4 أغسطس، 2025
بغداد/المسلة: رياض الفرطوسي
ليس كل ما يُقصف يُقال، ولا كل ما يُقال يُفهم. في سماء الشرق الأوسط تتعالى مؤخراً لغة النار، لكن ما يُدار في الأعماق هو ما يستحق الإصغاء. الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية لم تكن فقط عملية عسكرية مركّبة، بل حلقة جديدة من سلسلة طويلة في معادلة ردع خفية، يُعاد هندستها على عجل، وتُدار كأنها رقصة أعصاب بين طرفين يتقنان الحساب أكثر مما يهوَيان الاشتباك.
بين تل أبيب وطهران ليس هناك مجرد خصومة سياسية، بل صراع رؤيوي على المستقبل، وتضاد عميق في نماذج القوة والهيمنة والوجود. إسرائيل، المهووسة بأمنها الوجودي، لا تطيق فكرة أن خصماً مثل إيران يمتلك قدرة نووية كامنة، حتى وإن كانت دون اكتمال. وإيران، المشبعة بتاريخ طويل من العزلة والصمود، تعتبر أن امتلاك أدوات الردع ليس رفاهية بل ضرورة وجودية، في إقليم يتغير توازنه كل عقد أو أقل.
الضربة الأخيرة جاءت مدروسة في توقيتها، محسوبة في نتائجها، ومصمّمة لتبعث برسائل متعددة الاتجاهات: إلى الداخل الإسرائيلي القلق، إلى واشنطن المترددة، إلى العواصم العربية المترقبة، وإلى طهران التي كانت تلوّح دائماً بأنها تعرف كيف ترد، لكنها لا تحدد متى. لكن في العمق، لم تكن الضربة مجرد استهداف لموقع أو مفاعل، بل لمحاولة كسر تصاعدي في توازن الرهبة المتبادل. هي ضربة تريد أن تقول: “نحن نملك اليد العليا في توقيت الضغط، ونحدد السقف المسموح به للطموح الإيراني”.
إلا أن إيران، التي باتت تدرك تماماً لعبة الرسائل، لم تستدرج إلى الرد الانفعالي. ردّها، كما جرت العادة، جاء على طريقة الحرب الباردة: بمزيد من التحصين، وباستعراض القدرة دون إثارة صخب، وكأنها تقول لتل أبيب: “نحن باقون في المعادلة، شئتم أم أبيتم، ونرد حين نشاء، لا حين تريدون”.
اللافت أن الصراع لا يجري فقط فوق الأرض أو تحتها، بل داخل العقول أيضًا. كل طرف يحاول أن يعيد تشكيل وعي الآخر. إسرائيل تزرع فكرة أن الضربة القادمة ستكون حاسمة، وإيران تزرع فكرة أن أي تصعيد سيقلب الطاولة. كل طرف يحاول أن يدير خوف الآخر، ويحوّله إلى أداة ضغط وتفاوض. من هنا تأتي فكرة “هندسة الخوف”: فن إدارة الرعب دون الدخول في الحرب الكبرى، وفن دفع العدو إلى التراجع من دون إطلاق رصاصة واحدة، أحياناً.
وما بين هذا وذاك، تقف المنطقة على حافة توتر ممتد. فكل تصعيد بين تل أبيب وطهران يخلق ارتدادات في بيروت، ودمشق، وبغداد، وصنعاء، وحتى في العواصم التي تدّعي الحياد. فالخوف من حرب كبرى لا يخصُّ إسرائيل وإيران وحدهما، بل يهدد بانهيار جغرافيا هشّة، وتفكك أنظمة سياسية، وعودة مشاهد الفوضى المسلحة في أكثر من بلد.
العالم، من جهته، لا يبدو مستعداً لتحمل كلفة حرب جديدة. فالولايات المتحدة غارقة في انقساماتها، وروسيا مشغولة بحربها مع الغرب في أوكرانيا، وأوروبا تئن تحت عبء اللجوء والركود، والصين تتابع بهدوء مصالحها في الخليج والبحر. كل ما يمكن أن يُمنح من هذه القوى العظمى هو تصريحات وتحذيرات، أما الفعل، فيُترك للأطراف الإقليمية لتدير معاركها بـ”الوكالة”، أو بما تملكه من خبرة في ضبط الإيقاع قبل الانفجار.
