4 أغسطس، 2025
بغداد/المسلة: رياض الفرطوسي
ليس كل ما يُقصف يُقال، ولا كل ما يُقال يُفهم. في سماء الشرق الأوسط تتعالى مؤخراً لغة النار، لكن ما يُدار في الأعماق هو ما يستحق الإصغاء. الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية لم تكن فقط عملية عسكرية مركّبة، بل حلقة جديدة من سلسلة طويلة في معادلة ردع خفية، يُعاد هندستها على عجل، وتُدار كأنها رقصة أعصاب بين طرفين يتقنان الحساب أكثر مما يهوَيان الاشتباك.
بين تل أبيب وطهران ليس هناك مجرد خصومة سياسية، بل صراع رؤيوي على المستقبل، وتضاد عميق في نماذج القوة والهيمنة والوجود. إسرائيل، المهووسة بأمنها الوجودي، لا تطيق فكرة أن خصماً مثل إيران يمتلك قدرة نووية كامنة، حتى وإن كانت دون اكتمال. وإيران، المشبعة بتاريخ طويل من العزلة والصمود، تعتبر أن امتلاك أدوات الردع ليس رفاهية بل ضرورة وجودية، في إقليم يتغير توازنه كل عقد أو أقل.
الضربة الأخيرة جاءت مدروسة في توقيتها، محسوبة في نتائجها، ومصمّمة لتبعث برسائل متعددة الاتجاهات: إلى الداخل الإسرائيلي القلق، إلى واشنطن المترددة، إلى العواصم العربية المترقبة، وإلى طهران التي كانت تلوّح دائماً بأنها تعرف كيف ترد، لكنها لا تحدد متى. لكن في العمق، لم تكن الضربة مجرد استهداف لموقع أو مفاعل، بل لمحاولة كسر تصاعدي في توازن الرهبة المتبادل. هي ضربة تريد أن تقول: “نحن نملك اليد العليا في توقيت الضغط، ونحدد السقف المسموح به للطموح الإيراني”.
إلا أن إيران، التي باتت تدرك تماماً لعبة الرسائل، لم تستدرج إلى الرد الانفعالي. ردّها، كما جرت العادة، جاء على طريقة الحرب الباردة: بمزيد من التحصين، وباستعراض القدرة دون إثارة صخب، وكأنها تقول لتل أبيب: “نحن باقون في المعادلة، شئتم أم أبيتم، ونرد حين نشاء، لا حين تريدون”.
اللافت أن الصراع لا يجري فقط فوق الأرض أو تحتها، بل داخل العقول أيضًا. كل طرف يحاول أن يعيد تشكيل وعي الآخر. إسرائيل تزرع فكرة أن الضربة القادمة ستكون حاسمة، وإيران تزرع فكرة أن أي تصعيد سيقلب الطاولة. كل طرف يحاول أن يدير خوف الآخر، ويحوّله إلى أداة ضغط وتفاوض. من هنا تأتي فكرة “هندسة الخوف”: فن إدارة الرعب دون الدخول في الحرب الكبرى، وفن دفع العدو إلى التراجع من دون إطلاق رصاصة واحدة، أحياناً.
وما بين هذا وذاك، تقف المنطقة على حافة توتر ممتد. فكل تصعيد بين تل أبيب وطهران يخلق ارتدادات في بيروت، ودمشق، وبغداد، وصنعاء، وحتى في العواصم التي تدّعي الحياد. فالخوف من حرب كبرى لا يخصُّ إسرائيل وإيران وحدهما، بل يهدد بانهيار جغرافيا هشّة، وتفكك أنظمة سياسية، وعودة مشاهد الفوضى المسلحة في أكثر من بلد.
العالم، من جهته، لا يبدو مستعداً لتحمل كلفة حرب جديدة. فالولايات المتحدة غارقة في انقساماتها، وروسيا مشغولة بحربها مع الغرب في أوكرانيا، وأوروبا تئن تحت عبء اللجوء والركود، والصين تتابع بهدوء مصالحها في الخليج والبحر. كل ما يمكن أن يُمنح من هذه القوى العظمى هو تصريحات وتحذيرات، أما الفعل، فيُترك للأطراف الإقليمية لتدير معاركها بـ”الوكالة”، أو بما تملكه من خبرة في ضبط الإيقاع قبل الانفجار.
لكن السؤال الأهم لا يتعلق بما حدث، بل بما سيحدث بعده. هل كانت هذه الضربة فصلًا في نهاية مفتوحة؟ أم مجرد “مناورة بالنار” ضمن قواعد اشتباك جديدة؟ هل تسعى إسرائيل إلى جرّ إيران إلى المواجهة المباشرة، أم أنها تحاول استباق تطورات نووية باتت قريبة من الحسم؟ وهل يمكن لإيران أن تكتفي بردود محسوبة في وقت يتضخم فيه الضغط الداخلي والخارجي معًا؟
الإجابة لا تأتي من التصريحات الرسمية، بل من فهم أعمق لطبيعة التحول الجاري في بنية الصراع. لقد دخلنا، كما يبدو، مرحلة ما بعد الردع التقليدي. لم يعد السلاح النووي كافياً وحده لفرض الاحترام، ولا الطائرات المسيرة قادرة على إرباك الدفاعات. ما يُدار اليوم هو هندسة وعي جماعي، تهدف إلى زراعة الخوف بطريقة منهجية، وتحويله إلى لغة سياسية.
إنها لعبة مزدوجة: كل طرف يخاف من الآخر، ويخاف أن يظهر خائفاً. لذلك يُصعّد لكي لا يبدو ضعيفاً، ويهدّئ لكي لا يخسر السيطرة. والخطر في هذا النوع من الصراعات أنه لا يحتاج إلى قرار للانفجار، بل إلى خطأ واحد في الحساب. وخطأ واحد فقط، قد يبدد كل هندسة الخوف التي صُمّمت على مدى سنوات.
هكذا تمضي المعركة بين تل أبيب وطهران: مواجهة غير متكافئة ظاهرياً، لكنها متوازنة في الخوف. لعبة أعصاب طويلة، لا تعرف النهاية، ولا تجرؤ على الذهاب حتى آخر الشوط. وكلما اقتربت من الحافة، استعادت قواعدها القديمة: لا غالب ولا مغلوب، بل لاعبون بارعون في تجنب الخسارة الكبرى.
وفي هذه اللعبة، يظل الخوف هو العنصر الأقوى: ليس خوف الشعوب فحسب، بل خوف الأنظمة من أن تنهار تحت وهم السيطرة. وبهذا المعنى، فإن ما يُخاض الآن ليس حرباً بالمعنى الكلاسيكي، بل سباق محموم في هندسة الرعب، وضبط إيقاع التهديد، وتصميم سيناريوهات لا يُراد لها أن تتحقق، بل أن تُخيف فقط.
وبين كل هذه الحسابات، تبقى المنطقة حبلى بالأسئلة الثقيلة: إلى متى يمكن للهندسة أن تمنع الانفجار؟ وهل يمكن حقاً التحكم بالخوف إلى الأبد دون أن يتحول يوماً إلى كارثة حقيقية؟ أم أن كل هذه المعركة ما هي إلا مقدمة لحرب أكبر، لا تعرف متى تبدأ، لكن الجميع يعرف أنها ستكون مكلفة بما لا يُحتمل؟
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: بین تل أبیب وطهران
إقرأ أيضاً:
3 فائزين بنوبل الاقتصاد عن أبحاثهم حول تأثير التكنولوجيا على النمو
13 أكتوبر، 2025
بغداد/المسلة: مُنِحت جائزة نوبل الاقتصاد الاثنين للاميركي-الإسرائيلي جويل موكير والفرنسي فيليب أغيون والكندي بيتر هويت عن دراساتهم المتعلقة بتأثير التكنولوجيا على النمو الاقتصادي.
وحصل موكير (79 عاما) على نصف الجائزة “لتحديده المتطلبات الأساسية للنمو المستدام من خلال التقدم التكنولوجي”، على ما أوضحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم.
وعللت منحَ النصف الآخر لأغيون (69 عاما) وهويت (79 عاما) بالتساوي بـ”نظريتهما المتعلقة بالنمو المستدام من خلال الهدم الخلاق”.
على مدى القرنين الأخيرين، شهد العالم للمرة الأولى في تاريخه، نموا اقتصاديا منتظما، وأوضح الفائزون هذا العام كيف حفز الابتكار النمو ووفّر الزخم لاستمراره، على ما أوضح رئيس لجنة جائزة العلوم الاقتصادية جون هاسلر.
وشرحت لجنة التحكيم في بيانها أن جويل موكير، وهو أستاذ في جامعة نورث وسترن الأميركية، “استخدم مصادر تاريخية لاكتشاف أسباب النمو المنتظم الذي أصبح الوضع الطبيعي الجديد”.
وأشارت إلى أن فيليب أغيون وبيتر هاويت درسا مفهوم “التدمير الخلاق”، ومفادُه أن “طرحَ منتَج جديد وأفضل في السوق يؤدي إلى خسارة للشركات التي تبيع المنتجات القديمة”.
