مناظرة قديمة بين آينشتاين وفرويد تشرح الرغبة البشرية في إبادة ذاتها
تاريخ النشر: 26th, June 2024 GMT
الجرثومة البدائية لعنف الإنسان ما زالت تتوالد
تطرح الحرب الدائرة الآن في غزة بما تتضمنه من وسائل إبادة جماعية تمارس أمام أنظار العالم، ربما لأول مرة في التاريخ، أسئلة أخلاقية ملحة، كانت قد سبقتها أسئلة مثيلة مع اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية قبل أعوام قليلة، والتي لا تزال تدور رحاها أيضا بالمناسبة.
ولعل الأدق القول أنها تعيد طرح الأسئلة، التي سبق طرحها مرارا على مر التاريخ؛ لأن الحروب التي يعرفها هذا العالم، مع الأسف، لا يبدو أنها انبثاق لأزمة أخلاقية جديدة بقدر ما هي مؤشر على امتداد آثار أزمات أصيلة في الذهن البشري وسلوكياته.
في تقديمه لكتاب «لماذا الحرب؟» الصادر عن منشورات تكوين، من ترجمة جهاد الشبيني، يشير الناقد والأكاديمي البحريني نادر كاظم إلى مقولة تراثية كاشفة جدا للجرثومة الأصيلة في النفس البشرية، في حوار بين أحمد بن فارس وبديع الزمان الهمذاني.
ونصها: أنه «كتب أحمد بن فارس عالم اللغة المعروف (329-395 ه)، وصاحب معجم «مقاييس اللغة» ذات مرة إلى بديع الزمان الهمذاني يشكو إليه فساد الزمان وتغير الإنسان، فرد عليه بديع الزمان: «أتزعم أن الزمان فسد؟ أفلا تقول متى كان صالحا؟ أفي الدولة العباسية، وقد رأينا أولها وسمعنا آخرها؟» ثم راح هذا الأخير يعدد حوادث الفساد وسفك الدماء والحروب التي اتصلت حلقاتها منذ خلق الإنسان والملائكة تقول: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» (البقرة 30). حتى الدولة العباسية مرورا بالدولة الأموية وما قبلها. الأمر الذي يعني من وجهة نظر الهمذاني «أن الزمان ما فسد، ولكن القياس قد اطرد ولا أظلمت الأيام، إنما امتد الظلام». بمعنى أن الزمان يفسد إذا كان صالحا لكنه لم يكن صالحا قط، بل كان فاسدا من البداية، وما الفساد الذي يتبدد كل حين سوى استمرار الفساد الأول والقديم الذي اتصلت حلقاته وتواصلت، بتعبير نادر كاظم.
أما الكتاب، وهو من ترجمة جهاد الشبيني، فيتناول بالعرض مناظرة جمعت بين عبقري في العلوم ومبتكر نظرية وقانون النسبية العالم الأشهر ألبرت آينشتاين مع أحد أبرز رواد نظريات التحليل النفسي في بدايات القرن الماضي سيجموند فرويد.
المناظرة التي جرت بين عامي 1931 و1932 تكشف بجلاء أن الحرب العالمية التي تسببت في تدمير عدة دول في أرجاء العالم أغلبها في أوربا، وتسببت في مقتل وتشريد ملايين البشر، دقت ناقوس الخطر مبكرا لإعلان أن العالم قد فقد صوابه ويسعى لتدمير ذاته بوحشية غير مفهومة، وأن البشرية، على ما يبدو، لا تفهم شيئا من دروس التاريخ، إذ أننا اليوم بعد ما يناهز المائة عام تقريبا نعيش أجواء شبيهة بشكل أو بآخر.
لكن اللافت أن المناظرة جاءت كمبادرة من عالم عبقري، له معرفة كبيرة بالعلوم، ومن خلال هذه المعرفة العلمية كان قد أدرك أن العلم مع تطوره الكبير كشف عن إمكانيات هائلة متطورة بإمكانها أن تحول الحروب من وسائل للقتال بين فريقين أو أكثر إلى منظومة تدمير تام للبشر، وهو ما تجلى بالفعل بعد سنوات قليلة بعد إطلاق القنبلتين النووتين الشهيرتين اللتين أطلقتهما الولايات المتحدة الأمريكية على كل من هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين واللتين دمرتا المدينتين بشكل مروع، وتأثرت أجيال لاحقة من أثر الطاقة النووية أمراضا وعذابا لا يطاق مما شهدوه. وكشفت حجم الدمار الرهيب الذي يمكن أن يلحقه الإنسان بنفسه إذا فقد النوازع العقلية والأخلاقية.
وربما لهذا السبب تحديدا وقع اختيار آينشتاين على سيجموند فرويد ليكون طرف الحوار أو المناظرة؛ لأن معرفته العلمية بحجم الدمار الذي يمكن أن يتسبب فيه التقدم العلمي، ولد أسئلة عن النوازع النفسية البشرية التي تخلق العداء والكراهية والرغبة في إبادة الآخر التي هي السبب المعلن لكافة الحروب.
كان آينشتاين على معرفة بأن الأسئلة التي تلح عليه، والتي يرغب في إيجاد إجابة لها إنقاذا للبشرية الساعية لحتفها، كان لها صدى سابق لدى فرويد، الذي كان قد انتهى، كما يوضح نادر كاظم في تقديم الكتاب، قبل سنوات قليلة من دعوة آينشتاين من تأليف كتاب «الحضارة وإحباطاتها» والذي ترجم للعربية بعنوان «قلق في الحضارة»، وهو الكتاب الذي شرح فيه نظريته حول التلازم بين الغريزتين الأساسيتين لدى الإنسان: الغريزة الجنسية والغريزة العدوانية، غريزة البقاء، وغريزة الموت والتدمير.
الحرب والديمقراطية
هذه المناظرة التي جرت في شكل رسائل متبادلة نشرت على مدى واسع بين آينشتاين وفرويد، كانت لها أهمية كبيرة في الإشارة إلى عدد من القضايا الجوهرية على المستوى السيكولوجي وعلى المستوى السياسي، وخصوصا المتعلق بقرارات رؤساء منتخبين من جمهور شعبي باتخاذ قرار إبادة جماعية أو حرب، بما يشير، مرة أخرى، إلى كارثة النموذج الديمقراطي، الذي لا يزال يروج له بوصفه النموذج السياسي الأمثل للحكم، بينما يتضمن، في الحقيقة، عوارا كبيرا، وهذا رأيي الشخصي، يتمثل في الحصول على الشرعية الجماهيرية التي يشرعن بها الحكام الديمقراطيون الكثير من القرارات التي لا يقدر على اتخاذها حتى عتاة من يوصفون بالديكتاتورات. لقد كان الرئيس الأمريكي الذي دمر اليابان منتخبا من الجمهور، وذلك الذي تسبب في مقتل آلاف الفيتناميين منتخبا من الشعب الأمريكي، والحاكم الديمقراطي الذي دمر العراق قبل سنوات قليلة منتخبا بشكل ديمقراطي، وأيضا مجرم الحرب الذي يبيد الشعب الفلسطيني أمام العالم اليوم منتخب من جمهور فاشي لا يخجل حتى من إخفاء هذه الفاشية.
سنجد صدى لهذه الأفكار من تعليق كتبه آينشتاين في بداية خطابه وفيه يقول: «إن القادة السياسيين أو الحكومات مدينون بسلطتهم إما لاستخدام القوة، أو لانتخابهم من قبل الجماهير، ولا يمكن اعتبارهم ممثلين للعناصر الأخلاقية أو الفكرية الفائقة في الأمة. وفي عصرنا لا تمارس النخبة المثقفة أي تأثير مباشر على تاريخ العالم. إن حقيقة انقسامها إلى عدة زمر تجعل من المستحيل على أعضائها التعاون في حل مشكلات اليوم ألا تشاطر ذلك الإحساس بأن التغيير يمكن أن يحدث من خلال ارتباط حر للرجال الذين يقدم عملهم وإنجازاتهم السابقة ضمانا لقدراتهم ونزاهتهم؟».
يكشف آينشتاين هنا مسألة جوهرية في قضية الديمقراطية التي تنحي النخب والعقول وتستبعدها في العملية السياسية، وتعتمد على جمهور لا علاقة له بفهم العمل السياسي ولا الأخلاقيات السياسية، مع الأخذ في الاعتبار أن العالم في ذلك الوقت اقتتل بسبب انتخاب شخص أثار نزعة إبادة الآخرين باسم العرق وهو هتلر، وأسس لفكرة النازية التي تسببت في دمار ألمانيا وأوروبا.
من اختلق العدو؟
وبين المسائل الجوهرية الأخرى التي تثيرها المناظرة والتي سيتجلى في كشف الكثير من دوافعها ونتائجها على لسان فرويد تتمثل في فكرة «العدو»، اختلاق البشر لفكرة العدو، ومع الحروب تتحول الكراهية إلى مسألة مضاعفة مرتبطة بالثأر وبالدم. وفي التاريخ المعاصر كم قرأنا عن العلاقات السلبية بين شعوب مختلفة من العالم كانت الحروب قد دارت بين أسلافهم لسبب أو لآخر. فبسبب الحروب يحدث نوع من «الشيطنة الذهنية» وتستمر على امتداد الأجيال.
ويتساءل عن الدور الذي يمكن أن تقوم به عقول ونخب في البحث عن سبل تدعم تثبيط النزعات التدميرية التي تمارس باسم الشعوب تجاه بعضها البعض سواء كان أصحاب القرار من المنتخبين أو ممن يصفهم حصولا على السلطة بالقوة.
«هل التحكم في التطور العقلي للإنسان أمر ممكن في سبيل الصمود أمام الاختلالات العقلية للكراهية والدمار؟ ها أنذا لا أفكر فيمن يطلق عليهم الجماهير غير المثقفة، بأي حال من الأحوال، إذ أن التجربة أثبتت أن النخبة المثقفة هي الأكثر عرضة لأن تذعن لهذه المقترحات الجمعية التدميرية، ذلك أن المثقفين لا يتواصلون مباشرة مع الحياة الحقيقية، بل يتعرفون عليها في أسهل أشكالها الاصطناعية، على الصفحات المطبوعة».
وهو هنا يقدم نقدا لأزمة النخب والمثقفين، في الوقت نفسه بسبب عدم قدرتهم على قراءة الوقائع على الأرض والاكتفاء بالنظريات المتوفرة على صفحات الكتب من دون أدنى قدرة على اختبار حقيقة هذه النظريات على الأرض.
غريزة العدوانيةثم يوجه انتباه فرويد إلى اتساع أو شمولية ما يريد أن يعالجه في موضوع «الآخر» قائلا: ما كنت أتحدث عنه في كل هذه الحروب بين الدول فقط، أي ما يعرف بالصراعات الدولية. بيد أنني أدرك جيدا أن غرائز الإنسان العدوانية تظهر في أشكال أخرى وظروف أخرى. على سبيل المثال الحروب الأهلية التي كانت تنشب فيما سبق بسبب الحمية الدينية، وتنسب الآن بسبب عوامل اجتماعية أو : مجددا، اضطهاد الأقليات الدينية. إلا أن إصراري على شكل الصراع الأكثر نموذجية وقسوة وتطرفا بين شخص وآخر كان مقصودا؛ لأننا نحظى هنا بأفضل فرصة لاكتشاف طرق ووسائل نجعل بها كل التدخلات المسلحة مستحيلة».
وفي تعقيب فرويد على آينشتاين في محاولته المشتركة للبحث عن إجابات عن الأسئلة المهمة التي طرحها والتي جسدت هاجسا مشتركا ليس بينهما فقط بل وبين نخب العالم، اقترح فرويد في تحليله ضرورة البحث في أسباب ما أسماه «العنف»، بالرغم مما أبداه من تشككه من قدرته، بل وربما قدرة آينشتاين نفسه عن الخوض في قضية تبدو كأنها مثار اهتمام وتخصص رجال الدولة قبل غيرهم.
«لقد رأيت أنه لم يطلب مني تقديم اقتراحات عملية، وإنما فقط عرض مشكلة تجنب الحرب مثلما يراها مراقب نفسي. (..) لقد بدأت العلاقة بين الحق والقوة، ولا يمكن أن يكون هناك شك بأن هذه هي نقطة البداية الصحيحة لبحثنا، ولكن هل من الممكن أن استبدل بكلمة «قوة» كلمة أكثر جرأة وقسوة، وهي «عنف»؟ ومما يبدو لنا اليوم فإن الحق والعنف نقيضان. ورغم ذلك، يمكن أن يتضح لنا بسهولة أن أحدهما ناجم عن الآخر إذا عدنا إلى البدايات ورأينا كيف نشأت أولاهما وبهذا تحل المشكلة بسهولة».
يحلل فرويد الأمر بادئا من مملكة الحيوان، التي لا يستثنى منها الإنسان، وفقا له، التي كانت تبدأ بالصراع المباشر بين اثنين أو أكثر معتمدين على قوة عضلاتهما، ثم مع تطور العلم وابتكار الأسلحة استبدلت الأخيرة بالقوة البدنية، لافتا إلى مفارقة أن البشر، على خلاف مملكة الحيوان، يتصارعون على الآراء أيضًا، وهو ما يمكن أن يصل إلى أعلى درجات التجريد وأن يتطلب تقنية أخرى من نوع ما لتسويتها، إلا أن هذا تعقيد يأتي لاحقا.
صراع القوة من الحيوان إلى الإنسان
يقول فرويد أنه في البداية، كانت القوة العضلية الفائقة هي التي تحدد من يمتلك الأشياء ومن تنتصر إرادته، وسط مجموعة صغيرة من البشر، وسرعان ما أصبح هناك مكمل للقوة العضلية واستبدل بها استخدام الأسلحة وصار الفائز من يمتلك الأسلحة الأفضل أو من يبرع في استخدامها بمهارة أكبر. ومن اللحظة التي استحدثت فيها الأسلحة، بدأ التفوق الفكري يحل محل القوة العضلية الفائقة، بينما بقي الغرض الأساسي من المعركة واحدًا: أن يجبر أحد طرفي الصراع الآخر بالتخلي عن مطلبه أو اعتراضه نتيجة تقويض قوته وإضراره، ومن شأن هذا الغرض أن يتحقق تماما، إذا قضى عنف المنتصر على العدو بشكل دائم، بتعبير آخر: قتله. وهو أمر له فائدتان: لن يصبح بمقدوره أن يعارض مرة أخرى وسيردع ذلك الآخرين عن أن يحذوا حذوه، فضلا عن أن قتل العدو يرضي نزعة غريزية سيتعين على ذكرها لاحقا. من الممكن أن تلقى نية القتل معارضة بدعوى إمكانية توظيف العدو في تأدية خدمات مفيدة إذا ترك حيًا في حالة خوف، وفي هذه الحالة يتم إرضاء عنف المنتصر عن طريق إخضاع العدو عوضًا عن قتله، إلا أن هذه أول مرحلة من مراحل الإبقاء على حياة العدو، إذ إن المنتصر سيتعين عليه لاحقا التفكير في رغبة العدو المهزوم، المتوارية، في الانتقام وفي تضحيته بجزء من أمانه الشخصي.
هذا هو أصل الأشياء إذن: سيطرة الأقوى، سيطرة العنف الغاشم أو العنف المدعوم بالفكر. ومثلما نعرف، فقد تغير هذا النظام بحكم تطور الأشياء، وأصبح هناك طريق يقود من العنف إلى الحق أو القانون، لكن ما هذا الطريق؟
فرويد عبر عن يقينه أو إيمانه بوجود طريق واحد، هو الطريق المبني على الحقيقة القائلة بإمكانية مواجهة القوة العليا للفرد الواحد باتحاد عدد من الضعفاء. الاتحاد قوة، يمكن للاتحاد أن يحطم العنف؛ لأن قوة أولئك الذين اتحدوا الآن مثلت القانون، بعكس عنف الفرد الواحد. وعليه، فنحن نرى أن قوة المجتمع، رغم أنه يظل عنفًا على استعداد أن يوجه ضد أي فرد يقاومه، مستخدمًا نفس الوسائل سعيًا وراء نفس الأغراض، إلا أن الاختلاف الحقيقي الوحيد هو أن المنتصر لم بعد عنف الفرد، بل المجتمع. بيد أنه من أجل أن يحدث هذا التحول من العنف إلى العدالة أو إلى الحق المستحدث، يجب أن يتحقق شرط نفسي واحد، وهو أن يكون اتحاد الأغلبية مستقرًا ودائما، ذلك أنه إذا اتحدت الأغلبية من أجل مواجهة الفرد الواحد.
شكوك وأمل
ومع ذلك فقد عبر فرويد عن شكوكه في إمكانية القضاء بشكل تام على النوازع العدوانية لدى البشر النابعة من غريزة تدميرية، وتمثل اقتراحه البديل في «إن الخطة الأكثر وضوحًا ستكون استحضار العدو الشبق ليلعب ضده. إذ يجب استخدام أي شيء يشجع على نمو الروابط العاطفية بين الناس، ضد الحرب. وهذه الروابط من الممكن أن تنقسم إلى نوعين: إما روابط شبيهة لتلك الموجهة ناحية شيء محبوب وإن لم يكن هناك غرض جنسي، ولا داعي أن يحجل التحليل النفسي من التحدث عن الحب في هذا الصدد؛ لأن الدين نفسه يستخدم نفس الكلمات: «تحب قريبك كنفسك»، رغم أن قول هذا أسهل من تنفيذه.
ويمضي في تقديم عدد آخر من الحلول التي يمكن للقارئ العودة إلى تفاصيلها في الكتاب. لكن تبقى إشارة إلى أن تقديم الدكتور نادر كاظم ليس مجرد تقديم بل ومحاولة لتحليل المناظرة بالإضافة إلى إشاراته المضيئة لتوسيع إطار النظر لقضية الحرب وصناعة الكراهية في العالم، مركزًا على فكرة الهوية وعلاقتها اليوم بصناعة الكراهية مشيرا إلى أطروحات مهمة لمفكرين من مثل أمارتيا صن الذي تناول العلاقة بين الهوية والعنف بشكل مفصل وعدد آخر من المفكرين.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هذا هو البابا الجديد الذي يحتاج إليه العالم اليوم... يخلف أهم ثلاثة بابوات
مستلهمين الروح القدس والهاماته، وهو الذي قاد الكنيسة منذ تأسيسها مع القديس بطرس وبعده البابا القديس لينوس وصولًا إلى البابا الراحل فرنسيس، وهو الذي حمل الرقم 266 في تسلسل البابوات، الذين قادوا كنيسة المسيح، "التي لا تقوى عليها أبواب الجحيم"،انتخب الكرادلة المئة والثلاثة والثلاثون، بابا جديدًا، وهو الذي ستلقى على كتفيه مسؤولية كبيرة، خصوصًا أنه سيخلف ثلاثة بابوات من بين أهم البابوات الذين جلسوا على كرسي بطرس، وهم يوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر وفرنسيس، ولكل منهم مميزات وصفات وسمت تاريخ الكنيسة الكاثوليكية بطابع خاص لم تغب عنه ما تركه كل منهم من أثر طبع المسيرة الروحية والايمانية لهذه "الصخرة"، التي بنى السيد المسيح عليها بيعته.فالبابا الجديد انتخب بعد ثلاث جلسات اقتراع، في أسرع عملية انتخابية في تاريخ انتخاب البابوات، وهو الكاردينال الأميركي بريفوست.
البابا يوحنا بولس الثاني
فالبابا القديس يوحنا بولس الثاني عُرف بانفتاحه على العالم، وكانت لزياراته الخارجية الأثر الكبير في إحداث تغيير كبير في الأنماط السياسية، التي كانت متبعة في أكثر من منطقة من العالم، وبالأخصّ بالنسبة إلى بولونيا، البلد الذي نشأ فيه وترعرع، وفيه خبر ما تركته الأنظمة التوتاليتارية من مساوئ، وكيف كانت تُعامل الشعوب التي حُرمت من أقدس ما لديها، وهي حرية الانسان وكرامته، والعيش في سلام وفي ممارسة شعائره الدينية من دون أن يُلاحق ويُعذَّب وتُهان كرامته ويقتل بأبشع الأساليب غير الإنسانية. فكان لتدّخله المباشر في مسرى الأحداث التأثير الفعلي في انهيار حائط برلين وسقوط نظام الاتحاد السوفياتي وعودة الايمان لصفائه إلى الكنيسة الارثوذكسية في روسيا الفيديرالية، وعودة الكنائس لممارسة شعائرها الدينية وطقوسها الايمانية بكل حرية.
فالبابا القديس هو واحد من أقوى عشرين شخصية في القرن العشرين، فهو إضافة الى الدور الذي لعبه في إسقاط النظام الشيوعي في بلده وكذلك في عدد من دول أوروبا الشرقية، لم يتوانَ بالتنديد بـ "الرأسمالية المتوحشة"؛ ونسج علاقات حوار بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الأنغليكانية إلى جانب الديانة اليهودية والإسلامية، على رغم أنه انتقد من قبل بعض الليبراليين لتمسّكه بتعاليم الكنيسة ضد وسائل منع الحمل الاصطناعي والإجهاض والموت الرحيم وسيامة النساء ككهنة، كذلك فقد انتقد من بعض المحافظين بسبب دوره الأساسي في المجمع الفاتيكاني الثاني والإصلاحات التي أدخلت على إثره على بنية القداس الإلهي، ولكسره عددًا وافرًا من التقاليد والعادات البابوية.
كان البابا واحدًا من أكثر قادة العالم سفرًا خلال التاريخ، إذ زار خلال تولّيه منصبه 129 بلدًا. ويكفيه أن التاريخ يحفظ له أول بابا في التاريخ تطأ قدماه مسجدا في بلد مسلم إذ تم ذلك أثناء زيارة البابا لسوريا في ايار 2001. ولا ينسى اللبنانيون تلك الزيارة التاريخية، التي قام بها لبلدهم، الذي وصفه بـ "بلد الرسالة".
البابا بندكتوس السادس
أمّا البابا بندكتوس السادس، فقد اعتبر اللاهوتي الفيلسوف، الذي عقلن اللاهوت، وهو الذي طرح أكثر من سؤال عن معنى الحياة، وتحديات الأزمنة. وقد بدت الإنسانية في عيون البابا الراحل على مفترق طرق، ولذلك رفع صوته الخفيض، عبر كتاباته الفلسفية العميقة، مشدداً على أنه حان الوقت للتفكير والتغيير، وأكد غير مرة برباطة جأش على أن: "هناك الكثير من المشاكل يجب حلها".
وفي سنوات بحثه المعرفي العميق، وضع البابا بندكتوس العالم أمام العديد من التساؤلات المصيرية المضنية، ومن بينها قضية التقدم والمعرفة، وما إذا كانت البشرية تتقدم إلى الأمام أم تتراجع إلى الخلف. ولم يتوانَ عن تكرار تحذيره من من أن مستقبل البشرية، ومصير كوكب الأرض، قد صارا في خطر.
وأخيرً وليس آخرًا وضع البابا بندكتوس أصبعه عند موضع الجرح البشري، وذلك حين أعتبر أن قوة الإنسان الغربي المادية قد بلغت أبعاداً مخيفة، في وقت لم تواكبها فيه، صعوداً، قدرته الأخلاقية، ما من شأنه أن ينعكس في ثمار تقدم خال من أسس أخلاقية.
البابا فرنسيس
أمّا الحديث عن البابا فرنسيس فيطول، إذ شهدت حبريته عدداً من القضايا غير المسبوقة خلال سعيه المتواصل من أجل إجراء إصلاحات داخل الكنيسة الكاثوليكية، والحفاظ في ذات الوقت على مكانته بين المؤمنين المحافظين. فهو الآتي من النصف الجنوبي للكرة الأرضية، في سابقة لم تتكرر منذ أن أُسدل الستار على عهد البابا غريغوريوس الثالث، ذو الأصول السورية، عام 741 ميلادياً. كما كان أول بابا ينتمي إلى الرهبنة اليسوعية على كرسي القديس بطرس.
إلاّ أن رياح الإصلاح التي حملها البابا فرنسيس واجهت تيارات اتسمت بالمقاومة داخل أروقة الفاتيكان البيروقراطية، إذ أظهر، منذ أن تبوأ كرسي البابوية، إصراراً على انتهاج أسلوب مغاير، استهله باستقبال كرادلة الكنيسة بطريقة غير رسمية، واقفاً بين الحاضرين، متخلياً عن الجلوس على الكرسي البابوي، وهو الذي آثر التواضع على الفخامة ومظاهر البذخ، متخلياً عن استخدام عربات الليموزين البابوية، وحرصه على مشاركة الكرادلة في رحلاتهم بالحافلة، فرسم درباً أخلاقياً لرعيته قائلاً: "آه، كم أودّ أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء".
فالبابا الجديد سيكون حتمًا مكمّلًا لما تميّز به البابوات الثلاثة، الذين سبقوه على هذا الكرسي المقدس.
مواضيع ذات صلة رئيس الجمهورية جوزاف عون من روما: وجودي هنا اليوم كرئيس للجمهورية اللبنانية ليس فقط لتقديم التعازي بوفاة البابا فرنسيس بل لأجدد تأكيد الدور الروحيّ والرساليّ الذي يحمله لبنان في هذا العالم Lebanon 24 رئيس الجمهورية جوزاف عون من روما: وجودي هنا اليوم كرئيس للجمهورية اللبنانية ليس فقط لتقديم التعازي بوفاة البابا فرنسيس بل لأجدد تأكيد الدور الروحيّ والرساليّ الذي يحمله لبنان في هذا العالم