لكن السؤال الأهم لا يتعلق بما حدث، بل بما سيحدث بعده. هل كانت هذه الضربة فصلًا في نهاية مفتوحة؟ أم مجرد “مناورة بالنار” ضمن قواعد اشتباك جديدة؟ هل تسعى إسرائيل إلى جرّ إيران إلى المواجهة المباشرة، أم أنها تحاول استباق تطورات نووية باتت قريبة من الحسم؟ وهل يمكن لإيران أن تكتفي بردود محسوبة في وقت يتضخم فيه الضغط الداخلي والخارجي معًا؟
الإجابة لا تأتي من التصريحات الرسمية، بل من فهم أعمق لطبيعة التحول الجاري في بنية الصراع. لقد دخلنا، كما يبدو، مرحلة ما بعد الردع التقليدي. لم يعد السلاح النووي كافياً وحده لفرض الاحترام، ولا الطائرات المسيرة قادرة على إرباك الدفاعات. ما يُدار اليوم هو هندسة وعي جماعي، تهدف إلى زراعة الخوف بطريقة منهجية، وتحويله إلى لغة سياسية.
إنها لعبة مزدوجة: كل طرف يخاف من الآخر، ويخاف أن يظهر خائفاً. لذلك يُصعّد لكي لا يبدو ضعيفاً، ويهدّئ لكي لا يخسر السيطرة. والخطر في هذا النوع من الصراعات أنه لا يحتاج إلى قرار للانفجار، بل إلى خطأ واحد في الحساب. وخطأ واحد فقط، قد يبدد كل هندسة الخوف التي صُمّمت على مدى سنوات.
هكذا تمضي المعركة بين تل أبيب وطهران: مواجهة غير متكافئة ظاهرياً، لكنها متوازنة في الخوف. لعبة أعصاب طويلة، لا تعرف النهاية، ولا تجرؤ على الذهاب حتى آخر الشوط. وكلما اقتربت من الحافة، استعادت قواعدها القديمة: لا غالب ولا مغلوب، بل لاعبون بارعون في تجنب الخسارة الكبرى.
وفي هذه اللعبة، يظل الخوف هو العنصر الأقوى: ليس خوف الشعوب فحسب، بل خوف الأنظمة من أن تنهار تحت وهم السيطرة. وبهذا المعنى، فإن ما يُخاض الآن ليس حرباً بالمعنى الكلاسيكي، بل سباق محموم في هندسة الرعب، وضبط إيقاع التهديد، وتصميم سيناريوهات لا يُراد لها أن تتحقق، بل أن تُخيف فقط.
وبين كل هذه الحسابات، تبقى المنطقة حبلى بالأسئلة الثقيلة: إلى متى يمكن للهندسة أن تمنع الانفجار؟ وهل يمكن حقاً التحكم بالخوف إلى الأبد دون أن يتحول يوماً إلى كارثة حقيقية؟ أم أن كل هذه المعركة ما هي إلا مقدمة لحرب أكبر، لا تعرف متى تبدأ، لكن الجميع يعرف أنها ستكون مكلفة بما لا يُحتمل؟
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: بین تل أبیب وطهران
إقرأ أيضاً:
التجويع المنهجي ذروة السياسات الوحشية الحديثة
تصطاد القذائف المتفجرة ضحاياها بين غمضة عين وانتباهتها، أما سلاح التجويع فيفتك بعموم الشعب عبر انتزاع أنفاس الحياة تباعا على نحو بطيء؛ كما يفعل سفاحون هواة بضحاياهم في أفلام الرعب.
تتضاءل الأبدان المجوعة وتضمر تدريجيا، ويتزايد الأطفال والرضع الذين يذبلون يوما بعد يوم فتبرز أضلاعهم وعظامهم من تحت جلود جافة ومتشققة، ثم تذهب الجماجم المحمولة فوق جذوع نحيلة بعيدا في إغفاءة أخيرة، على مرأى من عالم تفجعه مشاهد محسوبة على فظائع الحروب العالمية البائدة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فرنسا تسعف “أعراض التجويع” في غزة والمطلوب أكبرlist 2 of 2المجاعة في غزة لا ترحم الرضيعة وتين أبو أمونةend of listتأتي المشاهد الجديدة بالألوان، وتتجلى حية ومتحركة، بل إنها تُضخ على مدار الساعة عبر الشاشات والشبكات شهرا بعد شهر وسنة بعد سنة، من رقعة مطلة على المتوسط تسمى قطاع غزة، تبعد عن سواحل الاتحاد الأوروبي ساعات معدودة من الإبحار، في برهان على حقيقة صادمة مفادها أن العالم الحديث لم يبرأ من الوحشية المحسوبة على حكايات الماضي، ومشاهد الأبيض والأسود النادرة.
هل ثمة بقعة في العالم يفضل فيها الأهالي القتل قصفا في لحظة خاطفة على أن يحصل الهلاك تجويعا بالموت البطيء؟ ليس نادرا أن يجتمع الثنائي الرهيب في غزة على أبدان الفلسطينيين من شتى الأعمار، فتسحق قذائف الاحتلال أطفالا ناموا على بطون خاوية، وما أشق اللوعة على أمهاتهم وآبائهم أن يقتَل أحبتهم الصغار قصفا، وهم يتضورون جوعا.
قد يصح القول بأن التجويع الذي يمارسه الاحتلال يشبه في بعض مظاهره وقائع جوع وحرمان أخرى قاست ويلاتها بيئات أخرى في العالم، ومنها الأهوال المستجدة التي تمس الأهالي المنكوبين في دارفور مثلا.
لكن التجويع الإسرائيلي، المدعوم أميركيا وغربيا بصفة مباشرة أو غير مباشرة، يتميز عن الشواهد الأخرى بأنه سياسة منهجية مطورة، تقوم على سطوة التحكم المشدد وتسترعي أهدافها بعناية جملة وتفصيلا.
وهل عرف العالم، سابقا وحاضرا، أي حالة تجويع شبيهة تكون فيها المسافة الفاصلة بين المجوعين المعزولين وقوافل الطعام المكتظة مجرد رمية حجر فقط؟ وهل أفصحت أي دولة في العالم عن نوايا ممارسة التجويع صراحة على رؤوس الأشهاد، وجاهر كبار قادتها السياسيين والعسكريين بإصرارهم على منع الطعام والشراب والدواء وحليب الرضع من أن يصل إلى شعب يحاصرونه؟
إعلانتتجلى شواهد هندسة التجويع في السياسات التي تعتمدها والممارسات التي تتبعها، وفي خطواتها المرحلية المدروسة بعناية، وفيما تتوخاه من مرامٍ بعيدة وأهداف تفصيلية بالأحرى، ويبقى أنها مكرسة لتحفيز برنامج دؤوب للتطهير العرقي من خلال حركة النزوح الداخلي القسري حسب خرائط تستدرج الأهالي من إحداثيات إلى أخرى، ومن ثم محاولة دفعهم إلى خارج وطنهم بمقتضى تواطؤات إقليمية ودولية.
الوحشية الحديثة وحبكتها الذرائعيةلا تتنازل السياسات الوحشية الحديثة عن حبكة ذرائعية، خاصة إن مارستها أو دعمتها أنظمة حديثة ذات طابع عصري غربي. فسياسة التجويع الحديثة تختزن من الوقاحة ما يكفي لمواصلة إطلاق مقولات تبريرية تدور حول لوم الضحية وإعفاء الجاني من المسؤولية عما يقترفه على الملأ.
لا يكف القادة الإسرائيليون والأميركيون، بمن فيهم الرئيس ترامب ذاته، وبعض السياسيين الأوروبيين أيضا، عن اجترار محفوظات ساذجة لتسويغ وحشية التجويع مفادها أن "حماس تسرق المساعدات"، فلا ينبغي السماح بإدخال مقومات الحياة الأساسية إلى قطاع غزة بالتالي!.
هكذا، أيضا، يتجلى الطابع الحديث في السياسات الوحشية، فهي تستحضر ذرائعها الدعائية المخصصة لتبرير كل الأهوال والفظائع وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي تقترفها.
تلتزم جوقة السياسة والإعلام هذه المقولات الذرائعية فتسمَع في صيغ متماثلة حرفيا يقع تثبيتها في المرافعات بقوة التكرار الدؤوب، بغرض إلجاء حاملي الضمائر إلى مرافعات دفاعية ابتداء بدل الانهماك في تشديد النكير على أهوال الوحشية المرئية للعالم أجمع.