ووصفت هذه العملية بأنها “خلاّقة لأنها تقوم على الابتكار، ولكنها مدمرة أيضا لأن المنتجات القديمة يتجاوزها الزمن وتفقد قيمتها التجارية”.
وقالت أستاذة التاريخ الاقتصادي عضو لجنة نوبل كيرستين إنفلو لدى إعلانها عن أسماء الفائزين إن دراساتهم “تُذكّر بأن التقدم يجب ألاّ يُعَدَّ أمرا مُسلَّما به، بل على العكس، ينبغي أن يظل المجتمع منتبها للعوامل التي تُولِّد النموّ الاقتصادي وتُحافظ عليه. وهذه العوامل هي الابتكار العلمي، والتدمير الخلاق، ومجتمع مُنفتح على التغيير”.
واعتبر أحد الفائزين الثلاثة فيليب أغيون لدى إعلان منحه الجائزة أن “الانفتاح محرك للنمو، وأي شيء يعيقه يُعدّ عقبة أمام النمو”، في وقت عمدت الولايات المتحدة إلى رفع تعريفاتها الجمركية.
ونبّه أوروباإلى أنها يجب ألا تسمح للولايات المتحدة والصين “بأن تصبحا رائدتين في مجال التكنولوجيا”.
ويتلقى الفائزون شيكا بقيمة 11 مليون كرونة (1,16 مليون دولار) يُقسّم في ما بينهم.
– جائزة أنشئت عام 1969 –
ويخلف الفائزون بالجائزة هذه السنة ثلاثيا آخر نالها العام الفائت، يتألف من الأميركي التركي دارون عجم أوغلو والأميركيين البريطانيين سايمون جونسون وجيمس روبنسون، لأبحاثهم بشأن انعدام المساواة في توزع الثروات بين الدول.
وتُعَدُّ فئة الاقتصاد جائزة نوبل الوحيدة التي لم تكن من بين المكافآت الخمس الأصلية التي أُنشئت بموجب وصية العالم السويدي ألفريد نوبل الذي توفي عام 1896.
وقد أُطلقت هذه الجائزة من خلال تبرع قدّمه البنك المركزي السويدي في عام 1968، ما دفع المنتقدين إلى وصفها بأنها “جائزة نوبل مزيفة”، وبها يُختَـَم عادة موسم هذه الجوائز.
ومُنِحَت جائزة نوبل للسلام الجمعة لزعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، “المحرِرة” المرغمة على العيش في الخفاء في بلد تحول “دولة قاسية واستبدادية”، بحسب لجنة نوبل النروجية.
وقبلها، نال جائزة نوبل للآداب الكاتب المجري لازلو كراسناهوركاي الذي يخوض في أعماله في الواقع المرير والشجن. واختارت اللجنة مكافأة كراسناهوركاي البالغ 71 عاما “لنتاجه المذهل والرؤيوي الذي يعيد التأكيد على قوة الفن في وسط رعب أقرب إلى نهاية العالم”.
وفاز ثلاثي أيضا يضم الأردني الأميركي عمر ياغي والياباني سوسومو كيتاغاوا والبريطاني المولد ريتشارد روبسون بجائزة نوبل في الكيمياء لتطويرهم هياكل جزيئية هي الهياكل الفلزية العضوية، يمكنها “احتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزين الغازات السامة أو تحفيز التفاعلات الكيميائية”.
أما نوبل الفيزياء فكانت كذلك من نصيب ثلاثة باحثين هم البريطاني جون كلارك والفرنسي ميشال ديفوريه والأميركي جون مارتينيس لاكتشافهم “النفق الكمومي” في ميكانيكا الكم، وهو علم معقد يصف العالم على نطاق متناه في الصغر.
وأُعطيَت جائزة نوبل في الطب لثلاثة أيضا هم الباحثان الأميركيان ماري إي. برونكو وفريد رامسديل، والعالم الياباني شيمون ساكاغوتشي، تقديرا لأبحاثهم حول كيفية تحكم الجسم في الجهاز المناعي.
وتتألف جائزة نوبل من شهادة وميدالية ذهبية وشيك بقيمة 11 مليون كرونة سويدية (ما يقارب 1,16 مليون دولار). ويحصل جويل موكير على نصف المبلغ، فيما يتقاسم فيليب أغيون وبيتر هويت النصف الآخر. وتُسلَّم الجائزة في العاشر من كانون الأول/ديسمبر.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts