المُحادثة المُهددة بالانقراض!
تاريخ النشر: 16th, November 2025 GMT
في عزاءٍ حضرته الخميس الفائت، توهجت وجوه النساء العجائز المتقابلة بحميميةٍ نادرة، ممتلئة بتعابير وانفعالات لطالما ظننتُ أنّ الزمن اختطفها منا، وجوهٌ حفر العمرُ علاماته وندوبه عليها، لكنها ما تزال تتشبّثُ بتقابض الأيدي وتجاور الأكتاف؛ هناك.. حيث يمكن للإصغاء أن يبلغ أصفى صوره وأكثرها صدقاً، بينما بدت الوجوهُ الشابّة أشدَّ تشتّتاً؛ تدخلُ في محادثةٍ، ثم يخفتُ بريقها حالما يلمعُ ضوء هاتفها!
كنتُ في مسرح التأمل ذاك، أتذكّرُ كتاباً -وللمصادفة- قرأته في الطريق بين مسقط وعزاء القرية، بعنوان: «نهاية المحادثة» لدافيد لوبروتون، ت: أبو بكر العيادي، دار: صفحة 7.
لطالما امتلأتُ بشهية مُراقبة الوجوه، تلك التي تُبطنُ أكثر مما تُبدي ويندحقُ منها شلالُ المعنى لقصص مجهولة. يشير لوبروتون إلى أننا في هذا النوع من التفاعل، يظهرُ «الوجه» كمركز ثقل في كل محادثة. بوساطته يمكننا أن نلتقط إيماءات المحاورين وكلماتهم وأصواتهم، قوتهم وهشاشتهم. فسلوكيات الجسد وحركات الوجه تُغذي المحادثة بأنواع مختلفة من الفهم. فالوجه ليس مجرد جزء كسائر أجزاء الجسد، بل يمثلُ قيمة أصيلة ويمنحُ شعوراً بهوية الآخر وسبيلا لتأسيس الروابط الاجتماعية، «فنحنُ نُعرَف ونُسمّى ويُحكَم علينا، نُنسَب إلى جنسٍ بشري، نُحبّ ونُكره، وتُظَنّ بنا الظنون..كل ذلك بواسطة هذا الوجه»!
وفي الحقيقة لم يسبق للبشر في أيّ زمنٍ مضى، أن خاضوا محادثاتٍ بلا وجوه. فالوجه: وسيط تبادل النظرات والمشاعر، وهو ما يجعلنا في حالة استعداد دائم لالتقاط ردّات الفعل. لكن في محادثاتنا الآن، يغيبُ الوجه، ومع غيابه تتبخّر الدلالات وتضيع المعاني، وهذا ما يجعلنا مُتاحين بصورة مضاعفة لسوء الفهم!
يتساءل لوبروتون: هل يمكن أن نتخيّل بشراً بلا وجوه؟ ألا يعني ذلك ذوبان مفهوم الفرد، وصعود مفهوم «اللا أحد»؟ فإذا افترضنا انمحاء الوجوه، فمن سيتحمّل إذن عواقب الأقوال والأفعال؟ سنغدو مجردَ أجسادٍ مُتشابهة، متروكةً لأحكامٍ اعتباطية. ولذا يؤكد على أنّ: المواقع الاجتماعية تُجسِّدُ انتصاراً للأقنعة؛ فغياب الوجه يُفضي إلى غياب الهوية، ومعه تتداعى الحدود الأخلاقية، فيغدو ممكناً ارتكاب شتّى صنوف الابتزاز دون خشيةٍ من مساءلة أو محاسبة!
في الشارع والمجمّعات التجارية، يبدو الناس اليوم وكأنّهم برؤوسٍ مقطوعة؛ فذلك الانحناء المُرعب فوق هواتفهم، يستنزفُ حضورهم ويُجزّئ وعيهم. يجلسون مع بعضهم في الاجتماعات بنصف عقل، ويفعلون الأمر ذاته في المطاعم وفي لقاءات العائلة. لقد غدا الهاتف جداراً غير مرئي نُفضّلُ جميعاً أن نتوارى خلفه، في حالةِ استلابٍ عبثيّة، «الرؤوس مائلة، النظرات مأخوذة في حالة عماء، والأسماع صمّاء بسبب خوذٍ أو سماعاتٍ تُعمّق العُزلة. غياب الوجه يؤدي إلى إضعاف الحسية»، ويُرافقُ كل هذا تقليصٌ متزايد للرابط الاجتماعي بين الناس!
الانتباهُ المُتشظّي هو ما يَسود لقاءاتنا اليوم. يُخبرنا لوبروتون عن دراساتٍ تشير إلى أنّ عدداً هائلاً من أولياء الأمور يسهرون على أبنائهم وفي أيديهم هاتف! ولهذا يشعرُ الأبناء بالحرمان؛ فهم لا يجذبون انتباه آبائهم وأمهاتهم، بل إنّهم يعجزون حتى عن قراءة الانفعالات التي ترتسم على وجوههم، وكأنّ هذا الهاتف الذكي يطمحُ إلى احتكارنا بالكامل! ويوردُ لوبروتون دراسةً أخرى أُجريت على طلابٍ من المرحلة الإعدادية حتى الجامعة، تقول إنّ تركيزهم لا يكاد يتجاوز ستّ دقائق قبل أن يعودوا إلى هواتفهم مرةً أخرى؛ وكأنّ الهاتف الذكي أصبح امتداداً للجسد، أو على وشك أن يتحوّل إلى جزءٍ من مكوّناته!
يحاول لوبروتون أن يقتفي أثر اختفاء «المحادثة» بين الناس، أن يفهم قيمتها الأنثروبولوجية والأخطار التي قد تترصدها في عالم لم تعد فيه المحادثة تحصل في حضور متبادل، أو ضمن أحاسيس متجانسة، بل في مكان مُسلّع ومُصنع! يبدو محزناً للغاية أن نرى العجائز، من الرجال والنساء، متورّطين في محادثاتٍ مبتورة مع أبنائهم وأحفادهم؛ محادثاتٍ كثيراً ما تُقطَع بانطلاق إشعارات الهاتف، في خرقٍ فجّ لكل الأعراف التي تُؤدّب علاقتنا بهم، «فالعلاقة الرقمية تُرسّخ الغياب الجسدي للمتصلين»، وكأنّ الممارسات التقنية الحديثة هي مزيد من اختفاء الجسد الواقعي!
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
5 دلائل تكشف مقاطع الفيديو المولّدة بالذكاء الاصطناعي
في ظل التطور المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبح من السهل إنتاج مقاطع فيديو تُظهر أشخاصاً يقولون أو يفعلون أشياء لم تحدث في الواقع، فيما يعرف بتقنية «الديب فيك» (Deepfake).
هذه الظاهرة باتت تثير قلقًا واسعًا حول العالم، مع تحذيرات من خطورتها على الأمن المعلوماتي، وسمعة الأفراد، وحتى الاستقرار السياسي.
خبراء التقنية يحذرون من أن هذه المقاطع أصبحت أكثر واقعية من أي وقت مضى، ما يجعل اكتشافها تحديًا كبيرًا أمام المستخدمين العاديين، خاصة مع انتشارها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة قياسية.
ملامح الوجه تكشف الحقيقة
من أبرز العلامات التي يمكن من خلالها كشف الفيديوهات المزيّفة، عدم اتساق ملامح الوجه أثناء الحركة. يقول مختصون في تحليل الوسائط الرقمية إن الذكاء الاصطناعي يواجه صعوبة في محاكاة تفاصيل الوجه الدقيقة عند التعبير، مثل حركة الفم أثناء الكلام أو رمش العينين، ما يجعلها غير طبيعية عند التدقيق.
الصوت لا يتناغم مع الصورة
تشير دراسات صادرة عن مؤسسات بحثية متخصصة إلى أن الصوت في المقاطع المزيّفة غالبًا لا يتزامن بدقة مع حركة الشفاه، كما أن نبرته تكون مسطحة أو خالية من الانفعالات الطبيعية. ويرجع ذلك إلى استخدام خوارزميات تولّد الصوت آليًا دون إدراك الانفعالات البشرية الدقيقة.
الإضاءة والظلال تكشف الخداع
يرى محللون بصريون أن اختلاف الإضاءة والظلال بين الوجه والخلفية من أبرز المؤشرات التي تدل على التلاعب الرقمي. فالمقاطع الحقيقية تُظهر انسجامًا طبيعيًا في توزيع الضوء، بينما تُنتج المقاطع الاصطناعية ظلالًا غير منطقية أو إضاءة متناقضة مع المشهد العام.
تفاصيل الخلفية تكشف التزوير
التركيز على الخلفية قد يساعد أيضًا في كشف الخداع، إذ تظهر أحيانًا تفاصيل ضبابية أو مشوّهة، خاصة في الأجسام البعيدة عن الكاميرا أو الأشخاص المتحرّكين. ويرجع ذلك إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تركّز على توليد الوجه بدقة، على حساب العناصر المحيطة به.
المشاعر الاصطناعية
يشير خبراء علم النفس الرقمي إلى أن الوجوه في المقاطع المزيّفة تفتقد الإحساس الحقيقي. فالتعبيرات العاطفية، كالغضب أو الفرح، تبدو مصطنعة وبلا عمق إنساني. ويعتبر هذا الفارق من أهم ما يمكن ملاحظته لدى المشاهد المدقّق.
تحذيرات متزايدة
تزايدت التحذيرات في الأشهر الأخيرة من استخدام المقاطع المزيفة في حملات التضليل ونشر الشائعات.
وأوصت مؤسسات تقنية دولية المستخدمين بضرورة التحقق من المحتوى قبل تداوله، باستخدام أدوات مخصصة مثل InVID وDeepware Scanner التي تساعد على تحليل الفيديوهات واكتشاف التلاعب فيها.
أخبار ذات صلة