على أن مفعول حيلة "التكرار والتثبيت" لا يحصل على جدارته المثلى بمعزل عن آليات المركزية الغربية المعولَمة التي تتصرف على جانبي الأطلسي كمن يحتكر الحقيقة ويصادر المعايير.
هكذا ظلت صرخات الجنوب العالمي بشأن خطورة الإبادة الجماعية في غزة صيحة في وادٍ ونفخة في رماد؛ لأن المركزية الغربية المعولمة لم تقرر بعد على مدار سنتين منها أنه "جينوسايد" [إبادة]، فضلا عن أن تكون جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وإن وقع الاعتراف المتأخر بأن مشاهد الجوع صادمة وصور غزة مروعة، وأن ما يجري يجب أن يتوقف.
أفظع من أهوال الماضيمن المغالطات الرائجة في مقاربة السياسات الوحشية الحديثة أن يستسهل اعتبارها أدنى فظاعة من جرائم بشعة ارتكبَت في مراحل سابقة من التاريخ البشري، وصولا إلى منتصف القرن العشرين.
يتمثل جوهر المغالطة هنا في تحييد عامل الزمن ومتغيراته التي استجدت. فقد تطورت في الواقع البشري منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منظومة مواثيق وعهود واتفاقات ومدونات مرجعية على مستوى العمل الدولي ذات قيمة مغلظة مشفوعة بآليات أممية للاحتكام والمتابعة.
ومن متغيرات الزمن أن كثيرا من جرائم الحاضر صارت مصورة ومبثوثة إلى العالم بالألوان أولا بأول، خاصة في البؤر الموضوعة في مركز الاهتمام العالمي مثل فلسطين.
تمثل متغيرات الزمن الجديد، في الأساس، كوابح تحد من قابلية اقتراف الأنظمة الحديثة المطورة، مثل قاعدة الاستعمار الاحتلالي الاستيطاني الحربية والأمنية في فلسطين، الأهوال والفظائع قياسا بعهود مضت أتاحت ارتكابها خلسة بعيدا عن الأضواء وإمكانية المواكبة.
إعلانلم يعرف العالم عن حملات إبادة وحشية، كالتي اقترفتها سلطات استعمارية أوروبية في أفريقيا مثلا حتى بدايات القرن العشرين على الأقل، سوى شواهد متأخرة ونتَفٍ من حكايات منقولة عبر الذاكرة الشفهية أو بعض الوثائق النادرة، وما زال بعضها على الأرجح مغيبا في غياهب النسيان والتجاهل.
بل إن فظائع الهولوكوست ظلت مستترة جزئيا حتى ربيع 1945 في "معسكرات التركيز" النازية المعزولة عن الحواضر رغم بعض مقدماتها الجلية على صعيد التشريعات التمييزية والأنظمة القهرية وإجراءات الترحيل والتجميع إلى تلك المعسكرات المحفوفة بشعار مضلل هو "العمل يحرر"، أو بالألمانية "آربايت ماخت فراي"، ولم تهتدِ وحشية النظام الهتلري البغيض إلى مقولات الزمن الجديد المطورة عن "مدينة إنسانية" مثلا.
من فظائع هندسة التجويعلا يكفي مصطلح "حرب التجويع" لفضح مدى الفظاعة في هندسة التجويع التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.
تفصح بعض التفاصيل عن أبعاد رهيبة في هذه "الهندسة"، فمنها أنها تجوع أطفالا ورضعا تدريجيا حتى الموت وهم بين أذرع أهاليهم العاجزين عن إنقاذهم، وتترك مرضى في حاجة ماسة إلى مغذيات ومحاليل كي يفارقوا الحياة تباعا تحت أنظار طواقم طبية تركها مهندسو التجويع بلا إمدادات أساسية لتلبية احتياجات هذه الفئات الحرجة.
ترغم هندسة التجويع عموم المجتمع في قطاع غزة على تناول مواد مشكوك في صلاحيتها، وتُلجئ الأهالي إلى البقاء على رمق الحياة بمواد فاسدة أو تتخللها آفات حيوية، ولا يهم حينها إن كانت عبوات حليب أطفال النادرة منتهية الصلاحية.
وفي زمن ينتصب ضد عمالة الأطفال واستغلالهم تكفلت هذه السياسة الوحشية الحديثة بانتزاع حشود الصغار من مدارسهم وروضاتهم وملاعبهم وبيوتهم وأرغمتهم على التزاحم القسري كل يوم على مدار النهار بحره القائظ أو تحت الأجواء المطيرة، طلبا لوجبة طعام شحيحة بلا قيمة غذائية تذكر، وقد لا يعودون بشيء منها في نهاية النهار.
سيذكر التاريخ أيضا أن "دولة الجينوسايد" التي تحظى بامتيازات الشراكة الأوروبية الإسرائيلية اضطرت أشقاء هؤلاء الأطفال وأقرانهم إلى جولات يومية مضنية لجمع مواد- بعضها ضار بالصحة والبيئة- لاستخدامها وقودا لطهي وجبة طعام شكلية تحت القصف، بطرق بدائية لا تتوافق مع معايير الاستدامة.
لا عجب أن يتوقع الخبراء أن ينشأ جيل الأطفال الجديد في قطاع غزة أقصر قامة وأنحل أبدانا من سابقه بفعل السياسة المنهجية التي جربت معه.
ينبغي إدراك أن التجويع الرهيب هو حرب تستهدف جيل الأطفال الفلسطينيين بصفة مضاعفة، ليس في حياتهم وسلامتهم وصحتهم وحسب؛ بل وفي تعليمهم وتوازنهم النفسي وحياتهم الاجتماعية أيضا.
أخرجت هذه السياسة الوحشية الطفل من صفوف التعليم عامين دراسيين حتى الآن وأجبرته على السعي اليومي المضني لتأمين فتات الطعام أو تعبئة الأوعية بماء شرب ملوث؛ بينما لا يحظى الوالدان المكلومان – إن أبقاهما القصف المتواصل أساسا- بفرصة التزود بأي شيء تقريبا لتلبية احتياجات هؤلاء الأطفال وإن كانوا من الرضع، فلا عمل متاحا ولا سوق يمكن اقتناء شيء منها بثمن معقول، وهكذا أيضا يعيد جيش الاحتلال هندسة المجتمع الفلسطيني بقلب الأدوار داخل بنيانه الأسري رأسا على عقب.
هندسة اجتماعية ومعنوية أيضاتمضي هندسة التجويع في استهداف منظومة القيم في المجتمع المحلي الفلسطيني إلى درجة يراد منها أن تذكي نزعات عدمية تحت وطأة الصدمة.
إن هندسة التجويع، على النحو الذي يمارسه الاحتلال، هي بمثابة هندسة اجتماعية أيضا، تبتغي ضمن مراميها المتعددة، تمزيق نسيج المجتمع المحلي الفلسطيني، واستهداف قيمه الجماعية ذات الطابع التكافلي والتراحمي والتضامني واستثارة نزعات الأثرة وحس "البقاء للأقوى" الأقدر على الوصول إلى أكياس الطحين المعدودة المحفوفة بالفخاخ القاتلة.
إعلانتتضمن هندسة التجويع، ضمن أدواتها المركبة، إجراءات استهداف قاتلة لمقومات الأمن المجتمعي وآليات فرض النظام في البيئة الفلسطينية الغزية؛ ممثلة بمطاردة الشرطة ومرافقها وقياداتها وعناصرها اغتيالا وقصفا، وقتل الفرق الشرطية المكلفة بتأمين قوافل المساعدات، ومن ثم قتل عناصر اللجان المجتمعية المكلفة بهذه المهمة بما في ذلك فرَق مرافَقة وحماية انتدبتها العشائر والعائلات الفلسطينية لهذا الغرض.
وقد تفتقت هندسة التجويع عن حيلة أكثر خبثا، فقد أطلقت أذرع الاحتلال أيدي اللصوص وأنشأت بؤرا محلية مختصة بالسطو والسلب كي تنهش المجتمع الفلسطيني من الداخل ماديا ومعنويا، وهندَست مقدمات فوضى شاملة للهيمنة على المشهد البشري في القطاع.
