في أعقاب إعلان رئيس الوزراء الانتقالي د. كامل الطيب إدريس عن ملامح “حكومة الأمل” ، وما صاحبها من وعود بإصلاح الحكم على أساس الكفاءة الوطنية بعيدًا عن المحاصصة، طُرح مقترح دمج وزارة الموارد المائية والري ضمن وزارة الزراعة، كجزء من خطة إعادة هيكلة الوزارات بهدف ضبط العمل الإداري وتحقيق فعالية مؤسسية حاكمة.

هذا الطرح بحسب خبراء يلامس جوهرًا استراتيجيًا بالغ الأهمية يرتبط بشكل مباشر بالأمن القومي السوداني، ويثير تساؤلات جوهرية حول فهم الدولة لطبيعة إدارة الموارد في سياق إقليمي ودولي بالغ الحساسية.

المياه في حالة السودان، لم تعد ملفًا فنياً يمكن إدراجه ضمن أولويات وزارة قطاعية كوزارة الزراعة، بل تحولت إلى قضية وجودية تمس بقاء الدولة ذاته. فالسودان، بوصفه دولة محورية في منظومة حوض النيل، يتعامل مع شبكة من التعقيدات الجيوسياسية المتزايدة، بدءً من تحديات سد النهضة، مرورًا بإدارة المياه الجوفية، ووصولاً إلى صراعات النفوذ الإقليمي التي بدأت تتبلور حول الأنهار والأحواض العابرة للحدود. في هذا السياق، لم يعد من المقبول – لا سياسيًا ولا فنيًا – أن تُدار المياه ضمن كيان غير متخصص. إنما تقتضي المرحلة تأسيس وزارة مستقلة وفعالة للموارد المائية، تمتلك السيادة الفنية، والسلطة المؤسسية، والكفاءة العلمية التي تتيح لها قيادة هذا الملف الاستراتيجي.

لقد آن للري أن يترجل من صهوة الموارد المائية. فالحقيقة التي يغفلها البعض أن الري – كقطاع – يمثل في جوهره “التصرف في المياه”، بينما تمثل الموارد المائية “الإيرادات” الكلية لهذا المورد الحيوي. وبين الإيرادات والتصرفات، هناك سلسلة متكاملة من العمليات: من توليد الكهرباء، وتخزين المياه في السدود، واستغلال الموارد الجوفية، وحتى التطورات المستقبلية في استخدام المياه لإنتاج الهيدروجين الأخضر. هذه المسارات جميعها تقتضي جهازًا مؤسسيًا جامعًا ومهيمنًا، يضع سياسة مائية شاملة تنسجم مع أولويات الأمن القومي، لا مجرد أداة لتنظيم عملية الري في الزراعة.

ولئن كانت وزارة الموارد المائية غائبة عن واجهة التمويل خلال العقود الماضية، حيث ظلت ميزانيات الدولة تتجه في معظمها إلى تمويل مشاريع الري فقط، فإن هذا القصور لا يُعزى فقط إلى غلبة الرؤية القطاعية، بل إلى فشل جماعي في رفع مستوى الوعي بأهمية المياه كمورد سيادي يتجاوز الحسابات الإنتاجية اليومية. وما يفاقم من خطورة هذا التوجه، هو غياب الحاكمية المركزية على منظومة المياه، والتي تضم اليوم وحدات متعددة كالسدود، والخزانات، والمياه الجوفية، والوديان، ومياه النيل، إضافة إلى سكرتارية الهيئة الفنية المشتركة، وكلها تحتاج إلى جهة موحدة صاحبة قرار، لا كيان تابع لوزارة أخرى.

إن الحديث عن مخاطر دمج وزارتي الري والزراعة لا يمكن فصله عن الواقع الداخلي المتردي في وزارة الري نفسها، والتي تعاني بحسب المؤشرات المتاحة من غياب خطة استراتيجية بعيدة المدى، وانعدام السياسات المنظمة لاستخدام المياه، فضلاً عن غياب الجاهزية الفنية للتعامل مع التحديات المتفاقمة، وفي مقدمتها السيناريوهات الخطرة المرتبطة بسد النهضة، سواء في مواسم الوفرة أو احتمالات الانهيار المفاجئ لا قدر الله. بهذا المعنى، فإن رفض الدمج – على وجاهته – لا يجب أن يُغني عن المطالبة بإصلاح شامل للوزارة نفسها من حيث التخطيط، والحوكمة، وبناء القدرات، والقدرة التفاوضية، والرؤية الفنية لمواجهة تغير المناخ وشح الأمطار أو فيضاناتها، إضافة إلى إدارة المياه الجوفية التي بدأت دول مجاورة فعليًا في سحبها واستغلالها.

ولا يمكن فصل هذه الاعتبارات عن تجارب الدمج السابقة التي أثبتت فشلها هيكليًا لا إداريًا فقط، فقد أدى الجمع بين وزارتي الزراعة والري إلى تضارب واضح بين من يستهلك المورد ومن يُفترض به تنظيمه، وكانت النتيجة انهيار التنسيق، تدهور شبكات الري، هدر المياه، وتراجع تمثيل السودان في المنتديات الدولية ذات العلاقة. فالزراعة، وإن كانت مستفيدًا رئيسيًا من المياه، إلا أنها لا يمكن أن تكون المنظم الحاكم لها، لأن ذلك يخل بتوازن المصالح ويضرب بمبدأ الحياد المؤسسي.

وفي ظل انعدام هذا الحياد، يصبح لزامًا على الدولة أن تتجه لتأسيس مركز سيادي للموارد المائية، يمثل بنكًا معلوماتيًا وتنفيذيًا للمياه، تكون له السلطة في تحديد الكميات، والمواقيت، ونوعية المياه المستخدمة لكل قطاع بحسب الأولوية الوطنية، لا بحسب ضغوط المستخدمين. ومن هنا يصبح واضحًا أن قضية استقلال الوزارة ليست فقط مطلبًا بيروقراطيًا، بل هي لبّ المشروع السيادي السوداني، إذا ما أرادت الدولة بناء نموذج تنموي يستجيب للتحولات المناخية، وتحديات الأمن الغذائي، والصراعات الإقليمية المستجدة.

وتبدو خطورة الوضع أكثر وضوحًا إذا علمنا أن السودان لا يملك حتى الآن سياسة مائية وطنية متكاملة، تُربط فيها الموارد المتاحة بالتنمية الصناعية، والمناخ، والزراعة، والطاقة، والتخطيط الحضري. الوزارة المستقلة هي الوعاء المؤسسي الوحيد القادر على إنتاج هذه الرؤية الوطنية، وبناء شراكات فاعلة مع الجامعات ومراكز البحوث، والتفاوض باسم السودان في المحافل الدولية، والتعامل مع المؤسسات المالية العالمية من موقع قوة، لا من موقع التبعية الفنية أو السياسية.

إن هذا الملف، بكل ما يحمله من تعقيد، لا يمكن أن يُحلّ بنقاش داخلي محدود في مجموعات مهنية، بل يجب أن يُطرح على مستوى أوسع يشمل ، صناع القرار، والمختصين ، من خلال ورش وسمنارات متخصصة، تقود إلى بلورة رؤية استراتيجية متكاملة لإدارة المياه في السودان. والرؤية هذه ضرورة ملحّة في ظل واقع هش سياسيًا ومائيًا، تتداخل فيه التحديات البيئية، والضغوط الإقليمية، مع ضعف مؤسسي داخلي لا يمكن إنكاره.

إن الدفاع عن استقلال وزارة الموارد المائية بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة يجب ألا يُختزل في شكله الإداري، بل يجب أن يُبنى على إدراك عميق بأن المياه هي المورد السيادي الأول في السودان ، والخط الأمامي في معركة الدولة من أجل البقاء. وكل تساهل في هذا الملف هو تفريط في مستقبل السودان، لا سيما في عالم بات يتصارع على كل قطرة من المياه ، ويعيد صياغة خريطة النفوذ السياسي على ضوء من يملك الماء، ومن يديرها، ومن يخطط لها.
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 25 يونيو 2025 م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الموارد المائیة لا یمکن

إقرأ أيضاً:

وزير الري يبحث تسهيل إجراءات إصدار تراخيص المياه الجوفية

كتب - عمرو صالح:
بحث وزير الموارد المائية والري الدكتور هاني سويلم مع عدد من قيادات الوزارة، أعمال قطاع المياه الجوفية، ومجهودات رقمنة اعمال القطاع، وتسهيل إجراءات إصدار التراخيص الخاصة بالمياه الجوفية من خلال إطلاق "منظومة التراخيص الإلكترونية لتراخيص المياه الجوفية".
وفي إطار نتائج زيارته مؤخراً لمحافظة الوادي الجديد لتفقد المعمل المركزي للمياه الجوفية، أكد وزير الري - خلال الاجتماع - استمرار قيام أجهزة قطاع المياه الجوفية بمتابعة التزام المنتفعين بضوابط وإشتراطات استخدام المياه الجوفية سواء بمحافظة الوادي الجديد أو غيرها من المحافظات، بهدف تحقيق الإدارة المثلى والاستدامة لهذا المورد المائي الهام والاستخدام الرشيد له.
وتم خلال الاجتماع استعراض الإعداد لإطلاق "منظومة التراخيص الإلكترونية لتراخيص المياه الجوفية" بإدارات المياه الجوفية بالدلتا والمنيا وقنا والداخلة (كمرحلة أولى)، والتي ستمكن المنتفعين من التقديم على التراخيص من خلال منظومة إلكترونية وتقديم المستندات المطلوبة إلكترونياً ومتابعة نتيجة الطلب من خلال المنظومة، وستمكن المنظومة من الإسراع في إجراءات التراخيص ومراقبة وتحديد المتسبب في أي تأخير.
وقد وجه الدكتور سويلم بمواصلة العمل على إمداد المنظومة الإلكترونية بالبيانات، وتشجيع المنتفعين من مياه الآبار الجوفية على تقديم المستندات الخاصة بهم على المنظومة، سواء للطلبات المعنية بتجديد التراخيص للآبار القائمة أو الترخيص لآبار جوفية جديدة.
كما تم خلال الاجتماع عرض الرؤية الفنية لتحقيق الحوكمة الإلكترونية لأعمال قطاع المياه الجوفية من خلال رقمنة أعمال القطاع وتحديث قواعد البيانات والتعاون مع مركز التدريب الإقليمي للموارد المائية والري لتشكيل فريق فني متخصص من شباب المهندسين بإدارات المياه الجوفية ليتم تدريبهم على البرامج المتخصصة في المياه الجوفية وهيدرولوجيا الأودية.
وأكد الوزير أهمية تسهيل إجراءات استصدار التراخيص للمواطنين وتحسين الخدمات المقدمة للمنتفعين، وتفعيل مشاركة أصحاب المصلحة، وزيادة قدرة أجهزة قطاع المياه الجوفية على متابعة ومراقبة الآبار الجوفية على مستوى الجمهورية، لتحقيق الإدارة الفعالة للمياه الجوفية للحفاظ على الخزانات الجوفية ومنع الاستنزاف الجائر لها، وتحقيق الشفافية وتطبيق القوانين والتشريعات، وتحقيق تكامل البيانات لضمان التحكم والحماية والاستخدام المستدام لموارد المياه الجوفية.

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

الدكتور هاني سويلم وزير الري تراخيص المياه الجوفية

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة وزير الري: تنسيق مع المحافظين لمتابعة المنظومة المائية خلال فترة أقصى الاحتياجات أخبار فترة أقصى الاحتياجات.. سويلم يوجه باتخاذ اللازم وإزالة فتحات الري المخالفة أخبار بعد تصريحات ترامب.. وزير الري الأسبق يكشف لمصراوي كيف دعمت أمريكا سد النهضة أخبار وزير الري يبحث التعاون في مجال "تحلية المياه للإنتاج الكثيف للغذاء" أخبار

إعلان

الثانوية العامة

المزيد مدارس لمدة 15 يومًا.. موعد تلقي تظلمات الشهادة الإعدادية في أسوان جامعات ومعاهد رسميًا.. جامعة عين شمس تحصل على اعتماد هيئة ضمان الجودة مدارس تسريب امتحان التاريخ عبر "جروبات الغش".. والتعليم تتحرك مدارس تداول صور امتحان الفيزياء على "جروبات الغش".. والتعليم تحذر مدارس "عمليات التعليم" تتحرك لتحديد هوية المتورطين في تداول امتحان الفيزياء

أخبار رياضية

المزيد رياضة عربية وعالمية يتخطى 21 فريقا.. راتب خيالي لميسي في الدوري الأمريكي رياضة عربية وعالمية ماذا ينتظر عمر مرموش في مباراة مانشستر سيتي ويوفنتوس؟ رياضة محلية "تلميذ فيريرا".. هل يستعين الزمالك بالمدرسة البرتغالية مجددا رياضة محلية بن شرقي تخطى الـ6 مليون جنيه.. أسعار ساعات ثلاثي الأهلي رياضة محلية بعد توجيه الشكر.. وعد جديد من الزمالك لـ أيمن الرمادي

إعلان

أخبار

وزير الري يبحث تسهيل إجراءات إصدار تراخيص المياه الجوفية

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

مدبولي: لن يتم طرد أي مستأجر بعد انتهاء الفترة الانتقالية للإيجار القديم زيادة في الأجر.. قرار حكومي عاجل بترقية العاملين في الجهاز الإداري للدولة هل عادت أزمة "نواقص الأدوية" مجددًا؟.. وزير الصحة يوضح لمصراوي السيسي يعين المستشار حسين مدكور رئيسا لهيئة قضايا الدولة 46 سؤالًا في امتحان التاريخ للثانوية العامة 2025.. تعرف على المواصفات وشكل الأسئلة 38

القاهرة - مصر

38 23 الرطوبة: 21% الرياح: شمال غرب المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب الثانوية العامة فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • الموارد المائية: الكشف عن شواهد تفسر ظاهرة ارتفاع المياه في زليتن
  • وزير الري يتابع المنظومة المائية بالجيزة ومقترحات تطوير ترعة شبرامنت
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: خميس الفكرة والنغم وتقرير المصير!
  • رئيس جامعة بورسعيد: سعداء بالتعاون بين القطاع الهندسي ووزارة الموارد المائية
  • وزير الري: علاقات مصر وجيبوتي ترسخت عبر عقود طويلة من التعاون الأخوي
  • تكتل الأحزاب اليمنية يحذّر: انهيار اقتصادي وانتهاكات أمنية تهدد هيبة الدولة
  • وزير الري يبحث تسهيل إجراءات إصدار تراخيص المياه الجوفية
  • مجلس الوزراء يعتمد المعلمة سعاد إبراهيم السويح «شهيدة واجب»
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: آن للسودان أن يرقص على رؤوس الأفاعي