الإعلام العربي في عصر الهيمنة الرقمية
تاريخ النشر: 19th, October 2025 GMT
يشهد الفضاء العربي لحظة فارقة في تاريخه الإعلامي. فلم تعد التحولات الرقمية مجرد طفرات تكنولوجية، بل تحوّلت إلى ظاهرة بنيوية تُعيد تشكيل موقع الإعلام في بنية الدولة والمجتمع والاقتصاد. فما نشهده من انتقال متسارع نحو البيئات الرقمية لا يقتصر على تغيير أدوات النشر والتفاعل، بل يطرح تساؤلات عميقة حول موقع الإعلام العربي في مشهد عالمي تزداد فيه المنافسة على التأثير، والمعرفة، والسيادة الرقمية.
لقد تحرّر الإعلام العربي، وإن جزئيًّا، من البُنى التقليدية التي قيدت فاعليته لعقود، وبدأ يُعيد تعريف نفسه في ظل فضاء رقمي يتيح له تجاوز الحواجز الجغرافية والسياسية. وفي القلب من هذا التحول، تبرز المنصات الرقمية العربية بوصفها مجرد أدوات لنقل المحتوى، بل لإنتاج الواقع الاقتصادي والثقافي، والتأثير في أنماط الاستهلاك، واتجاهات الرأي العام.
فمنذ اتساع نطاق الإنترنت والهواتف الذكية، أصبح المشهد الرقمي العربي أحد أكثر المشاهد نموًا على مستوى الاستخدام والتفاعل. إلا أن هذا التمدد الكمي لم يُترجم دائمًا إلى مضمون نوعي قادر على تمكين الإنسان العربي من أدوات الفهم والتأثير في مجاله العام. وهنا تتجلى الإشكالية الكبرى: كيف يمكن الانتقال بالإعلام الرقمي العربي من حالة التلقي إلى حالة الفعل، ومن التفاعل السطحي إلى البناء الاستراتيجي؟
اللافت أن المنصات العالمية، مثل تيك توك، قدمت نموذجًا لكيفية هيكلة منصة رقمية تتجاوز كونها وسيلة ترفيه، لتصبح فاعلًا اقتصاديًا وسياسيًا عابرًا للحدود. انطلقت المنصة من الصين، لكنها فرضت نفسها في السوق الأميركية والأوروبية، وبلغ عدد مستخدميها أكثر من 700 مليون مستخدم نشط شهريًا بحلول عام 2020، من بينهم 40 مليونًا في الولايات المتحدة وحدها. هذا النمو لم يأتِ عبر الأطر التقليدية لنشر المحتوى، بل عبر إعادة برمجة الترفيه نفسه، وتقديمه بوصفه لغة العصر، ومفتاحًا للنفاذ إلى وعي الأجيال الجديدة.
هذا النموذج يؤكد أن أي منصة رقمية تمتلك القدرة على تجاوز الحدود الوطنية متى ما امتلكت الرؤية، والقدرة على الابتكار، ومهارة صياغة خطاب رقمي يتقاطع مع السياقات الثقافية والاجتماعية لمستخدميها. ولعل هذا الدرس ينبغي أن يكون في صلب أي مشروع عربي لإنشاء منصة رقمية قادرة على توسيع الحضور العربي عالميًا، ليس كرد فعل على الهيمنة الرقمية الغربية أو الشرقية، بل كخيار واعٍ لبناء مستقبل رقمي ذي سيادة معرفية وقيمية.
في هذا الإطار، برزت خلال السنوات الماضية منصات عربية استطاعت أن تخلق مساحة خاصة بها، مثل "نون" في التجارة الإلكترونية، و"كريم" في النقل الذكي، و"أبجد" في المحتوى الثقافي. وقد ساهمت هذه المنصات في خلق فرص عمل، وتمكين رواد الأعمال، وفتح نوافذ جديدة أمام الاقتصاد غير التقليدي. إلا أن هذا النجاح، على أهميته، لا يزال محصورًا في نماذج فردية ومحدودة التأثير على المستوى البنيوي العام.
والمفارقة أن حجم سوق الإعلام الرقمي العربي لا يزال أقل بكثير من إمكاناته الحقيقية. ففي ظل أكثر من 400 مليون ناطق بالعربية، وارتفاع مستويات استخدام الإنترنت في دول الخليج وشمال أفريقيا، تبقى نسبة المحتوى العربي على الإنترنت أقل من 3%، بحسب بعض التقديرات. إن هذا الضعف في الحضور الرقمي العربي لا يعود إلى نقص الوسائل، بل إلى غياب هندسة فكرية تؤطر الإعلام الرقمي كمنصة للتنمية والسيادة الثقافية والاقتصادية.
ولا تقتصر أهمية الإعلام الرقمي العربي على مستوى الاقتصاد الرقمي أو التجارة الإلكترونية، بل تمتد إلى بناء القوة الناعمة العربية، وإعادة تقديم الرواية الذاتية للعالم. فكما استطاعت الصين أن تدمج مشاريعها الرقمية ضمن رؤيتها الجيوسياسية، يمكن للدول العربية أن تُعيد تقديم نفسها للعالم من خلال خطاب رقمي يعبّر عن مصالحها وقيمها، ويخاطب الأجيال الجديدة بلغتها وأسئلتها، بعيدًا عن الصور النمطية التي رسّختها منصات إعلامية عالمية ذات مصالح موجهة.
ورغم كل هذه الإمكانات، لا تزال التحديات قائمة. فغياب بنية تحتية رقمية قوية في بعض الدول، وتفاوت مستوى الاستثمار في التعليم التقني، والافتقار إلى تشريعات واضحة لحماية الحقوق الرقمية، كلها عوامل تعيق نمو الإعلام الرقمي العربي وتحوله إلى رافعة اقتصادية فعلية. إلى جانب ذلك، فإن النزعة الفردية في تطوير المنصات، وغياب التكامل الإقليمي، تجعل من كل تجربة ناجحة مشروعًا معزولًا بدلًا من أن تكون نواة لنموذج إقليمي أوسع.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الفضاء العربي موقع الإعلام الدوله الإعلام الرقمی العربی
إقرأ أيضاً:
لماذا أوقفت الصين خطط إصدار عملات رقمية مستقرة؟
أوقفت شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة خططها لإطلاق عملات مستقرة في هونغ كونغ، بعد أن أثارت بكين مخاوف بشأن صعود العملات التي يسيطر عليها القطاع الخاص.
وأعلنت شركات، منها مجموعة "آنت غروب" المدعومة من "علي بابا" ومجموعة التجارة الإلكترونية "جيه دي دوت كوم"، خلال الصيف الماضي، أنها ستشارك في برنامج هونغ كونغ التجريبي للعملات المستقرة أو ستصدر منتجات مدعومة بأصول افتراضية، مثل السندات الرمزية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أميركا تبحث تعزيز مشاركتها بقطاع المعادن الحيوية في ليبيرياlist 2 of 2كيف يبدو وضع أسواق النفط العالمية في 2025 و2026؟end of listلكنها علّقت منذ ذلك الحين طموحها المتعلق بالعملات المستقرة بعد تلقيها تعليمات بعدم المضي قدما من الجهات التنظيمية الصينية، بما في ذلك بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) وإدارة الفضاء الإلكتروني الصينية، حسبما نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن مصادر وصفتها بالمطلعة.
والعملات الرقمية المستقرة هي رموز رقمية مرتبطة بعملات ورقية، مثل الدولار الأميركي، وتعد حجر الزاوية في تداول العملات المشفرة.
مخاوفحسب 5 مصادر، فإن مسؤولي بنك الشعب الصيني نصحوا بعدم المشاركة في الطرح الأولي للعملات المستقرة بسبب مخاوف بشأن السماح لمجموعات التكنولوجيا وشركات الوساطة بإصدار أي نوع من العملات.
وقال مصدر مطلع على إحاطات البنك المركزي لمجموعات التكنولوجيا إن إصدار عملات مستقرة يديرها القطاع الخاص يُنظر إليه أيضا على أنه تحدٍّ لمشروع العملة الرقمية لبنك الشعب الصيني، "اليوان الرقمي".
ونقلت الصحيفة عن مصدر آخر قوله: "يكمن القلق التنظيمي الحقيقي في من يملك الحق النهائي في إصدار العملات: البنك المركزي أم أي شركات خاصة في السوق؟".
إصدار عملات مستقرة يديرها القطاع الخاص يُنظر إليه على أنه تحدٍ لمشروع العملة الرقمية لبنك الشعب الصيني، اليوان الرقمي
ورفض السلطات الصينية يؤكده مدى حرص الجهات التنظيمية حول العالم على الاستجابة لظهور العملات المستقرة، لا سيما بعد أن روجت لها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبارها ركيزة للتمويل ووسيلة لاستعراض هيمنة الدولار الأميركي.
إعلانوقال البنك المركزي الأوروبي إن الاعتماد الواسع النطاق على العملات الرقمية المستقرة المستندة إلى الدولار قد تعوق قدرته على التحكم في السياسة النقدية.
وفي أغسطس/آب الماضي، بدأت سلطة النقد في هونغ كونغ -وهي البنك المركزي الفعلي للإقليم- بقبول طلبات مُصدري العملات المستقرة، مُرسّخة بذلك مكانتها كساحة اختبار للبر الرئيسي الصيني.
وفي الصين، ازداد الاهتمام ببرنامج هونغ كونغ خلال الصيف، إذ أشار بعض المسؤولين إلى أن العملات المستقرة المقومة بالرنمينبي قد تُعزز الاستخدام الدولي لليوان.
في يونيو/حزيران، قال تشو غوانغياو، نائب وزير المالية السابق في الصين، إن "الهدف الإستراتيجي وراء ترويج الولايات المتحدة للعملات الرقمية المستقرة هو الحفاظ على هيمنة الدولار"، ومن الضروري أن تستجيب الصين لهذا التحدي المالي من خلال تطوير عملة مستقرة مرتبطة بالرنمينبي.
وقال تشو في منتدى عُقد في بكين في يونيو/حزيران: "يجب أن نستفيد بشكل كامل من البرامج التجريبية في هونغ كونغ.. يجب دمج عملة الرنمينبي المستقرة في التصميم الشامل للإستراتيجية المالية الوطنية".
لكن شخصين مطلعين على خطط مجموعات التكنولوجيا قالا إن الجهات التنظيمية المالية تتخذ نهجا أكثر حذرا عقب خطاب ألقاه محافظ بنك الشعب الصيني السابق، تشو شياوتشوان، أواخر أغسطس/آب الماضي.
وفي منتدى مالي مغلق عُقد في بكين في يوليو/تموز، حث تشو على إجراء تقييم شامل للعملات المستقرة والمخاطر النظامية المحتملة التي تُشكلها.
وقال تشو في منتدى "تشاينا فاينانس 40" -وفق مقال نشره لاحقا مركز الأبحاث المدعوم من الدولة- "نحن بحاجة إلى توخي الحذر من خطر الاستخدام المفرط للعملات المستقرة في المضاربة على الأصول، لأن التوجيه الخطأ قد يؤدي إلى الاحتيال وعدم الاستقرار في النظام المالي".
وحث تشو على "تقييم دقيق للطلب الحقيقي على العملات الرقمية كأساس تكنولوجي".
وأضاف: "على الرغم من اعتقاد كثيرين أن العملات المستقرة ستعيد تشكيل نظام المدفوعات، فإنه في الواقع لا يوجد مجال كبير لخفض التكاليف في النظام الحالي، لا سيما في مدفوعات التجزئة".
تشو غوانغياو، نائب وزير المالية السابق في الصين، قال إن "الهدف الإستراتيجي وراء ترويج الولايات المتحدة للعملات الرقمية المستقرة هو الحفاظ على هيمنة الدولار"