حين يكون الإخلاص هو سر النجاح الوطني
تاريخ النشر: 18th, June 2025 GMT
خالد بن حمد الرواحي
خلال زيارةٍ دراسيةٍ قمتُ بها إلى اليابان، التقيتُ بأحد كبار السن من الخبراء في العلاقات العُمانية اليابانية. وبدافع الفضول، طرحتُ عليه سؤالًا بسيطًا: "ما الأمر الذي يمكن أن تتبعه بلادي، سلطنة عُمان، لتصل إلى ما وصلت إليه اليابان من تقدُّم ونهضة؟" أجابني بهدوء وعمق: "أنتم بحاجة إلى الإخلاص في العمل.
كانت إجابته مُوجزة، لكن وقعها كان عميقًا. ومنذ تلك اللحظة، بدأت أتأمل هذه القيمة التي نُرددها كثيرًا، لكننا لا نقف عند حقيقتها بما يكفي. فالإخلاص، في جوهره، ليس مجرد انضباطٍ وظيفي أو تنفيذ أوامر، بل هو تلك الروح التي تدفع الإنسان إلى أن يُتقن ما يصنع، وأن يعمل بضميرٍ حي، لأنه يُدرك أنَّ ما يؤديه أمانةٌ في عنقه، وأن أثر الإخلاص يبقى حين يغيب كل شيء.
وقد لا يختلف اثنان على أن المجتمعات لا تنهض إلا حين يُصبح الإخلاص ثقافةً سائدة لا استثناء نادرًا. ووفقًا لمبادرة الأخلاقيات والامتثال (ECI)، فإنَّ الإخلاص في العمل يُعرَّف بأنه الالتزام بالمعايير الأخلاقية والمهنية، والتصرُّف بنزاهةٍ وثبات، حتى دون رقابةٍ مباشرة. إنه ليس فقط فضيلة شخصية، بل أساس في البناء المؤسسي والمجتمعي، حيث يتراكم الجهد الفردي ليصنع فارقًا حقيقيًّا على مستوى الوطن.
ولا يحتاج الأمر إلى تنظير كثير. فحيثما وُجد الإخلاص، وُجد الأداء الحقيقي. جودة الخدمات ترتفع، الإجراءات تتسارع، والنتائج تُنجز بأقل تكلفةٍ وأعلى فاعلية. الموظف الذي يُراقب نفسه لا يُرهق مؤسسته بأنظمة مراقبة، لأنه ببساطة يعمل كما لو أن الوطن كله يراقبه. وهنا، يتجلّى الإخلاص كأداة صامتة تصنع الفارق دون ضجيج.
ولأن كل منظومة بشرية معرّضة للاختلال، فإن الإخلاص يمثّل الخط الأول لمواجهة الفساد الإداري والممارسات غير الأخلاقية. فحين يتقدَّم الصدق على المصلحة، وتُغلَّب النزاهة على المجاملة، تتغيّر قواعد اللعبة. تصبح بيئة العمل أكثر شفافيةً وعدالة، وتبدأ العوائق الإدارية بالتآكل.
لكن دعونا نُقرب الصورة أكثر... وقد لا نحتاج إلى البحث بعيدًا لنفهم معنى الإخلاص؛ ففي كل دائرةٍ حكومية، هناك موظفٌ بسيط، لا يعرفه الإعلام، ولا يتصدّر الاجتماعات، لكنه يفتح أبواب الأمل كل صباح بابتسامةٍ صادقة، ويسعى لتيسير أمور المراجعين، لا لأنه مُجبر، بل لأنه يرى في خدمته للناس وجهًا من وجوه العبادة. هؤلاء هم من يستحقون أن يُكتب عنهم، لأنهم يُمارسون الإخلاص في صمت، ويمنحون الوطن ما لا تقيسه تقارير الأداء.
مع ذلك، لا يمكن الحديث عن الإخلاص دون الإشارة إلى البيئة التي يُزهر فيها. فالإخلاص لا يُزرع في أرضٍ جافة، بل يحتاج إلى بيئةٍ عادلة، تُقدّر المجتهد، وتحفظ للموظف كرامته ومكانته. العدالة في التقييم، وتكافؤ الفرص، والاعتراف الحقيقي بالجهود، كلّها ليست مكافآت، بل هي أدوات لتكريس الإخلاص كجزء من ثقافة العمل.
وهنا، يبرز دور الرؤية الوطنية لعُمان؛ إذ تؤكد رؤية "عُمان 2040"، على ضرورة بناء جهاز إداري مرن، مُنتج، ونزيه، قادر على مواكبة التحديات، وتحقيق الطموحات. هذه الرؤية لن تتحقق بمجرّد التوجيهات، بل تحتاج إلى موظف مخلص في الميدان، يُدير الملفات بروح الشراكة لا انتظار التعليمات، ويؤمن أن نجاح المؤسسة هو جزء من نجاح الوطن.
وقد بيّنت دراساتٌ ميدانية، في عددٍ من المؤسسات العُمانية، أن مستوى التمكين والتقدير يرتبط ارتباطًا وثيقًا بارتفاع مؤشرات الولاء والإنتاجية. وعندما يشعر الموظف أن عمله يُحدِث فرقًا، وأن جهده ليس غائبًا عن عين التقدير، فإن الإخلاص يتحوَّل من سلوكٍ فردي إلى ثقافةٍ مؤسسية.
هكذا، نكتشف أن الإخلاص ليس مثالية حالمة، بل استراتيجية واقعية. هو لا يُدوَّن في اللوائح، بل يُمارَس في الحياة اليومية. وقد لا يكتب التاريخ أسماء كل من أخلصوا في أعمالهم، لكن المؤسسات التي حققت النجاح والاستدامة، غالبًا ما كانت قائمة على أكتافهم.
وفي نهاية المطاف، قد تُنسى الأرقام، وتُنسى العناوين، لكن أثر المخلصين يظل... لا يُمحى.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الأردن… صخرة تتحطم عليها أوهام الحاقدين
صراحة نيوز – بقلم المهندس : عماد خليل حجازين
في زمن اختلطت فيه الأصوات المرتعشة بالنوايا الخبيثة، يخرج علينا بعض المتلونين والحاقدين ممن اعتادوا الرقص على جراح الشعوب، ليصبّوا سمّهم على الأردن… وطننا الذي ظلّ، رغم المحن، الركن الصلب والضمير العربي اليقظ.
نقولها بوضوح:
نحن لا ندّعي الكمال، ولا نزعم أن الطريق مفروش بالورود… لكننا شعب وقيادة تربينا على الوفاء، وعلى أن نكون صمّام أمان في محيط مضطرب.
فمن أنتم حتى تتطاولوا على بلد لم يعرف طعم الانهيار؟
بلد احتضن اللاجئ واليتيم والمظلوم دون منّة، وفتح بابه لكل ملهوف، حتى ضاقت به الموارد، وما ضاق به صدره.
ومن أنتم حتى تشككوا في وطن صمد أمام صفقة القرن، ورفض تصفية القضية الفلسطينية، ووقف في وجه كل من أراد أن يساوم على القدس أو يتنازل عن كرامته؟
أنتم لا تكرهون الأردن لأنه أخطأ، بل تكرهونه لأنه لم يركع.
تكرهون الأردن لأنه ما زال يتحدث بلغة العروبة، ويقف مع المظلوم، ولا يغيّر بوصلته حسب الدولار أو النفط أو المزاودات الموسمية.
تكرهونه لأنكم تحبون الفوضى، وتخافون من النموذج الأردني الذي لا يزال يمشي بثقة وسط حطام المنطقة.
لكننا نقولها اليوم، كما قلناها دومًا:
الأردن ليس دولة عابرة… بل رسالة، وموقف، وكرامة لا تُشترى ولا تُباع.
فليتوقف كل حاقد عند حدّه،
وليعلم كل متربّص أن الأردن بقي وسيبقى، عصيًا على الانكسار، ومحصّنًا بوحدة شعبه ووفاء جيشه وحنكة قيادته.
وإلى أبناء الأردن الشرفاء:
لا تردّوا الشتائم بشتائم، بل ردّوا بالثبات والعمل والاعتزاز. فالحقد لا يصمد أمام الكبرياء، والغدر لا يهزم النبل.
عاش الأردن عزيزًا، عالي الجبين… وليخسأ الحاقدون.