عصارة الفكر القديم.. مواقف من الواقع وسجل حافل بالعبر
تاريخ النشر: 9th, January 2025 GMT
في مدرسة الحياة ثمة دروس لا تنسى، ومع ذلك هناك أيضا أشياء تدفن في مقبرة الذاكرة إلى الأبد، تبلى العظام، وتنصهر الأحداث في محرقة الذاكرة، كل هذا وذاك ينبع من منطلق «أن لا شيء يمكن أن يبقى على حاله حتى وإن طال الزمن»، فالأحوال تتغير والأحداث تتجدد لحظة بأخرى، هكذا تعلمنا في الدرس الأول لنا في مرحلة الوعي بمدرسة الحياة.
نتحدث كثيرا عما تعج به صفحات السابقين لنا في هذه الدنيا، أحيانا نراها أكثر إشراقا من الحاضر رغم صعوبتها، لكن ما أن ننعم النظر جيدًا حتى نكتشف بأن الماضي هو الذي أسس لنا الحاضر، ولذا تفتخر الأمم بأنها تبدأ مما انتهى به الآخرون.
جلنا يردد المقولات الرائعة والحكم المنمقة، في كثير من الأحيان نستفيد من تجربة الماضي؛ لأنها تعلمنا الدرس الجديد لنا في الحياة، فخبرات السنين تكشف لنا الصورة الكاملة في بعض الأشياء التي يمكن أن تكون منعطفًا مهمًا لنا سواء في مرحلة القوة أو الضعف، لذا نحن لا نستهين أبدا بعصارة الفكر القديم وبتجارب السابقين.
علميا وعمليا، محاولة إحصاء الدروس الماضية أمر بالغ الصعوبة وربما من المستحيلات؛ لأن مجالات الحياة متشعبة، لكن الشيء الراسخ أمامنا هو ما قاله المفكرون والفلاسفة والنوابغ من البشر في شأن الحياة وما فيها من بحر واسع يعطينا نظرة شمولية لوضع الإنسان وقيمته سواء في مجتمعه أو المجال الذي يعمل فيه.
والإنسان أينما وجد فهو ابن بيئته «حقيقة لا جدال فيها»، أما نتاج فكره وإنجازاته فهي للعالم ويستفيد منها البعيد والقريب، ومن أدق التفاصيل والدروس التي تعلمنا الحياة إياها أننا مهما وصلنا من المكانة والرفعة نظل بحاجة إلى استكشاف العالم واستخراج الدروس المستفادة من كل تجربة حياة نخوضها كل يوم.
علينا أن نقرأ لكي نفهم ما يدور في هذا العالم، وما فيه من أسرار يصعب علينا معرفتها بسهولة، وإذا كان لدينا بعض المعرفة فإننا نؤكد على المعلومة التي وصلتنا بشكل دقيق، أما إذا كنا نجهل المعلومة فعلينا أن نكشف عن وجهها اللثام فنتعلم شيئًا جديدًا، لذا يظل الفكر الإنساني يعج بالكثير من الحقائق التي تقدمها له التجارب الخالدة عبر الزمن، وما نتعلمه اليوم لا شك بأننا سنحتاج إليه غدا.
في بعض الحوارات الثقافية وحتى السياسية والاقتصادية، يتعمد المحاورون والضيوف ذكر بعض المقولات القديمة التي توصف الحالة التي يذهب هو وغيره للحديث عنها في ذلك اللقاء، ومن هنا أرى أن التمعن في لملمة هذه التجارب على هيئة مقولات عظيمة، هو أمر بالغ الأهمية؛ لأن مثل هذه المقولات تقدم خلاصة الفكر والتجربة.
قرأت ذات يوم مقولة أعجبتني؛ لأنها عبارة عن نصيحة تمنيت لو أستطيع أن أتمسك بها وأعمل قدر المستطاع بتطبيقها فهي تقول: «أربعة أشياء لا تتركها في حياتك وهي أولا: لا تترك الشكر فتحرم الزيادة وذلك مصداقا لقوله تعالى: «ولئن شكرتم لأزيدنكم»، أما النصيحة الثانية فهي: لا تترك ذكر الله فتحرم ذِكر الله لكَ، «فاذكروني أذكركم».
أما النصيحة الثالثة فهي: لا تترك الدعاء فتحرم الاستجابة، «ادعوني أستجب لكم»، والأخيرة: لا تترك الاستغفار فتُحرم النجاة «وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون».
ربما النصائح السابقة جميعنا بحاجة ماسة إليها، فمثل هذه المقولات لا تخرج إلا من أفواه الحكماء والعارفين بمقدار الإنسان في الحياة، ومع أننا نقرأ الكثير منها إلا أن مرحلة الإعجاب بها تزول سريعا، ربما لأننا لسنا بحاجة لها في تلك اللحظة، أو لأننا نريد أن نبحث عن الجديد الذي لا نعرفه، لكن ما أن تأتي أوقات صعبة علينا سرعان ما نعود بذاكرتنا إلى الوراء، هذه العودة المباغتة هي محاولة استدراك وتذكر لما قرأناه ذات يوم ولم نتمسك به، قد ننجح بنسب متفاوتة في تذكر ما نسيناه لحظيا، وأحيانا لا نستطيع استرجاع ما فقدناه من أقوال أثبت الزمن لنا أنها صحيحة مائة في المائة لكن لم نستفد بما أخبرنا عنه السابقون.
من المقولات التي أعجبتني أيضا ولم أتمكن من معرفة صاحبها لكثرة تداولها بين المغردين في منصات التواصل الاجتماعي، ولكن لعذوبتها وجمالها وجدت من المناسب ذكرها، حيث يقول كاتبها: «وضعت السكر في الشاي، ونسيت أن أحركه... وشربت منه فكان طعمه مرًا، ولكن مرارة الشاي لا تعني عدم وجود السكر فيه؛ لأنك بمجرد تحريك الشاي ستظهر حلاوته.. فالسكر موجود لكن يحتاج من يحركه.. كذلك الخير والحب موجود في نفوس أغلب الناس.. ولكنه يحتاج من يحركه.
حركوا الخير والحب في نفوسكم ونفوس من تحبون فستشعرون بحلاوة طعم حياتكم.. وتكتشفون الخير في شخصياتكم.. ما أنبل قطعة السكر!.. أعطت الشاي ما لديها ثم اختفت... هكذا المعروف... كن كقطعة السكر حتى وإن اختفت تركت أثرًا جميلًا.. فالبصمة الجميلة تبقى حتى وإن غاب صاحبها».
ما أود التركيز عليه هو أننا بحاجة ماسة دائمًا لرؤية الأشياء بعيون الآخرين، ليس لأننا نفتقد للبصيرة جميعا، ولكن من أجل فتح آفاق جديدة وطرقات أوسع للحياة، فما تراه أنت قد لا أراه أنا؛ ولذا نحن نختلف في نظرتنا للأشياء دون أن ندرك أن القرارات التي نصدرها أحيانًا لا يجانبها الصواب ولكن نتمسك بها عن جهل وقوة، لذا وجب علينا أن نفتح عيوننا وقلوبنا والاستفادة من الدروس والعبر السابقة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا تترک
إقرأ أيضاً:
إنقسام السنابل لا يسر وطني ولكن الأحزاب السودانية تتجاهل الدروس
إنقسام السنابل لا يسر وطني ولكن الأحزاب السودانية تتجاهل الدروس:
أحزاب الحركة السياسية السودانية لا تتعلم من دروس التاريخ. اعتمدت هذه الأحزاب على سلاح الحركة الشعبية السودانية لتحرير السودان للقتال نيابة عنها وإعادتها إلى مقاعد الحكم. لكن الحركة الشعبية إستعملت هذه الأحزاب وأساءت استخدامها لانتزاع أقصى التنازلات من الحكومة السودانية، وانتهى بها الأمر بتقسيم السودان حيث استولت على الجنوب ونفطه وموارده لصالح نخبتها الحاكمة وليس لصالح المهمشين في الأرض.
لكن الحركة السياسية السودانية لم تتعلم أي درس، ولذلك كررت أخطائها مرة أخرى عندما اعتمدت على الجنجويد للقتال نيابة عنها وحماية عرشها بين عامي 2019 وأبريل 2023 أو لاستعادة سلطتها منذ ذلك تاريخ بداية الحرب. ولكن كما هو متوقع، استخدم الجنجويد الأحزاب السياسية لتنظيف سجلهم وإخفاء إجرامه الوحشي وغسيل كمونية سمعتهم.
لكن لم يكتفِ الجنجويد بذلك، فبدأوا في أكل الأحزاب السياسية واحدا تلو الآخر. والنتيجةً لذلك، انقسام حزب الأمة، وكذلك التجمع الاتحادي، والآن ينقسم حزب المؤتمر السوداني إلى قسمٍ مؤيدٍ للجنجويد صراحةً، وقسمٍ آخر يتظاهر بالحياد. وياتي المنقسمون بنفس البذاءات الجزافية التي قذفها رفاقهم علي الآخرين بلغة المركز والهامش والنخبوية والإقصاء ومناصرة بنية الدولة القديمة.
حتى بيت المهدي الكبير انقسم: بعض ذريته مع الحكومة والدولة، وبعضهم يدعم الجنجويد علنًا، وبعضهم يدعمهم سرًا، وبعضهم محايدٌ بنزاهة. وكذلك انقسمت الحركة الجمهورية إذ هاجر رهط من أهلها من الرسالة الثانية من الإسلام إلي الرسالة الثانية من الجنجوة الدقلوية التي نسخت الرسالة الأولي فيرشن موسي هلال.
فهكذا قد أثبت الجنجويد إنهم سكينٍ حادٍّ في خاصرة من أمسك بها. وحتي اليسار الذي يحمد له ترفعه عن مخالطة الجنجا وجَدا الاجانب لكنه انزوى وأصابه شلل السكت حتي لا يفسد منطق علي مسافة واحدة من غزو أجنبي وميليشا همجية.
الشجن الأليم:
متي تفهم الأحزاب أن الاعتماد على قوة الآخرين — سواءً كانت بندقية حركات أو ميليشياتٍ مسلحةً أو دعمًا أجنبيًا — هو انتحارٌ سياسيٌ بطيء. ففي النهاية، يستعملك صاحب البندقية أو المال الأجنبي، ثم يلقى بك في كوشة التاريخ بعد إستنزاف كرامتك، وتدنيس سمعتك، وسلبك أعز ما تملك ونهب وطنك وعزلك عن جماهير شعبك البحبك. وانت ما بتعرف صليحك من عدوك.