقارئ غير المتخصص.
من جهة أخرى، يمكن الإشارة إلى أن إعادة تعريف الذكاء وفق مقاربة وجودية ـ رغم أهميتها ـ قد تجعل الكتاب يميل إلى توسيع مفهوم الذكاء بشكل يصعب ضبطه علميًا.
فالذكاء بوصفه "وجودًا في العالم" مفهوم غني فلسفيًا، لكنه يصطدم بالاتجاهات المعاصرة في علم المعرفة والعلوم المعرفية، التي تحاول قياس الذكاء بشكل دقيق. إن التوفيق بين الرؤية الوجودية والرؤية العلمية قد يمنح الكتاب جسرًا بين الحقلين، وهو ما بقي في مستوى التلميح أكثر من مستوى التركيب.
ومع ذلك، فإن القيمة الكبرى للكتاب تكمن في أنه يفتح الباب أمام قارئه ليطرح سؤالًا وجوديًا حادًا: هل سلّم الإنسان قيادته المعرفية للآلة دون وعي؟ هل أصبح الإنسان “وظيفة” داخل نظام بيانات أكبر منه؟ وما الذي تبقى للإنسان من دوره التاريخي كمصدر للمعنى؟
هذا النوع من الأسئلة هو ما يجعل الكتاب ليس مجرد تحليل فكري، بل صرخة معرفية في وجه تسارع العالم الرقمي، الذي يهدد بتحويل الإنسان إلى كائن تابع للخوارزمية.
إن الزبيدي لا يقدّم حلولًا نهائية ـ وهذه نقطة تستحق التقدير ـ لأنه يدرك أن المشكلة أكبر من أن تُحسم نظريًا. لكنه يقدّم شيئًا أهم: إعادة فتح السؤال الفلسفي حول الوعي والحقيقة والحرية في زمن تحضر فيه التقنية حضوريًا خانقًا.
تقييم نقدي لفلسفة الذكاء والحقيقة في كتاب عبد السلام الزبيدي
يمثّل مشروع عبد السلام الزبيدي محاولة نوعيّة لتوسيع النقاش حول الذكاء الاصطناعي خارج الأسوار التقنية التي حاصرته لسنوات. فالمؤلّف لا يتعامل مع الذكاء بوصفه جهازًا أو برمجية أو بنية هندسية، بل بوصفه أفقًا لتبدّل مفهوم الحقيقة ذاتها، وبوصف "المدار المعلوماتي" ليس مجرد بيئة رقمية، بل حداثة ثانية تُعاد فيها صياغة العلاقة بين الإنسان والمعرفة والوجود. وهذا المنزع الفلسفي يمنح الكتاب صلابته الأولى: أنّه يكشف للقارئ أن المسألة ليست "ذكاءً يصنع آلات"، بل "ذكاءً يعيد إنتاج الإنسان".
إن الزبيدي لا يقدّم حلولًا نهائية ـ وهذه نقطة تستحق التقدير ـ لأنه يدرك أن المشكلة أكبر من أن تُحسم نظريًا. لكنه يقدّم شيئًا أهم: إعادة فتح السؤال الفلسفي حول الوعي والحقيقة والحرية في زمن تحضر فيه التقنية حضوريًا خانقًا.تتجلى قوة الكتاب في قدرته على التقاط تلك اللحظة الفارقة التي تعيشها الإنسانية: لحظة انتقال مركز الثقل من الوعي البشري إلى المعالجة الخوارزمية. ولعل أهم ما يميّز القراءة التي يقدمها الزبيدي هو أنه لا يكتفي بتحليل الذكاء الاصطناعي كظاهرة؛ بل يضعه داخل جدلية كبرى: جدلية الحقيقة. إذ تصبح الحقيقة ـ في منطق المدار ـ معلومة قابلة للتصنيف والضغط والتسريع، بعد أن كانت في فلسفات الوعي سؤالًا وجوديًا مفتوحًا. ومن هنا تأتي أهمية هذا العمل باعتباره مواجهة فكرية مع “استباحة الحقيقة” عبر تقنياتها الجديدة.
غير أن القيمة النقدية للكتاب تتجاوز تشخيص خطر الخوارزميات، لتلامس سؤالًا أكثر عمقًا: هل لا يزال الإنسان قادرًا على أن يكون مركزًا للمعنى؟ في نظر الزبيدي، الخطر الحقيقي ليس أن تهيمن الآلة، بل أن يتنازل الإنسان طوعًا عن ملكاته، وأن ينخرط في نوع من الأتمتة الداخلية التي تجعل وعيه تابعًا لمقولات الجاهزية الرقمية. إن الإنسان، في هذا التصور، مهدّد ليس من الخارج فقط ـ من "آلة تعقل" ـ بل من الداخل: من تسليم إرادته وآفاقه للتدفق المعلوماتي.
ومع ذلك، ورغم قوة التحليل، يمكن تسجيل بعض الملاحظات التي يمكن أن تثري المشروع لو توسّع فيها المؤلف. فالكتاب يقدّم تشخيصًا نظريًا بالغ الجودة، لكنه يميل أحيانًا إلى التجريد الميتافيزيقي الذي يجعل الخطر يبدو شاملاً وكاسحًا دون أن يقدّم أمثلة ملموسة على كيفية اشتغال المدار المعلوماتي في الواقع اليومي: في التعليم، في الإعلام، في السياسة، في تشكيل الوعي الجمعي. كان من الممكن للكتاب أن يستفيد أكثر من تحليل تقنيات التحيّز الخوارزمي، أو دور الشركات العملاقة في صياغة البنى الإدراكية، أو الآليات التي تتحول بها البيانات إلى سلطة.
إضافة إلى ذلك، يضع الزبيدي الذكاء الاصطناعي في إطار صراع بين "الحقيقة" و"المعلومة"، وهو إطار عميق لكنه يحتاج ـ لفائدة القارئ ـ إلى مزيد من التفكيك لمستويات الحقيقة ذاتها: الحقيقة الوجودية، الحقيقة العلمية، الحقيقة الرمزية، والحقيقة الأخلاقية. فليس كل أشكال الحقيقة تُهدَّد بالقدر نفسه، وبعضها ـ كالحقيقة العلمية ـ استفاد من الذكاء الاصطناعي أكثر مما تأذّى.
ومع ذلك، تبقى هذه الملاحظات امتدادًا للمشروع لا تقليلاً من قيمته. فالكتاب يقدّم بوضوح ما يمكن تسميته كتابة إنذارية رصينة، لا تتورّط في التنبؤات الكارثية السطحية، بل تحاول أن تبصر مكامن التحوّل الجوهري دون ضجيج. ومردّ قوته أنه لا يقدّم نصيحة جاهزة أو وصفة للخلاص، بل يذكّر أن المعركة الفكرية في زمن الذكاء الاصطناعي ليست مع الآلة، بل مع نوع جديد من الحقيقة، ومع إعادة تشكيل الوعي، ومع تحديد موقع الإنسان في مداره الجديد.
إن القيمة الأبرز في هذا العمل أنّه يلحّ على أن الإنسان، قبل أن يسأل "ما الذي تفعله الآلة؟"، يجب أن يسأل "ما الذي نكفّ نحن عن فعله؟". فحين يتنازل الإنسان عن ملكاته الكبرى ـ التأمل، النقد، بطء التفكير، إعادة بناء المعنى ـ يصبح المدار المعلوماتي هو السيّد الجديد، ليس لأنه أقوى، بل لأن الإنسان صار أضعف مما يجب.
