حرية التعبير بين الحق والاختبار المجتمعي
تاريخ النشر: 11th, May 2025 GMT
د. أحمد بن موسى البلوشي
في كل مُجتمع، تُعد حرية التعبير من أهم ركائز التقدم الفكري والنقاش الصحي، فهي التي تتيح للفرد أن يُعبّر عن آرائه ومعتقداته دون خوف من القمع أو الإقصاء. بل إن المجتمعات المتحضّرة تُقاس بدرجة انفتاحها على الأصوات المختلفة وقدرتها على استيعاب التنوّع الفكري وبكل أطيافه. غير أن هذا المبدأ كثيرًا ما يُصبح محل اختبار حقيقي عندما تُطرح آراء غير تقليدية أو أفكار تتحدى المفاهيم السائدة.
وفي اللحظة التي يُعبِّر فيها شخص ما عن رأي يُخالف ما تعود النَّاس عليه، أو يُعيد قراءة القضايا المألوفة بمنظور جديد، يجد نفسه في مواجهة موجة من الانتقادات وربما الهجوم العنيف، فبدلًا من أن يُستقبل رأيه كجزء من حوار مفتوح، يُفهم على أنه تهجم على الهوية أو القيم، ويُفسّر أحيانًا على أنَّه خروج عن الإجماع أو تهديد للنسيج الاجتماعي.
هذا التوتر لا يعني بالضرورة أن المجتمع ضد حرية التعبير من حيث المبدأ والفكرة، لكنّه يكشف عن التباين بين القيم النظرية والتطبيق العملي لها. فقبول الرأي المُخالف يتطلب نضجًا ثقافيًا واستعدادًا نفسيًا لسماع ما لا يُوافق قناعاتنا، وهو أمر لا يتوفّر دائمًا، لا على مستوى الأفراد ولا المؤسسات.
إضافة إلى ذلك، فإن البعض يُسيء استخدام مفهوم "حرية التعبير"، فيطرح آراءً صادمة أو مستفزة دون ضوابط؛ مما يُسهّل على الآخرين رفض الفكرة ومهاجمتها، لا بسبب مضمونها فقط، بل بسبب طريقة طرحها، وهنا تبرُز إشكالية: هل حرية التعبير تعني قول كل شيء بأي طريقة وأسلوب، أم أنها مسؤولية تتطلب وعيًا ثقافيًا؟
حرية التعبير لا تعني إطلاق العنان لقول كل شيء بأي طريقة وأسلوب؛ بل هي مسؤولية تتطلب وعيًا ثقافيًا وأخلاقيًا؛ ففي المجتمعات المُتحضِّرة، تُعد حرية التعبير من القيم الأساسية التي تتيح للفرد أن يُعبّر عن آرائه ومعتقداته، لكنها لا تُمنح بمعزل عن الضوابط التي تحمي كرامة الآخرين وتصون السلم الاجتماعي. والتعبير الذي يتجاهل القيم الثقافية أو يستفز المشاعر العامة قد يضر أكثر مما ينفع، ويؤدي إلى النفور من الفكرة بدلًا من مُناقشتها. لذا، فإنَّ حرية التعبير الحقيقية تتطلب قدرة على إيصال الرأي بذكاء، واحتراماً للآخر، ووعياً بأن الكلمة قد تبني أو تهدم، تُقنع أو تُقصي، تُصلح أو تُؤجج.
ولعل السؤال الذي يتكرر في كل مرة كذلك: لماذا يُنتقد البعض ويُهاجمون لمجرد أنهم عبّروا عن وجهة نظرهم؟ الجواب ليس بسيطًا؛ فالهجوم قد يكون أحيانًا رفضًا للفكرة، وأحيانًا أخرى رفضًا للطريقة، أو حتى للشخص نفسه بسبب خلفيته أو مواقفه السابقة، وفي أحيان كثيرة، يكون الهجوم ناتجًا عن خوف دفين من التغيير.
المجتمعات تميل بطبيعتها إلى الاستقرار الفكري والثقافي، لذلك فإنَّ أي فكرة تُهدد هذا الاستقرار تُواجه بموجة من الدفاع والرفض. عندما يطرح شخص ما رأيًا مخالفًا عن المألوف، يُنظر إليه على أنَّه "مُزعزع" للمنظومة، وليس كمفكّر حر أو باحث عن التغيير.
ليس كل من يُثير الجدل يُعد مفكرًا حرًّا أو صاحب رؤية؛ فهناك من يطرح أفكارًا غير عقلانية أو سلبية بشكل متعمد، بغرض لفت الانتباه أو إثارة الرأي العام دون مراعاة للتبعات الأخلاقية أو المجتمعية. هؤلاء لا يسعون لتقديم حلول أو إثارة حوار بنّاء؛ بل يُغذّون التوتر والانقسام عبر خطاب صادم أو طروحات تتجاوز حدود المنطق والمسؤولية.
غالبًا ما تعتمد هذه النوعية من الطروحات على الاستفزاز المقصود، والتعميم، والتشكيك في الثوابت، دون تقديم أدلة واضحة أو رؤية متماسكة، وهذا النوع من الكلام قد يجد صدًى سريعًا في بيئة يسهل فيها الانتشار عبر وسائل التواصل، لكنه لا يخدم إلا الفوضى الفكرية، ويُربك الرأي العام بدل أن يوجّهه نحو التفكير الهادئ والبنّاء.
الخطر الحقيقي هنا أن هذه الطروحات قد تُسهِم في زعزعة الثقة العامة، ونشر الإحباط، أو تأجيج الصراعات، لا سيما حين تتناول قضايا حساسة تمس الدين أو الهوية أو الأمن المجتمعي. لذلك، لا بد من التمييز بين من يُحاول كسر الجمود الفكري بوعي، ومن يُمارس التشويش الفكري بدافع الظهور أو السلبية.
في مجتمعاتنا، توجد العديد من المواضيع والقضايا الجوهرية التي تستحق الطرح والنقاش الجاد، لأنها تمس حياة الناس اليومية وتؤثر في استقرارهم الاجتماعي، هذه المواضيع لا يجب أن نتجاهلها ونركنها؛ بل ينبغي تناولها ومُعالجتها بعمق ومسؤولية من خلال منصات إعلامية وفكرية رشيدة، وبمشاركة مجتمعية واعية، والفرق الجوهري هو في طريقة الطرح: فبينما يسعى البعض لإثارة الرأي العام من أجل إثارة الجدل فقط، هناك من يفتح هذه الملفات بحس وطني وأسلوب موضوعي، يستعرض المشكلة ويقترح الحلول، ويُسهم في بناء وعي جماعي، مثل هذا الطرح لا يُحدث تُوترًا؛ بل يُحدث حراكًا فكريًا صحيًا، ويدفع بالمجتمع نحو التطوير والإصلاح.
إنَّ مناقشة قضايا النَّاس بعمقٍ لا تعني التحريض أو الهدم؛ بل تعني الإصلاح الحقيقي، خاصة إذا بُني النقاش على معلومات دقيقة، ونوايا صادقة، وأسلوب يحترم عقول الناس ويبتعد عن التهويل والتضليل، وإن النقد والهجوم ليسا دائمًا علامة على خطأ الطرح؛ بل قد يكونان دليلًا على أهمية القضية التي طرحت، ولكن مسؤولية الفكرة لا تقل عن مسؤولية رد الفعل عليها، وعليه نحتاج إلى مجتمعات تحتمل الاختلاف، وأفراد يعرفون كيف يُعبّرون دون أن يجرحوا، ويُناقشون دون أن يلغوا الآخر.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الجبهة الشعبية: حكومة حزب العمال البريطانية تضلل الرأي العام وتواصل تسليح العدو الإسرائيلي
الثورة نت/
أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن حكومة حزب العمال البريطاني، بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر ووزير خارجيته ديفيد لامي متورطة بشكلٍ مباشر في جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الصهيوني في قطاع غزة من خلال استمرارها في تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية حتى مارس 2025، رغم الإعلان الظاهري عن تعليق جزئي لها.
وقالت في بيان نشرته على قناتها في (تليجرام): التقارير الحقوقية الدولية المدعومة بوثائق رسمية تكشف زيف ادعاءات الحكومة، وتثبت مواصلتها تصدير الذخيرة والسلاح بواقع أكثر من 8630 شحنة منذ بدء العدوان على غزة.
وأضافت: أن هذا السلوك يُشكّل تضليلاً ممنهجاً للرأي العام البريطاني وللبرلمان، ويجعل من الحكومة البريطانية شريكاً مباشراً في جرائم الحرب والإبادة المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
وأردفت: اللقاء السري الذي جمع وزير الخارجية البريطاني بنظيره في حكومة العدو الصهيوني، والذي كشف عنه موقع “ميدل إيست آي”، يأتي في سياق التواطؤ والتستر على المشاركة البريطانية في هذه الجرائم، ويعكس حجم انعدام الشفافية والمراوغة السياسية لحكومة حزب العمال.
وأشادت الجبهة “بالموقف الشجاع لأربعين نائباً في البرلمان البريطاني طالبوا وزير الخارجية ديفيد لامي بالرد على استمرار تصدير الأسلحة، وكشفهم تضليل الحكومة، ودعوتهم إلى فتح تحقيق جاد في استمرار منح التراخيص، ووقف جميع أشكال الدعم العسكري لدولة العدو”.
وقالت إن “أوروبا، بحكوماتها وشركاتها العسكرية شريكة فعلية في جرائم الحرب والإبادة التي تُرتكب بحق شعبنا في قطاع غزة، خصوصاً بعد التصريح الصادم للمسؤول السابق للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي أقرّ أن نصف القنابل التي يسقطها العدو الصهيوني على غزة مصدرها دول أوروبا”.
وفيما حملت الجبهة الشعبية “الحكومات الأوروبية، وفي مقدمتها الحكومة البريطانية وقادة الاتحاد الأوروبي المسؤولية القانونية والأخلاقية عن دعمها المباشر للعدوان”، دعت “شعوب أوروبا، وقواها السياسية والنقابية والطلابية، إلى الانتفاض من أجل وقف الحرب، ومحاسبة المسؤولين الضالعين في تصدير أدوات الموت إلى العدو”.