افتتحت قيادة الاحتلال حرب الإبادة بنعت الفلسطينيين بأنهم "خايوت آدام"، أي "حيوانات بشرية"، وتعاملت معهم سياسة التجويع بمنطق ينزع عنهم الصفة الإنسانية والكرامة البشرية، فأخرج الاحتلال فصول المشهد اليومي المتعلق بتوزيع "مساعدات" مزعومة على نحو يحاكي أفلام الموتى السائرين أو "الزومبي"، وفي هذه الحبكة ما يحرض الأذهان والوجدان على استسهال اصطيادهم واحدا تلو الآخر.
هكذا أحكمت هندسة التجويع إنتاج مشهد يهين كرامة الشعب الفلسطيني كي يجسد مخيال المستعمر الصهيوني المسلح الذي لا يرى الفلسطينيين بشرا لهم حق الحياة والطعام والشراب والدواء والأمان، فضلا عن أن يكونوا شعبا له حق في وطنه وأرضه ودياره بالأحرى.
باشر الاحتلال تصميم واقع ميداني يسحق الكرامة الإنسانية لحشود يفرض عليها الانخراط في مسير يومي طويل يبلغ عدة كيلومترات في مسارات جبرية تحت سطوة الشمس اللاهبة، طلبا لمادة أولية قابلة للأكل لن يظفر بها معظمهم.
تفرض هندسة التجويع على العالم أن يتعايش مع مشاهد مصائد الموت المحمولة من قطاع غزة إلى العالم، حتى صارت حصيلة ضحايا المجوعين المستشهدين بالعشرات بمقتضى "آلية مساعدات إنسانية" أميركية- إسرائيلية أمرا اعتياديا في التقارير الإخبارية اليومية.
إن نزع الكرامة الإنسانية عن البشر بهذه الطُرُق هو قبل أي شيء سلوك عقابي ذو طبيعة سادية، يأتي في هذه الحالة مطورا بإجراءات منهجية، لإنتاج مشهد البؤس والحرمان الذي تعجز هوليود عن إخراجه بهذا الإتقان الواقعي.
تحمل الشاشات إلى العالم كل يوم مشاهد الحشود الغفيرة التي تهيم على وجوهها المعفرة بالتراب وتتبدد تفاصيلها الإنسانية مع غبار الأرض الذي يخالط أجواء الباحثين عن طحين مغموس بدماء من يتساقطون منهم برصاص الجيش ومعاونيه الأميركيين.
إن الإذلال الرهيب الذي يبتغيه مهندسو التجويع هو من أشق الأثمان التي يتكبدها الفلسطينيون والفلسطينيات في قطاع غزة، فالمجتمع الفلسطيني يعاقَب جماعيا من خلال التجويع ومتلازمات حرب الإبادة عموما، لأسباب منها أن مقاومة هذا الشعب كسرت هيبة جيش الاحتلال الأسطورية ذات صباح.
يبتغي الاحتلال كي وعي الإقليم عموما، وليس الشعب الفلسطيني وحده، لردع كل من تسول له نفسه استلهام روح التحرر من الاحتلال، ولانتزاع أي قابلية معنوية للتمرد على سطوته الصاعدة.
ترسم سياسة التجويع صورة مفتعلة كي تنتصب بديلا عن صورة الفلسطيني المناضل الأبي، فهي تريده أن يظهر في لحظة استجداء تطارد كيس طحين مثقوبا، وتطلب وجبة حساء زهيدة وتحتفي بحفنة أرز مشكوك في صلاحيتها، وأن تحجب صورته الأصيلة مقاوما ومنتفضا عبر الأجيال؛ في ظلال ملحمة التدافع اليومي القسرية بحثا عن لقمة طعام أو شربة ماء.
على أن الوجه الحقيقي لحشود المجوعين أنه صراع مفروض على الإنسان الفلسطيني من أجل افتكاك حياة أطفاله ومرضاه ومسنيه من أنياب هذه السياسة الوحشية الحديثة. فالوحشية هي وصمة عار على السياسة المنهجية التي تستهدف هذا الشعب ولا تضير الفلسطيني إذ يتشبث بإرادة الحياة المحفوفة بالمخاطر القاتلة.
خبرات سياسة منهجية لها تاريخليس ما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي تجويعا وحسب؛ فهي سياسة منهجية مهندسة بمعنى الكلمة، تطورت مع خبرة سنوات مديدة من الحصار المفروض على قطاع غزة تحكمت خلالها سلطات الاحتلال عبر قوائم تفصيلية ومعايير صارمة بما يدخل إلى هذه الرقعة الضيقة المكتظة بالفلسطينيين، الذين يشكل الأطفال والأمهات معظمهم.
كانت للحصار معاييره المحسوبة في كل مرحلة من عدد الشاحنات المسموح بدخولها وطبيعة حمولتها وقائمة الأصناف المصرح بتوريدها وتلك المحظورة، وقد بلغ الأمر في سنوات الحصار حد الإفصاح عن توجه رسمي إسرائيلي للتحكم بالسعرات الحرارية المخصصة للفلسطينيين في قطاع غزة بحساب الرأس الواحد.
إعلانومع انطلاق سياسة الحصار سنة 2006 لخص دوف فايسغلاس مستشار كبير لرئيس الوزراء الإسرائيلي حينها إيهود أولمرت التوجه المعتمد بقوله: "الفكرة هي فرض حمية غذائية على الفلسطينيين لا أن يموتوا جوعا".
ومن المفارقات أن يقف أولمرت اليوم بعد تجربة سجن وخروج مهين من الحياة السياسية ليتهم دولته بأنها تقترف جرائم حرب.
وما إن أطلقت قيادة الاحتلال السياسية والعسكرية حربها الوحشية المديدة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بدءا من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حتى أفصح كبار المسؤولين فيها عن قرارات صارمة على مرأى من العالم، على النحو الذي عبر عنه وزير الحرب يوآف غالانت بعد يومين فقط من انطلاق الحرب (9 أكتوبر/ تشرين الأول) معلنا عن "قطع الغذاء والماء والكهرباء والوقود وكل شيء" عن قطاع غزة.
إن ما حسبه بعض المراقبين على المسرح الدولي مبالغة لفظية حينها كان التزاما مشددا تقيد به الاحتلال حرفيا منذ ذلك اليوم، بمقتضى سياسات "نكبة غزة 23" بتعبير الوزير الليكودي المخضرم آفي ديختر الذي أطلقه في الشهر الثاني من الحرب.
نضجت ملامح سياسة التجويع شهرا بعد شهر مسفرة عن طابعها المنهجي المركب الذي جعلها هندسة تجويع بحق، تقوم على التحكم المشدد، والسيطرة الشاملة على ما يسمَح بأن يجد سبيله إلى جوف كل فلسطيني وفلسطينية في القطاع الواقع في مرمى القصف المتواصل والتدمير الشامل والترويع الدؤوب.
إنها سياسة تجويع مطورة قضت ابتداء بشيطنة الأمم المتحدة عبر حملات دعائية منسقة، تمهيدا لإزاحة وكالاتها الإنسانية وآليات المساعدات الدولية المحترمة من المشهد الميداني في قطاع غزة بمقتضى خطط منهجية وقع تنفيذها بصفة دؤوبة، اشتملت على قصف مراكزها المخصصة لتخزين المساعدات وتوزيعها على الأهالي.
وبالتلازم مع حملات الدعاية جرى التمادي في استهداف مقار الأمم المتحدة وطواقم الهيئات الإنسانية والدولية وتحويل وجودها في القطاع إلى مخاطرة جسيمة، ولا تنفصل مجزرة "المطبخ المركزي العالمي" التي استهدفت فريق المنظمة بالقصف القاتل مطلع أبريل/ نيسان 2024 عن هذا المنحى أيضا.
لم يشهد العالم أي حالة أخرى تمارس فيها دولة ما كل هذا القدر من الغطرسة والاحتقار ضد الأمم المتحدة وأمينها العام الوقور، ورموز العمل الدولي التي تحظى بالتقدير، وما زال قادة الاحتلال الإسرائيلي يحظون فوق ذلك بامتياز الإفلات من المحاسبة والحصانة من العقوبات.
من المفارقات أن هذا النهج الاستثنائي الصارخ تصاعد بالتلازم مع نظر محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، في قضايا وملفات تتعلق بجرائم الحرب الإسرائيلية.