خاتمة تأملية.. الإنسان بين غواية الذكاء وأصالة الحقيقة
يخرج القارئ من كتاب عبد السلام الزبيدي بشعورٍ مركّب: إحساس بأن العالم يدخل مرحلة معرفية غير مسبوقة، وإحساس مقابل بأن الإنسان مُطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن يعيد اكتشاف نفسه. فالمدار المعلوماتي ليس انقلابًا تقنيًا فحسب، بل منعطفًا وجوديًا يمتحن قدرة الإنسان على البقاء كائنًا ذا معنى، لا مجرّد وحدة ضمن شبكة واسعة من البيانات.
إنّ ما ينجزه الزبيدي في هذا العمل هو أنه يفكّك لنا وهم الحياد التقني. فالذكاء الاصطناعي ليس أداة مساعدة، بل قوة إعادة تشكيل؛ ليس مجرد تسريع للمعرفة، بل إعادة تعريف لما يعتبره الإنسان “معرفة” أصلاً. وفي قلب هذا الانقلاب الهادئ، تتغير شروط الحقيقة نفسها: من حقيقة تُطلب بالتدرّج والبحث والمكابدة، إلى “معلومة” جاهزة تُستدعى بجرّة إصبع. هذا الانتقال لا يهدد المعرفة فقط، بل يهدد ماهية الإنسان بوصفه كائنًا يسعى نحو الحقيقة عبر رحلة عناء وتأمل، لا عبر نقرات سريعة.
ومع ذلك، لا يرسم المؤلف صورة يائسة أو مظلمة. بل يذكّر بأن الإنسان لم يفقد بعد إمكاناته الكبرى؛ وأن الحداثة الرقمية، مهما بدت طاغية، ليست قدرًا مغلقًا، بل مجالًا يتشكل بحسب من يدخله: إنسانًا كان أم خوارزمية. وهنا يبرز جوهر المعركة: ليست المعركة بين الإنسان والآلة، بل بين الوعي والأتمتة؛ بين إنسان يصرّ على أن يفكر، وآخر مستعدّ ليتنازل عن تفكيره بحجة السرعة والفاعلية.
إن الخطر الحقيقي ليس أن تصبح الآلة أذكى من الإنسان ـ فهذا احتمال تقني يمكن التعامل معه ـ بل أن يصبح الإنسان أقلّ توقًا للحقيقة وأكثر ارتياحًا للجاهزية الرقمية. الخطر أن يفقد الإنسان شغفه بالسؤال، وجماليات البطء، وقدرته على التوقف أمام الأفكار قبل استهلاكها. فالمدار المعلوماتي يضع الإنسان أمام إغراء غير مسبوق: إغراء العيش بلا مكابدة معرفية، بلا صراع داخلي، بلا رحلة نحو معنى أعمق. وهنا تحديدًا تكمن إمكانية ضياعه.
ومع ذلك، لا يزال الإنسان يملك ورقته الأخيرة: وعيه. الوعي بمعناه الكثيف الذي يرفض الاختزال إلى بيانات، والذي يرى في الحقيقة أكثر من معلومة، وفي الحرية أكثر من خيارٍ مُبرمج، وفي الذكاء أكثر من قدرة على التحليل والحساب. الوعي بوصفه مقاومة صامتة ضد الانجراف الكامل نحو “أتمتة الوجود”.
إنّ ما يذكّرنا به الزبيدي في نصه، بوضوح وجرأة، هو أن المستقبل الذي ينتظر الإنسان لن يُبنى بما تملكه الآلات من قوة، بل بما يحتفظ به الإنسان من أسئلة. فالسؤال ـ لا الجواب ـ هو جوهر إنسانية الإنسان. وما دام الإنسان قادرًا على طرح سؤال لا تستطيع الخوارزمية أن تُلخصه أو تضغطه أو تتنبأ به، فإنه يظل فوق كل مدار، وأكبر من كل نظام، وأعمق من كل حساب.
وبهذا المعنى، يصبح الكتاب دعوة إلى استعادة الوعي لا إلى رفض التكنولوجيا؛ دعوة إلى تفكير يقظ لا إلى انسحاب رومانسي؛ دعوة إلى بناء علاقة جديدة بين الإنسان والمعرفة، علاقة لا تنكر قوة الذكاء الاصطناعي، لكنّها ترفض أن يُختزل الإنسان في مجرّد مستهلك للمعلومة. إن هذا العمل يضعنا أمام سؤال جوهري: هل نريد أن نصنع ذكاءً يساهم في اتساع إنسانيتنا، أم نتركه يصنع إنسانًا بحجم خوارزمية؟
إن المستقبل ليس مفروضًا علينا، بل مشروط بما نختار أن نكونه اليوم: كائنات تبحث عن الحقيقة ببطء، أو مستخدمين يكتفون بما تفرضه عليهم البيانات من معايير. وفي هذه اللحظة الفارقة، تبدو رسالة الزبيدي بمثابة نداء داخلي إلى استئناف الفكر، لأنّ المعركة القادمة لن تُحسم في مراكز البيانات، بل في داخل الوعي الإنساني نفسه.
إقرأ أيضا: كتاب يفكك المفاهيم المؤسسة للعلاقة بين الإنسان والمعلومة في ما بعد الرقمية
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب الذاكرة السياسية تقارير كتب الكتاب التونسي العرض تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذکاء الاصطناعی بین الإنسان من الحقیقة الزبیدی فی الحقیقة من الحقیقة فی أن الإنسان الحقیقة ت ت الحقیقة هذا العمل ومع ذلک أکبر من جدید من تأثیر ا بل أصبح حقیقة ت أکثر من لکنه ی سؤال ا على أن فی هذا مع ذلک فی زمن لم تعد
إقرأ أيضاً:
مصطفى الحوشي: تطوير الشخصية وزيادة الوعي على رأس أولويات الأكاديمية العسكرية
أكد العقيد دكتور مصطفى الحوشي، بالأكاديمية العسكرية، أن دور الأكاديمية العسكرية لا يقتصر على التدريب العسكري فقط، بل يمتد إلى بناء شخصية الإنسان وتنمية وعيه، مع التركيز على الاستثمار في العقل كأهم عناصر التنمية البشرية.
وقال الحوشي إن الأكاديمية تعتمد معايير واضحة لمدة 6 أشهر لتدريب الطلاب على إدارة الوقت، والانضباط الذاتي، وتطوير الذات دون مقارنات مع الآخرين.
وأوضح أن أحد أبرز التحديات التي تواجه الطلاب هو غياب ثقافة التعلم الذاتي، وهو ما تعمل الأكاديمية على تطويره من خلال برامج التحول الرقمي والدورات التقنية، وتنظيم أنشطة ثابتة لتعزيز المعرفة وتنمية العقل، تشمل ممارسة الرياضة، الاهتمام بالنوم والتغذية، وتنقية وقت المعلومات المضللة.
تنمية مهارات الحوار ومواجهة معوقات التنمية البشريةوأكد الحوشي أن الأكاديمية تركز على تنمية ثقافة الحوار بين الطلاب، وتنظيم زيارات ميدانية لمشروعات التنمية الشاملة، بهدف ربط التعلم بالممارسة الواقعية.
كما تعمل الأكاديمية على مواجهة معوقات التنمية البشرية من خلال تشجيع الطلاب على التفكير العميق وتطوير الأداء الشخصي، والتغلب على الخوف من البداية، وتجنب المقارنة بالآخرين.
الإنسان الواعي صانع التغييروأضاف الحوشي أن الأكاديمية العسكرية مجرد فكرة لبناء الإنسان الواعي القادر على التغيير، حيث يشكل التدريب المستمر في تطوير المهارات العقلية، الفكرية، والبدنية أساسًا لإعداد جيل جديد يمتلك القدرة على الابتكار والمساهمة الفعالة في التنمية الشاملة.