في اليوم الذي قضمت فيه قوات التمرد قضمة كبيرة من أرض السودان، وتوغلت في ولايات الوسط، كان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني عبدالفتاح البرهان يتحدث إلى مجموعة محدودة من الصحفيين، ويقول بثقة: ” لا تغرنكم زوبعة الدعم السريع، إني أرى النصر كما أراكم أمامي الآن”. بعد أشهر من ذلك اللقاء تغيرت المعادلة العسكرية، ونجح الجيش بالفعل في اكتساب الأرض التي فقدها، وأصبح أقرب إلى تحقيق النصر الشامل.

محاصرة البؤر المشتعلة
مما ينتظر القيادة العسكرية من تحديات جمة، لا يبدو أن التخلص من مليشيا الدعم السريع هو نهاية الحريق. ثمة معضلات أخرى خطيرة أيضًا، على رأسها التوجس من المجهول، وأسئلة اليوم التالي للحرب، وكيفية بناء مؤسسات الدولة، والعلاقة مع العالم، وتحقيق المصالحة الوطنية.

لا شك أن الحرب سوف تنتهي قريبًا، ليس فقط لأن الجيش السوداني في وضعية أفضل، وأن قوات الدعم السريع مُنهكة ومُحاصرة داخليًا وخارجيًا، وتواجه نقصًا في الأنفس والمعدات، وأصبح مصير قادتها أشد قتامة، ولكن لأن القوى الدولية التي تتصارع على موارد الشعب السوداني أدركت أن تغذيتها هذا الصراع أضرت بالجميع، ولا يمكن لها أن تواصل في نفخ المزيد من النيران؛ لأن ذلك سوف يرتد على المنطقة برمتها.

إعلان

كذلك فإن السياسة الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب تقوم على محاصرة البؤر المشتعلة – مؤقتًا على الأقل- ومنح السلام فرصة في الشرق الأوسط.

بات الشعور السائد بين السودانيين أن المعركة في نهاياتها، وكثير منهم حزم أمتعته للعودة إلى الديار، لكنهم مع ذلك سوف يصطدمون بحقيقة مؤلمة، وهي أنهم فقدوا كل شيء، وتحتاج البلاد إلى معجزة اقتصادية لتنهض من كبوتها. وهنا بالضرورة سوف تؤرقهم أسئلة اليوم التالي: أين رجال المرور؟ المحاكم؟ الجامعات؟ حليب الأطفال؟ الأسواق؟.. وما العمل؟ من أين نبدأ؟

ثم بعد ذلك يمكن أن تتفجّر القضايا السياسية، والحاجة لإصلاح الدولة، بالتغلب على الاستبداد وسوء الإدارة والفساد، أو ما أسماه الراحل منصور خالد بالثالوث الثقيل. ولذلك على القوى السياسية أن تنضج بالتجربة، مما أورثت البلاد من صراعات مميتة، وأن تنخرط فورًا في معركة البناء، حتى لا تكون مثل ملوك آل بوربون في فرنسا ” لم ينسوا شيئًا ولم يتعلموا شيئًا”.

مواجهة التدخلات الخارجية
بصورة جلية اتضحت حقيقة أن الدعم السريع لا توجد على الأرض. فقد انتهت في اليوم الذي حاولت فيه طعن ظهر الجيش (الرحم الذي انسلت منه). كما أن حميدتي حاليًا أقل حتى من أن يكون بندقية مستأجرة. فهو لم يعد يمتلك قراره، ولا يعبأ بمصير قواته. هو محض ذبذبات من الانفعالات المسجلة تتحكم فيها جهة ما، تريد أن تحتفظ بالأزمة مشتعلة لتحقيق توازن الضعف، لتقوم بفرض تسوية تضمن مصالحها أولًا.

وقد كان أهم ما في المبادرة التركية للمصالحة أنها تعاملت مع الأزمة تعاملًا واقعيًا، وتجاوزت السردية الشائعة للحرب بوصفها صراعًا بين جنرالين، فأقرت بوجود أطراف خارجية ذات مصالح، وأن هنالك حاجة إلى قرارات شجاعة في التعامل معها.