سُمح للاحتلال الإٍسرائيلي بأن يتمادى في هذا السلوك، الذي تضمن وَصم كبار المسؤولين الدوليين والمقررين الأمميين ومطاردتهم لفظيا وفرض عقوبات إسرائيلية وأميركية على بعضهم، وينبغي استذكار أن أوروبا السياسية حفزت هذا النهج الجسيم عندما هرول بعضها إلى معاقبة "الأونروا" بصفة عمياء بمجرد انطلاق حملة التحريض الإسرائيلية ضد الوكالة الدولية في نهاية 2023، ومن القسط القول إن تلك الحملة كانت من الخطوات التمهيدية في هندسة التجويع.
هددت هذه السياسة الوحشية الفئات الأضعف أول الأمر، فكان أول المتساقطين على طريقها الأطفال الخدج في حضانات المشافي، وأصحاب الحالات الحرجة من الرضع والأمهات وكبار السن وفئات معينة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
تخلص الاحتلال من حشود هائلة من الفلسطينيين بهدوء ولم يحتسبوا في قوائم الشهداء، لأن المنية وافتهم سريعا، قياسا بالأوقات الاعتيادية، بسبب نقص الدواء أو انعدام الرعاية الصحية أو جراء سوء التغذية، أو على خلفية ظروف وبائية أوجدها الحصار والتدمير والتشريد، أو لغير ذلك من الملابسات المتضافرة.
ذهبت تقديرات رصينة، بناء على ذلك، إلى احتساب أعداد من فتكت بهم حرب الإبادة بمؤشرات مضاعفة عن القائمة الرسمية المحدثة باستمرار، التي ينشرها مكتب الإعلام الحكومي في غزة تبعا لحصيلة وزارة الصحة الفلسطينية.
من ذلك أن دراسة نشرتها مجلة "لانسيت" قدرت أن حصيلة ضحايا حرب الإبادة في القطاع خلال الشهور التسعة الأولى من الحرب، أي حتى 30 يونيو/ حزيران 2024، تزيد عن إحصائية وزارة الصحة بنسبة 40%.
التجويع وجه الإبادة المرئيليس التجويع المنهجي حرمانا من الطعام وحسب، فهو يتوخى، مثلا، خدمة إستراتيجية التطهير العرقي المعلنة تحت عناوين شتى تفصح عن سياسات التهجير الداخلي ومخططات الطرد الخارجي، بل إن التجويع المنهجي يفضح حقيقة الإبادة الجماعية التي يصر حلفاء الاحتلال على إنكارها، أو التهوين منها بتعبيرات لفظية مراوغة.
تفصح سياسة التجويع الشامل عن توجهات الإبادة الجماعية السافرة، التي لا تقتصر على نزع مقومات الحياة الأساسية من الجماعة البشرية المستهدَفة، ممثلة في هذه الحالة الرهيبة بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بل تتخطاها إلى نزع هذه الجماعة البشرية من المكان واستدراجها من بقعة موضعية إلى أخرى والتحكم بحركة حشود البشر المجوعين داخل القطاع على أمل دفعهم إلى خارجه في لحظة مواتية محتملة إن تأتى ذلك لقادة الاحتلال.
إن التجويع المنهجي الذي يتسمّر العالم شاهدا عليه وهو يمارَس بلا هوادة بحق شعب فلسطين في قطاع غزة، هو ذروة السياسات الوحشية المطورة في العصر الحديث، وهو الوجه الأوضح للإبادة الجماعية بما يجود به من طوفان المشاهد التي تتخطى جدران الانحياز والعوائق المنصوبة في طريق صور الأشلاء والدماء "الصادمة" التي يحظَر نشرها وتدويرها عبر الشاشات والمنصات والمنابر الإعلامية.
إن أطفال الجلود على العظام صاروا الشاهد الأوضح على اشتغال الإبادة الجماعية الحديثة في ذروة ساديتها، مع تذكير العالم بأن قَرع أواني الغاضبين في ميادين العالم لا يكفي وحده لفرض الانصياع على كيان استعماري مطور سمح له بأن يذهب بعيدا في اقتراف الفظائع والأهوال على مرأى من الجميع، وما زال يتمادى في هذا النهج بلا هوادة رغم وفرة التقارير الدولية المحترمة التي ترصد ما يجري وتحذر منه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline