تشكل الحشرات حوالي 40% من جميع الكائنات الحية، ويتم قتل الكوادريليونات منها بالمبيدات الحشرية حول العالم، وفي هذا السياق انقرضت العديد من أنواع الحشرات، الأمر الذي دفع بفريق من العلماء للبحث في طبيعة العالم الداخلي لهذه الكائنات، هل تشعر بذاتها؟ وهل يمكنها فهم الألم والشعور به؟
كانت واحدة من الباحثات اللائي اهتممن بالأمر هي تيلدا جيبونز، وهي عالمة أميركية درست الألم المزمن باستخدام الفئران كنموذج بحثي للتجارب، وقبل عدة سنوات خططت لدراسة الألم لدى النحل، فقامت بتجهيز ساحة بلاستيكية تحتوي على نوعين من طعام النحل، أحدهما كان ساخنا بوضوح (مثل كوب الشاي).
كان هدف التجربة هو قياس قبول النحل لأخذ الغذاء الساخن، حتى لو كان يحتوي على كمية سكر أكبر، النتيجة كانت اختيار النحل للطعام البارد، إلا في حالات قليلة، حينما كانت نسبة السكر أكبر بفارق كبير في الطعام الساخن.
لكن حتى في تلك الحالة، حاول النحل تجنب السخونة قدر الإمكان، مما جعله يستوفي معيارا واحدا على الأقل من المعايير التي تم تطويرها "لقانون الإحساس"، وهي أن الحيوان قد يكون واعيا إذا استجاب لـ "التنازلات التحفيزية"، بمعنى أنه قد يتخذ قرارا بمغامرة مع شيء يسبب الألم، لكن في حدود عدم الضرر الكبير، والحصول على مكافأة مجزية.
إعلانإلى جانب ذلك، قامت جيبونز وفريقها بتقييم ما إذا كان النحل يلبي معيار قانون الإحساس المسمى "السلوك المرن للحماية الذاتية". فعندما يصطدم شخص بمرفقه، قد يفركه كمحاولة لتخفيف الألم، حيث وجدت أن النحل كان أكثر ميلا إلى تنظيف الهوائيات الخاصة به إذا ما تعرض للسع.
يشير قانون الإحساس عادة إلى التشريعات التي تهدف إلى الاعتراف بحساسية الحيوانات وبالتبعية حمايتها، والاعتراف بقدرتها على تجربة مشاعر مثل الألم والمتعة والعواطف.
وفي حين لا يوجد "قانون إحساس" عالمي، فقد سنت بلدان مختلفة أو تدرس قوانين ذات أهداف مماثلة، تهدف هذه القوانين إلى دمج مفهوم الإحساس في عمليات صنع القرار، وضمان معاملة الحيوانات بأخلاقية وإنسانية.
أظهرت الدراسات في هذا النطاق أن الحشرات لديها مستقبلات للألم ترسل إشارات إلى أجزاء من دماغ الحشرة، وظهر ذلك في حشرات عدة مثل الذباب البالغ والبعوض والصراصير والنمل الأبيض، ولكن تلك الحشرات استوفت في كل مرة مجموعة من معايير قانون الإحساس، ولكن ليس كلها.
هذا التطور العلمي الأخير يأتي بعد إجماع قديم للعلماء حول عدم شعور الحشرات بالألم، وفي مقالة نشرتها مجلة "ساينتفك أميركان" في عام 1927، وصف عالم الحشرات الأميركي هارولد باستن تجارب قطعت خلالها الأجزاء الأمامية من رؤوس النحل الطنان.
وقد نشرت أحد أكثر الأوراق العلمية تأثيرا في هذا الموضوع، بعنوان "هل تشعر الحشرات بالألم؟"، في عام 1984، بقلم سي إتش آيزمان، عالم الحشرات الأسترالي في جامعة كوينزلاند، وعدة مؤلفين مشاركين. وبعد مسح للبحوث السابقة في علم الأعصاب وسلوك الحشرات، كتب المؤلفون أن الحشرات من غير المرجح أن تشعر بالألم.
أما الآن، فإن العلماء يشيرون إلى أن كل حيوان قادر على إدراك الألم، بالطريقة نفسها التي نفعل بها ذلك، فعندما تلمس شيئا ساخنا ترسل الخلايا العصبية في أطراف أصابعك إشارة إلى أعلى الحبل الشوكي إلى دماغك، الذي يسحب يدك للخلف قبل أن تشعر بأي شيء على الإطلاق.