والأهم من كل ذلك أن ثمة جيلًا قد تخلّق من هذه المحنة، هو الذي يقاتل اليوم، صار أكثر نضجًا ووعيًا بما يجري حوله؛ جيلًا صعب المِراس، لا يقبل الضيم ولا الدنية في دينه، وعلى استعداد للتضحية بكل ما يملك من أجل وحدة السودان، ولن يسمح أبدًا بأن يسرق تجار الحروب وربائب المنظمات الأجنبية، وسماسرة شركات الأسلحة، أمنه وثمرة أحلامه، لتبقى البلاد رهينة لقرارات مجلس الأمن، وأوكار التآمر العالمي.

إعلان
الجيش والسُلطة
الظهور الأخير لقائد الجيش الجنرال عبدالفتاح البرهان بقبضة حديدية، ومشاهد الالتحام الجماهيري، والصور المعلقة له في الشوارع بوصفه القائد الشجاع الذي واجه أخطر عدوان في تاريخ البلاد، توحي كلها بأنه سوف يقود السودان لسنوات مقبلة، ومن خلفه المؤسسة العسكرية.

يعضد ذلك أن التعديلات المقترحة على الوثيقة الدستورية تمنحه صلاحيات واسعة، كما أن تجربة قوى الحرية والتغيير السيئة في السلطة وموالاتها للدعم السريع، جعلت الكثير من الناس يشعرون بأنهم في حاجة ماسّة لحاكم قوي ينتمي إليهم، وليس لديهم مانع من مقايضة الحرية بالأمن، على الأقل حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود من فجر مستقبلهم.

وقد حاول البرهان في آخر تصريحاته أن يرسي معالم علاقات الدولة الخارجية في المستقبل، مؤكدًا أنها سوف تبنى على الموقف من هذه الحرب، وبنشدان وطن معافى من المجرمين والمرتزقة والعملاء والخونة، حد وصفه.

وهذا يعني أن السلطة الجديدة سوف تتخلق من رحم هذه التجربة، وبذلك يعضد قول هيجل ” الحروب ولّادة الدول”، إذ إن أغلب الدول التي نعرفها اليوم لم تولد كأوطان بل نشأت عبر حروب وغزوات.

وعلى ذات النهج جاء خطاب نائب رئيس مجلس السيادة “مالك عقار” الذي شدد على عدم قبول أي مبادرة صُلح تمسّ سيادة بلاده، أو تعيد المتمردين إلى المشهد السياسي. وقد اتفق عقار إلى حد ما مع حاكم إقليم دارفور أركو مناوي في أن السودان لا يعيش حاليًا حالة مساواة، ودعا إلى بدء حوار يؤسس لسودان جديد.

كلاهما عقار ومناوي يتبنيان خطابًا تأسيسيًًا خاليًا من الشعارات والنزعة الأيديولوجية، لا سيما أن البلاد انتقلت بصورة مؤلمة من الثورة إلى الحرب، ورسخ في الوعي أنه إذا كانت “التعاسة تدفع بالناس إلى الثورة، فإن الثورة أيضًا تعيد الناس إلى التعاسة”.

وبالقدر نفسه يحتاج التيار الإسلامي إلى التنازل عن توجهاته الانفرادية السلطوية، وتفعيل “المنظومة الخالفة” التي كتبها الشيخ الراحل حسن الترابي في آخر أيامه، وكانت تستهدف خلق تحالف جديد يضم كافة أهل القِبلة، والقوى الوطنية التي تؤمن بالشورى والحريات.

إعلان
ترميم صورة البلاد
بلا مواربة، يمكن القول إن هزيمة المليشيا المتمردة تعني عمليًا فشل مقترح الحكومة الموازية، وهو في حال دخل حيز التنفيذ كان سيهدد حرفيًا بتقسيم البلاد، ونهاية السودان الموحد، أو ما أطلق عليه أنصار التمرد دولة (56).

ولذلك فإن هذه الحرب تبدو فرصة مؤاتية للتفكير فيما يجمع الناس، وإعادة ترميم صورة البلاد التي “كلما حاولت أن تنهض تتكئ على بندقية”، كما وصفها أحد الأدباء، وذلك فضلًا عن إعادة بناء مؤسسات الدولة، والعمل بصورة جماعية؛ لتحقيق المصالحة السياسية والتعافي الاجتماعي، والبحث عن شراكات خارجية من أجل الإعمار تقوم على المعرفة والخبرة، ومن ثم اللحاق بركب الأمم المتحضّرة.

كل هذا ضروري حتى لا تصفعنا مرة أخرى عبارة محمد حسنين هيكل بأن السودان “متطفل على فكرة الدولة، وهو عبارة عن رقعة جغرافية فقط، ليس شعبًا ولا دولة ولا أمّة”.

وهيكل في الحقيقة لم يكن يحب السودان، ويعتقد أنه أصابته لعنة الحروب، ولكن ما بالنا نحن لا نتعلم من الأخطاء، ونحب بلادنا ونعلي من شأنها، لتنعم بالسلام والازدهار، وتصل إلى الموقع الذي تستحقه تحت الشمس!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

عزمي عبد الرازق
كاتب وصحفي سوداني

نقلا عن الجزيرة نت

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

تقرير صادم من السودان.. انعدام «الغذاء والخدمات» يهدد الملايين!

كشف تقييم جديد أجرته منظمتان دوليتان عن أوضاع مأساوية في ولاية الخرطوم، حيث يعاني 97% من الأسر من انعدام الأمن الغذائي، ما يضطرهم إلى اتخاذ تكيفات سلبية تشمل عمالة الأطفال والزواج المبكر، ويضع حياتهم اليومية في مواجهة تحديات قاسية.

وأجرت منظمة “المساعدات الكنسية النرويجية” ومنظمة “الفرق الطبية الدولية” التقييم في 70 مرفقًا صحيًا، شمل مقابلات مع 1250 أسرة وملاحظات ميدانية ومجموعات نقاش.

وأوضح التقرير أن الأسر تتلقى نحو 1800 سعرة حرارية في 74% منها، وتضطر إلى اقتراض الطعام، اختصار الوجبات، التسول، والعمل، مع اعتماد الأغلبية على أعمال يومية غير مستقرة وبيع الممتلكات والتحويلات الخارجية والدعم الاجتماعي، بينما تمتلك 16% فقط دخلًا ثابتًا.

وأشار التقرير إلى أن 35% من الأسر في الخرطوم تعيلها نساء، وأن زواج الأطفال ارتفع من 9% قبل اندلاع الصراع إلى 24%، فيما أفادت 17% منهن بممارسة الجنس مقابل المال أو الغذاء أو أشكال مساعدة أخرى كآلية تكيف قسرية مرتبطة بانعدام الأمن الغذائي.

وعلى صعيد الخدمات الصحية، تعمل 43% من المرافق من أصل 70 مرفقًا، بينما تقدم 13% خدمات تنويم و14% خدمات ولادة آمنة. وانخفض عدد العاملين في المرافق الصحية من 11.2 إلى 7.8 عامل لكل مرفق، منهم 62% يعملون دون رواتب، في حين يغطي التمويل الحكومي أقل من 10% من التكلفة التشغيلية، والبقية يأتي من المتطوعين والمجتمعات المحلية، بحسب موقع “سودان تربيون”.

وسجل التقرير نقصًا حادًا في الأدوية، حيث لا تحتوي 70% من المرافق الصحية على مضادات حيوية، ويعاني 85% منها نقصًا في أدوية الملاريا، كما أن 15% فقط تمتلك تبريدًا فعالًا للقاحات، مع إتلاف 23% من اللقاحات.

وأوضح التقرير أن 45% فقط من المرافق لديها مصدر مياه، ويستمر التزويد الفعلي عند 27% منها، فيما ترتفع معدلات الإصابة بالكوليرا في المرافق التي لا تملك مياه جارية بمقدار 2.8 مرة.

