لاحظنا أن تاريخ السلطة السياسية لا يحتمل وجود ازدواجية قيادية في صنع القرار لفترات طويلة. وفي بلادنا لدينا نماذج معتبرة في سياق صراع النخبة المدنية - العسكرية حول حيازة النفوذ السلطوي. فقد كان أمام طرف من الشيوعيين أن يطيحوا بالنميري لكنه غلبهم، وفتك بهم بلا هوادة. ولاحقاً حاول النميري نفسه الفتك مرة ثانية بالإسلاميين، ولكن مقادير السياسة أطاحت به وبشريعته، وحلفائه الإسلاميين الذين ورطوه.
ومعظمنا عاصر نهاية الترابي المتحالف مع أبنائه العسكر. إذ مرمطوا به، واعتقلوه، وشتموه، وشككوا في سودانيته. وقال البشير إنه يجوز له شرعاً قتل أميره السابق حتى يدخل بفعله الجنة. تقريباً أحداث كل هذه المباريات بين السلطة والأيديولوجيا اليسارية واليمينية التي دعمتها معشعشة لا بد في بال البرهان. وهو شخص قيل إنه كان كادراً بعثياً أصلاً، ولكنه وشى بمن نسميهم شهداء رمضان الذين أعدمهم الإسلاميون قبل عيد الأضحية ذاك بيوم. ومع ذلك فإن المتأمل ملياً في تاريخ
البرهان يرى أنه لا يعد إنساناً مؤدلجاً كما هو حال العساكر الذين عرفناهم. فوضعه القدري في الجيش قاده لأن يكون انتهازياً يسير على هوى مرؤوسيه الإسلاميين، ويمكنه أن يتمثل أدبياتهم لمرحلة محددة، وأن يتعاون معهم لاحقاً بهدف تمديد حلمه في الوصول إلى السلطة عبر عضويته الانتهازية في المؤتمر الوطني. وذلك ما قد كان. قدر البرهان ثم دبر أنه باستطاعة الإسلاميين أن يكونوا قاعدة خفية له بعد انقلابه على الانتقال الديمقراطي. فقد تعاون معهم، ونقض كل أحكام فترة حمدوك الناشدة لإنجاز الديموقراطية. وفي فترة وجيزة أعاد قائد الجيش الآلاف من الإسلاميين إلى الخدمة المدنية. بل ساعده القاضي أبو سبيحة في تقنين عودتهم، ورد ما عدوه مظلمات ضدهم من لجنة إزالة التمكين. وبحلول شهرين بعد الانقلاب سيطر الكيزان على الخارجية، والمالية، والإعلام وبقية الوزارات، وانتهت فكرة محاكمتهم محلياً، أو تفويجهم للجنائية. ولما فشل الانقلاب بان أن وجود رئيسين في المركب سيغرقه. وأعادت أوضاع الحوار حول الاتفاق الإطاري للأذهان أوضاع فترة الخلاف بين نميري والإسلاميين، وكذلك الأوضاع السابقة للمفاصلة بين الشيخ وحواره. ولذلك حاول البرهان المتعاون مع الإسلاميين بدء "الجهاد" ضد الدعم السريع لتجنيب البلاد من القيادة برئيسين أثناء الانقلاب. ولكن وتيرة
الحرب سارت على عكس توقعات الحليفين الجديدين: سلطة البرهان والإسلاميين المنتمين للمؤتمر الوطني، وجماعات إسلاموية داعشية، وأهمها جماعة البراء. ومع استمرار القتال الضاري تمكن الإسلاميون من الإحاطة بالبرهان الذي وجد عندهم بالمقابل قاعدة بديلة تساعد في القضاء على حليفه السابق حميدتي. وحتى إذا تمكن الطرفان المتحالفان من تحقيق النصر المؤزر في الحرب سعوا للقضاء على تبعات ثورة ديسمبر بأحلامها المشروعة، ومدنييها الثوريين، ودعمها الميمون الذي وجدته من المجتمع الإقليمي، والقاري، والدولي، ومن ثم يستطيع الجيش وحلفاؤه كما هو متصور إعادة السلطة للإسلاميين برئاسة البرهان لمرحلة مؤقتة. ويُصح القول أيضاً بأن إستراتيجية الطرفين المتحالفين تقوم في المدى البعيد على التضاد بدلاً عن الاتفاق على تقاسم السلطة بينهما. ذلك يعني أن في أي مرحلة من مراحل ألحرب - أو لحظة انتهائها - يفترق الجمعان. فالبرهان ماكر في اللعب بالمختلفين بعضهم بعضاً. وحتى الآن اتضح أنه تلميذ جيد للبشير، ويعرف تماماً الاحتفاظ بالكرة في ملعبه المتسخ. ومن الناحية الأخرى لا يطمئن قادة المؤتمر
الوطني للبرهان المتقلب الأطوار. ولذلك فإنهم مجبورون على الوقوف خلفه ما داموا هم الآن أكثر الفئات السياسية استفادةً من الحرب التي أشعلوها. وربما في المستقبل المنظور سيطيحون به عبر عدة سيناريوهات سياسية خشنة، أو خبيثة. كثير من الناس يدركون حتى قبل حديث عبد الحي الأخير أن مصير شهر العسل بين البرهان، وغالب الإسلاميين العسكر من جهة، والمؤتمر الوطني بجانب إسلاميين من الجهة الأخرى إلى زوال. ذلك أثناء الحرب أو بعده، والشواهد كثيرة، وتحتاج إلى شرح وافٍ لا يتحمله هذا الحيز. لكن المهم في كل هذا أن تاريخ الصراع بين قيادتين تسيطران على السلطة السياسية بحكم تحالف أيديولوجي دائماً ما يعيد نفسه مئة بالمئة، أو وقع الحافر على الحافر إلا قليلا. والآن أمام الطرفين فرصة سانحة بعد أن استمعنا إلى حديث عبد الحي الذي يؤمن به معظم قيادة وعضوية المؤتمر الوطني. فإما أن يعجل البرهان بالعشاء، أو يحسن المؤتمر الوطني صنع الغداء. ورغم أن الحرب أولها كلام فلا تكفي فقط المهاترات هنا وهناك بين رموز المتحالفين على خوض الحرب. فنحن بالكاد نحتاج بشدة إلى الاستمتاع بنهاية حقبة البرهان الذي ورطنا في الحرب. وفي ذات الوقت نتوق إلى معايشة غاية الآمال الكيزانية الفاشلة وهي مجسدة أمامنا. ولدي إحساس قوي بأن ليلة السكاكين الطويلة آتية لا ريب فيها لتحقق لنا متعة واحدة، على الأقل.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية:
المؤتمر الوطنی
إقرأ أيضاً:
البرهان يلتقي ممثل الاتحاد الأفريقي ومجلس السلم يدين الحكومة الموازية
أكد ممثل الاتحاد الأفريقي في الخرطوم محمد بلعيش دعم الاتحاد لوحدة السودان واستقراره، خلال لقائه -أمس الثلاثاء- رئيس مجلس السيادة الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان.
وقال بلعيش إنه نقل للبرهان دعم مفوضية الاتحاد الأفريقي لوحدة السودان واستقراره، مبينا أن اللقاء تناول مجمل تطورات الأوضاع في البلاد وكان مثمراً واتسم بالشفافية.
وأشاد ممثل الاتحاد الأفريقي بـ"دحر القوات المسلحة التمرد وإعادة الاستقرار إلى ربوع السودان" داعياً في الوقت نفسه إلى انتهاج الحوار لوقف الحرب وتسوية الخلافات على أرضية اتفاق جدة في مايو/أيار 2023.
واعتبر بلعيش أن تشكيل حكومة مدنية مستقلة ذات كفاءات وطنية خطوة مهمة لتخفيف معاناة أهل السودان، والشروع في إعادة الإعمار لتمكين النازحين واللاجئين من العودة إلى ديارهم.
وأمس، أصدر رئيس مجلس الوزراء السوداني كامل إدريس قرارا بتعيين 5 وزراء ضمن تشكيلته الجديدة "حكومة الأمل" ليرتفع عدد المعينين فيها إلى 20 من أصل 22 وزيرا.
إدانة الحكومة الموازية
من جانب آخر، أدان مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي إعلان قوات الدعم السريع تشكيل حكومة موازية، وشدد على التزام الاتحاد بسيادة ووحدة وسلامة أراضي جمهورية السودان.
وطالب المجلس الأفريقي -في بيان- دول الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي بـ"رفض تقسيم السودان وعدم الاعتراف بما يسمى الحكومة الموازية" التي تشكل تهديداً بالغاً لجهود السلام ولمستقبل البلاد.

الاتحاد الأفريقي يؤكد دعم وحدة السودان ويدعو لرفض الاعتراف بالحكومة الموازية (مجلس السيادة)
وشدد على أن الاتحاد الأفريقي لا يعترف إلا بالمجلس السيادي الانتقالي والحكومة المدنية الانتقالية المشكلة أخيرا، وذلك إلى حين التوصل لترتيبات توافقية تُلبي تطلعات الشعب السوداني.
ودعا المجلس إلى إعلان وقف فوري ودائم وغير مشروط لإطلاق النار، والعودة إلى طاولة المفاوضات، يليها حوار وطني شامل وانتقال سياسي، مشددا على عدم قابلية الحل العسكري للصراع في السودان.
إعلان
كما رفض جميع أشكال التدخل الخارجي بالسودان، مطالبا بوقف الدعم العسكري والمالي للجهات المتحاربة في البلاد.
والسبت، أعلن "التحالف السوداني التأسيسي" تشكيل "مجلس رئاسي لحكومة السلام الانتقالية" برئاسة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي".
ومن جانبها أدانت الحكومة والجيش السودانيان هذا الإعلان، ووصفا ما صدر عنه بـ"الحكومة الوهمية".
ويمثل الإعلان أحدث خطوة يقوم بها "الدعم السريع" لإقامة حكم مواز، في تحد للإدارة التي يقودها الجيش ويدفع نحو مزيد من الانقسام في البلاد التي تشهد حربا دامية.
وتخوض قوات الدعم السريع بقيادة "حميدتي" -منذ 15 أبريل/نيسان 2023- حربا ضد الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان.
وأسفرت الحرب عن مقتل عشرات آلاف الأشخاص وأكثر من 13 مليون نازح ولاجئ، وأغرقت البلاد البالغ عدد سكانها 50 مليون نسمة في أزمة إنسانية حادة، بحسب الأمم المتحدة التي تشير إلى انتشار المجاعة تدريجيًا.