إعلانلكن يظل الجدل قائما بين الباحثين حول الشعور الذاتي بالألم، أي تجربة المعاناة التي تكون أكثر تعقيدا من اللسع مثلا، وهنا نقصد تجربة الوعي، أي شعور الكائن الحي بذاته الداخلية، وأنه هو من يشعر بالألم ويتخذ قرارا بالهرب أو الاستمرار في الكفاح لأجل الحصول على الغذاء.
يظل الوعي في الكائنات الحية الأخرى مشكلة عصية على الفهم، ولكي يكون الشيء واعيا فإنه يجب أن يمتلك تجربة ذاتية كما يشير الفيلسوف الأميركي توماس ناجل في ورقة بحثية واسعة الشهرة نُشرت في السبعينيات من القرن الماضي بعنوان: "ماذا يعني أن تكون خفاشا؟".
يقول ناجل في ورقته إن امتلاك أجهزة قياس عصبية مختلفة متنوعة متقدمة تحاول فهم طريقة إدراك الخفاش لذاته وللعالم لن يشرح أبدا ماذا يعني أن يكون الخفاش خفاشا، تلك هي تجربة ذاتية بالكامل لا يمكن اختبارها إلا في الخفاش وعن طريق الخفاش، وأن محاولاتنا تلك وإن كانت مفيدة جدا فإنها ليست إلا محاولات لإسقاط وعينا نحن البشر على الخفاش.
قوانين للحشراتتأتي هذه النتائج في سياق مهم، يتعلق بطريقة التعامل البشري مع الحشرات، وفي سياق أكثر عمومية، يتضمن انقراض الكثير من أنواع الكائنات الحية فيما يسميه العلماء "بالانقراض السادس"، والسبب الرئيسي فيه هو النشاط البشري، سواء عبر الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية أو تلويث الكوكب أو التغير المناخي.
وفي هذا السياق، يكون الاعتراف بأن الكائنات الحية التي تظهر علامات الشعور والإحساس (مثل الألم أو السعادة) مهما لبناء قوانين على النطاق المحلي أو الدولي تؤكد أن تلك الكائنات تمتلك حق الحماية من الإساءة والإهمال، وبالتالي تطوير قوانين تحظر التسبب في ألم أو معاناة للكائنات الحية إلا إذا كان ذلك ضروريا للبقاء أو لحماية البشر أو البيئة.
إلى جانب ذلك فإن هذا الإقرار يعني ضمان توفير الغذاء والماء والمأوى والرعاية الطبية للحيوانات كلها والحشرات على وجه الخصوص، وكذلك استخدام البدائل غير الحيوانية في البحث العلمي كلما كان ذلك ممكنا، وتقليل الاعتماد على التجارب المؤلمة، وضمان أن تجارة الحيوانات أو صيدها أو استخدامها في الأنشطة الترفيهية تتم وفقا لمعايير تضمن رفاهيتها وسلامتها.
إعلانوتسعى بعض الدول بالفعل، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، لتطوير قوانين أكثر حزما في التعامل مع الحشرات، تتضمن دمج المعرفة العلمية القائمة حول شعورها بالألم في مسببات تلك القوانين.
أخلاقيات الحشرات في الثقافة الإسلاميةويبدو أن الثقافة الإسلامية قد وجدت حلولا لهذه المشكلات بغض النظر عن المنجزات العلمية ودورها في تغيير قوانين بعض الدول، حيث ورد ذكر بعض الحشرات بالاسم في القرآن الكريم، فمثلا قال تعالى في سورة النحل: "وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ".
وهناك بالطبع حديث النبي سليمان عليه السلام مع الهدهد وقصته مع النمل، حيث قال الله تعالى في سورة النمل: "حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"، وردا على هذا الموقف تبسم النبي سليمان عليه السلام ضاحكا من قول النملة، متأثرا بحكمتها وحسن تدبيرها، وشكر الله على نعمه.
بسبب ذلك، كانت نظرة الشريعة الإسلامية للحشرات دائما متوازنة، حيث جاز قتل الحشرات الضارة التي تسبب أذى مباشرا للإنسان، مثل البعوض والبراغيث، لكنها كانت أيضا وسيلة لإظهار قدرة الله، ونموذجا يتعلم منه الإنسان، ولأنها جزء من البيئة، التي يطالب الإنسان بحفظها والتعامل معها بحرص.
ولأنها ظهرت في النص القرآني كمتحدثة واعية بمحيطها، فإن ذلك يُمظهر الكائنات الحية الأخرى في هذا العالم كشريك، لا كمورد فقط لنحصل على ما نريد منه، ثم لا نهتم بمصيره.
وربما تكون وجهة النظر تلك هي ما يحتاجه العالم المعاصر للتعامل مع هذه القضية، والواقع أن جملة الكوارث البيئية التي نختبرها حاليا نابعة من التعامل مع عالم الحيوانات على أنها "مجرد شيء" بلا وعي أو حاجة للاهتمام بمتطلباته.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الکائنات الحیة فی هذا
إقرأ أيضاً:
علماء يبتكرون علاجًا مشتقًا من نبات يشبه الصبار لتخفيف آلام السرطان المستعصية
في إنجاز علمي بارز، أعلن باحثون من المعاهد الوطنية للصحة (NIH) في الولايات المتحدة الأمريكية عن نتائج أول تجربة سريرية لعقار جديد مشتق من نبات يشبه الصبار، يُعرف باسم الريزينيفيراتوكسين (Resiniferatoxin أو RTX)، والذي أظهر نتائج واعدة في علاج الألم المزمن الناتج عن السرطان، خاصة لدى المرضى الذين لم يستجيبوا للعلاجات التقليدية، بما في ذلك المسكنات الأفيونية.
علاج موضعي طويل المفعول لآلام السرطانأوضحت الدراسة أن المرضى المصابين بسرطان في مراحله المتقدمة، والذين لم يتمكنوا من السيطرة على الألم باستخدام الأدوية التقليدية، تلقوا حقنة واحدة من RTX في السائل النخاعي القطني.
بعد إصابة بايدن.. ماذا تعرف عن سرطان البروستاتا؟ دراسة: التورين قد يغذي أنواعًا من سرطان الدم ومشروبات الطاقة تحت المجهر
وأظهرت النتائج انخفاضًا بنسبة 38% في شدة الألم القصوى التي أبلغ عنها المرضى، وتراجعًا بنسبة 57% في استخدام المسكنات الأفيونية، مما مكّن المرضى من استعادة جزء من حياتهم اليومية والتواصل مع أحبائهم دون الحاجة إلى التخدير المستمر.
يعمل RTX عن طريق استهداف مستقبلات TRPV1، وهي قنوات أيونية مسؤولة عن نقل إشارات الألم والحرارة إلى الدماغ.
وعند تفعيل هذه القنوات بواسطة RTX، يحدث تدفق مفرط للكالسيوم داخل الألياف العصبية، ما يؤدي إلى تعطيل قدرتها على نقل إشارات الألم دون التأثير على الحواس الأخرى مثل اللمس أو التذوق أو التوازن.
هذا النهج المبتكر يوفر تخفيفًا للألم بشكل موجه ودقيق، دون آثار جانبية مثل الإدمان أو الشعور بالنشوة الذي تسببه المسكنات الأفيونية.
لم تقتصر إمكانيات RTX على علاج آلام السرطان فقط، إذ يرى الباحثون أن هذا العلاج قد يكون فعالًا أيضًا في إدارة أنواع أخرى من الألم المزمن، مثل:
آلام الأعصاب.
آلام ما بعد الجراحة.
آلام الوجه المزمنة.
وتكمن ميزة هذا العلاج في كونه غير إدماني، ولا يسبب أي شعور بالنشوة، مما يجعله بديلًا آمنًا وفعالًا للمسكنات التقليدية، خاصة للمرضى المعرضين لمخاطر الإدمان أو الذين يعانون من آثار جانبية خطيرة بسبب الأدوية الحالية.
خطوة نحو الطب الشخصي في علاج الألمأكد الدكتور مايكل إيدارولا، الباحث الرئيسي في الدراسة، أن استهداف الأعصاب المحددة باستخدام RTX يمثل تطورًا مهمًا في مجال الطب الشخصي، حيث يمكن للأطباء تخصيص العلاج وفقًا لطبيعة الألم ومصدره لدى كل مريض على حدة، مما يعزز فرص السيطرة على الألم بشكل أكثر دقة وكفاءة.
نُشرت الدراسة في مجلة NEJM Evidenceتم نشر نتائج هذه الدراسة في مجلة NEJM Evidence، مما يبرز أهمية هذا الاكتشاف العلمي في تطوير طرق علاجية جديدة لإدارة الألم المزمن، خاصة لمرضى السرطان في مراحله المتقدمة.
ومع استمرار الأبحاث والتجارب السريرية، يأمل العلماء في أن يُحدث هذا العلاج تحولًا جذريًا في مجال الطب التداخلي وإدارة الألم، ويمنح الأمل للمرضى الذين لم يجدوا راحة من العلاجات التقليدية حتى الآن.