وأكد التقييم أن 80% من الأسر تستخدم مصادر مياه محسّنة، لكن 48% من هذه المصادر ملوثة، ويزداد الوضع سوءًا في شرق النيل حيث تعتمد 80% من الأسر على مياه الآبار الضحلة غير الآمنة. كما أن 18% فقط من الأسر تستخدم مراحيض محسّنة، بينما تمارس 31% التبرز في العراء، وترتفع النسبة إلى 46% في أطراف أمبدة، فيما انخفضت نسبة جمع النفايات من 68% قبل الحرب إلى 9% حاليًا، ما ساهم في انتشار الأوبئة والتلوث.

وأشار التقرير إلى أن أكثر من مليون شخص عادوا إلى الخرطوم من أصل 3.7 مليون غادروا منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، إلا أن العودة تحمل تحديات كبيرة بسبب استمرار العمليات العسكرية، وتدهور الوضع الاقتصادي، ونقص الخدمات الأساسية، ما يجعل كلفة العودة عالية على المستويين المعنوي والمادي.

وتأتي عودة الحكومة إلى الخرطوم في ظل تباطؤ اللجنة المكلفة بتهيئة البيئة للعودة، مع استمرار عدم توفر خدمات المياه والكهرباء للعديد من المواطنين.

وفي الوقت نفسه، رفض رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان أي مبادرة سياسية لا تشمل تفكيك قوات “الدعم السريع” وتجريدها من السلاح، مؤكدًا أن الحل الوحيد هو تفكيك هذه القوات رغم إعلانها هدنة مؤقتة مدتها ثلاثة أشهر.

واتهمت “قوات الدعم السريع” الجيش السوداني بخرق الهدنة ثماني مرات خلال ستة أيام، مع استمرار تنفيذ اعتداءات على مواقعها وعلى المدنيين، واستخدام الطيران الحربي والطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة، فيما التزمت قوات الدعم السريع بالدفاع المشروع فقط، داعية المجتمع الدولي والآلية الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، مصر) لضمان احترام الهدنة وفتح ممرات إنسانية آمنة وحماية المدنيين.

ويشكل انعدام الأمن الغذائي وتدهور الخدمات الأساسية في الخرطوم تهديدًا مباشرًا للحياة اليومية لملايين السودانيين، كما يؤدي إلى زيادة اللجوء إلى تكيفات قسرية مثل زواج الأطفال وعمالة الأطفال، ويضع المجتمع أمام تحديات إنسانية واقتصادية جسيمة، ما يستدعي تدخل المجتمع الدولي لتخفيف الأزمة.

وتفاقمت الأوضاع الإنسانية في السودان منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، مع نزوح جماعي للسكان وتدمير البنية التحتية، حيث أدت الحروب الداخلية والصراعات بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” إلى انهيار الخدمات الأساسية مثل الصحة والمياه والصرف الصحي، ما زاد من تفاقم الأزمات الغذائية والصحية في الخرطوم والولايات المجاورة.

مقالات مشابهة

  • ماذا يحدث عندما تقرأ سورة الكهف يوم الجمعة؟.. 3 عجائب فورية
  • ماذا يحدث لجسمك عند تناول اللب والسوداني
  • السودان.. 47 قتيلًا بهجوم للدعم السريع في جنوب كردفان
  • تقرير صادم من السودان.. انعدام «الغذاء والخدمات» يهدد الملايين!
  • ماذا يحدث عند تناول الكابوتشا؟
  • قد لا تصدقها… ماذا يحدث لطفلِك عند تناول اللوز كل صباح
  • ما الذي يحدث للجسم بعد 24 ساعة بلا نوم؟.. خبراء يجيبون
  • فتنة ديسمبر .. خنجر العدوان الذي رده اليمن بعناية الله وحكمة القيادة
  • ماذا يحدث لجسمك عند التعرّض للعطش الشديد؟ .. نتائج صادمة
  • القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده