على قادة التكنولوجيا أن يردّوا الجميل للمجتمع حفاظًا على الصالح العام
تاريخ النشر: 22nd, October 2025 GMT
بقلم: أبيلو ألميدا / ترجمة: بدر بن خميس الظّفري
منذ زمن بعيد، قبل بزوغ التكنولوجيا الحديثة بقرون طويلة، وُجدت فكرة الصالح العام. لم تولد مع نشوء المجتمع ذاته، بل ظهرت لاحقًا حين أدرك الناس أن إهمالها قد يفضي إلى انهيار المجتمع.
لقد عرفت معظم الثقافات مبادئ تعزز التماسك الاجتماعي ورفاه الأفراد. ومن أوائل الأمثلة على ذلك «شريعة حمورابي» التي وُضعت قبل آلاف السنين، والتي كانت تعاقب بعض الكاذبين بحلاقة مشينة للرأس (عقوبة رمزية تفضح صاحبها أمام الناس)، وكذلك القوانين الواردة في النصوص التوراتية القديمة التي ألزمت أصحاب الأرض بأن يتركوا جزءًا من محاصيلهم للفقراء والأيتام والأرامل والغرباء.
لكن التحدي الأكبر ظل دائمًا في كيفية رسم حدود تطبيق هذه المبادئ: هل تشمل الجميع، أم تقتصر على أبناء جنسنا وثقافتنا وبلدنا وعائلتنا؟ وهنا يبدأ الغموض وتتعقد الإشكالات.
إن انعدام الالتزام بالصالح العام يبدو جليًا في كثير من أزمات العصر: من النزاعات وعدم المساواة إلى الأزمات الإنسانية وتدهور البيئة. واليوم، يتجاوز هذا الإهمال نطاق العالم المادي ليصل إلى الفضاء الرقمي، حيث يقضي الناس جزءًا متزايدًا من حياتهم.
ولعل اللحظة مناسبة لإعادة التقييم، بعد مرور قرن كامل على نجاح المخترع الإسكتلندي جون لوجي بيرد في نقل صور لوجوه بشرية عبر شاشة التلفاز، فاتحًا الطريق أمام تدفق لا نهائي من المحتوى إلى العالم على الإنترنت، تصوغها الخوارزميات وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ويبقى السؤال: هل نحرص، كمجتمع، على أن تحافظ تكنولوجيا الاتصال على الصالح العام، أو على الأقل ألا تسيء إليه؟ أظن أننا لا نفعل ذلك بالقدر الكافي، غير أن الواجب يحتم علينا أن نفعل. ومن هنا أطرح «بيانًا» يدعو إلى تصميم الخوارزميات وتشغيلها بروح تستحضر الصالح العام.
وسائل جديدة، مشكلة قديمة
في القرن العشرين، برز التلفاز كأحد أبرز الأدوات التي شكّلت وعي الناس بالواقع. وقد ارتبطت كلمة «تلفاز» في أذهاننا اليوم بالجهاز المنزلي، غير أن العالم الروسي كونستانتين بيرسكي حين استخدم المصطلح لأول مرة عام 1900، كان يشير إلى فكرة أوسع: نقل الصور من مسافة بعيدة.
وبالاستناد إلى تلك الفكرة، يمكن القول إن عالم الصور المحيط بنا اليوم، من البث المتدفق إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ليس سوى تطور إضافي لمسار التلفاز. التقدم التكنولوجي واضح، لكن التقدم الاجتماعي يكاد يكون راكدًا.
في البدايات، وعلى الرغم من تضارب المصالح الخاصة المحيطة بالتلفاز، ظهرت محاولات جادة، على الأقل في بعض المناطق، لتوجيهه نحو خدمة الصالح العام، وكانت البثوث الإعلامية تسترشد بمبادئ مثل المصلحة العامة والخدمة العامة.
أما اليوم، فقد باتت هذه الغايات رهينة الخوارزميات والذكاء الاصطناعي وقلة من الشركات الخاصة التي تتحرك بدوافع مشروعة، لكن يغلب عليها هاجس المصلحة الذاتية والربح. وهنا يختلف المشهد كثيرًا عمّا عرفه الناس في القرن الماضي. ومع ذلك، تبقى الغاية الأسمى هي السعي للصالح العام، لأنه، وليس هذا من باب البلاغة، مصيرنا جميعًا يتوقف عليه.
لحسن الحظ، لدينا خبرة طويلة في هذا المجال. إن عادة مشاهدة الصور القادمة من بعيد ليست أمرًا مستجدًا، بل رافقت الإنسان منذ أولى تجليات الخيال والقصص. فحكايات السمر عند النار والرسوم الفنية في العصور القديمة تكشف عن البذور الأولى لفكرة التلفاز، إذ كانت صورًا تستحضرها المخيلة، تحمل في طياتها إمكانية مزدوجة، فإما أن تخدم الناس من خلال تعزيز القيم الاجتماعية وإيجاد مرجعيات مشتركة، أو أن تُهمل تلك الوظيفة وتُسخَّر للمصالح الخاصة، فتغذي الإقصاء أو تروّج للمعلومات المضللة.
التلفاز، وما تبعه من وسائط، لم يفعل سوى أن حوّل هذه الممارسة الإنسانية إلى صيغة تكنولوجية. ففي الثاني من أكتوبر عام 1925، سجّل المخترع والمهندس الإسكتلندي جون لوجي بيرد، رائد التجارب الأولى في التلفاز، لحظة رمزية خالدة عندما نجح عام 1925 في بث صورة وجه يمكن التعرف عليه بالأبيض والأسود أولًا لرأس دمية، ثم لوجه شاب يُدعى ويليام تاينتون. كانت تلك المرة الأولى التي يتحقق فيها هذا الإنجاز العلمي.
بين عامي 1925 و1960، ترسّخت تقنية التلفاز واكتسبت بُعدًا اجتماعيًا. ومع تزايد عدد المستخدمين، برزت تساؤلات حول دوره وأثره. عندها تبلورت مدرستان رئيستان شكّلتا مسار تطور التلفاز في العالم، مستندتين إلى مبادئ سبق أن وُضعت للإذاعة، مثل الميثاق الملكي لهيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي)، وقانون الراديو الأمريكي لعام 1927.
النموذج الخدمي العام يركّز على المواطن ويسعى دومًا إلى تعزيز التماسك الاجتماعي والرفاه العام. وقد اعتمدت المملكة المتحدة هذا النموذج، ولا يزال يشكّل جوهر فلسفة هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) النموذج التجاري: يركّز على الربح، لكنه لا يصرّح بالتخلي عن القيم الاجتماعية في سبيل المكسب. وقد كانت الشبكة الوطنية للبث (إن. بي. سي)، ونظام البث الكولومبي (سي .بي. س) رائدتين لهذا التوجه في الولايات المتحدة. وحتى في إطار هذا النموذج التجاري، لا يمكن إغفال الصالح العام؛ فهذه الشركات تعمل داخل المجتمع، وبالتالي يُتوقع منها أن تلتزم أيضًا بالمصلحة العامة.
والدرس هنا واضح، وهو أنه تقع على عاتق المجتمع، من خلال التشريعات والأنظمة، مسؤولية ضمان ألا يقتصر دور الفاعلين الكبار في المشهد الرقمي على تجنّب الإضرار بالمصلحة العامة، بل أن «يردّوا الجميل» مقابل شغلهم الحيز الاجتماعي، عبر مبادرات ملموسة تعود بالنفع على الصالح العام، سواء على المستوى المحلي أو العالمي.
ومنذ ستينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته، أصبح جهاز التلفاز واحدًا من أكثر الأدوات تأثيرًا في حياة البشر. فقد تشكّلت لدى الجماهير العريضة فكرة مشتركة عن «الواقع العالمي» من خلال متابعة أحداث كبرى مثل هبوط بعثة «أبولو 11» على سطح القمر عام 1969، أو نشرات الأخبار التي غطّت حرب فيتنام. ومع ذلك، حذّرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في تقرير أصدرته عام 1980 من أن تلك الرؤية للعالم لم تكن كاملة دومًا، إذ كانت تُعرض أحيانًا بفلترة من الدول المنتجة للمحتوى. ورغم أن هذه الملاحظة أثارت جدلًا حينها، فإنها من منظورنا اليوم تبدو أقرب إلى دعوة لتحقيق العدالة والإنصاف، لا إلى اتهام صريح بالرقابة.
هناك درس إضافي يمكن استخلاصه وهو أن عالمًا أكثر حرية وترابطًا واعتمادًا على التكنولوجيا، لا ينبغي أن يسعى إلى تنميط البشر وتوحيدهم في قالب واحد، بل إلى ضمان أن تُرى الفوارق وتُحترم وتُسمع أصواتها.
بين عامي 1990 و2010، أخذ المنطق العام للتلفاز، حيث كانت جماهير واسعة ومختلطة تشاهد البرامج نفسها، يتراجع تدريجيًا أمام نزعة متزايدة نحو الاهتمامات المتنوعة والمتخصصة، سواء في الإنتاج أو الاستهلاك. وقد تضاعف هذا الاتجاه بشكل هائل مع انتشار الإنترنت. لقد كان ذلك بداية الانتقال إلى عالمنا الحالي المغمور بالمعلومات. غير أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) لفتت الانتباه عام 2005 إلى تحدٍّ أساسي، وهو أنه لم يكن المهم أن تكون المعلومات متاحة فقط أو أن تحترم حرية التعبير، بل أن تتحول إلى معرفة نافعة للناس والمجتمعات.
وحتى اليوم، يبقى هذا التحدي قائمًا. فالنفاذ الحر إلى المنظومة الرقمية وما تتيحه ليس كافيًا. من الضروري أيضًا ضمان أن يخدم استخدامها مصلحة الفرد والجماعة معًا.
ومنذ 2010 وحتى 2025، صار مستخدمو الهواتف الذكية وذوو النفاذ إلى الإنترنت هم من يشكلون ملامح الإعلام. ولتعزيز هذه التجربة، برز لاعبون جدد على الساحة، أبرزهم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الذكاء الاصطناعي. شيئًا فشيئًا تراجعت هيمنة الأفكار والعمومية والتوقعات المسبقة، لتحل محلها العاطفة والتخصيص عدم اليقين. كما تغيّر معنى «المجتمع» ذاته؛ فلم يعد مرتبطًا بالمكان الفيزيائي، بل بالمصالح المشتركة والعادات والمحتوى الرقمي.
إن العالم الرقمي لم يعد منفصلًا عن الحياة اليومية، بل أصبح جزءًا أصيلًا منها. فلا غنى عنه في المدارس والخدمات العامة والمعاملات المصرفية والعمل. وهذا غيّر كل شيء. وقد ذكّرتنا اليونسكو عام 2023 بأن احترام حقوق الإنسان يجب أن يكون الوقود الذي يحرك العالم الرقمي، لا أن يُترك على الهوامش.
إن الهمّ الذي شغل الأذهان قبل قرن ليس بعيدًا عن همومنا اليوم، وهو إعطاء معنى اجتماعي وديمقراطي للصور التي تحيط بنا. في الماضي، كان الإنسان هو من يصوغ تلك الصور. أما اليوم، فقد دخلت «عوامل غير بشرية» من خوارزميات وأدوات ذكية، لتفلتر وتنظم وتوجّه جزءًا كبيرًا مما نراه ونقرأه ونسمعه.
في هذه المرحلة، ربما لم يعد السؤال الأهم إلى أين يتجه التقدم التكنولوجي؟، بل السؤال الأهم هو أنه بعد كل هذا التقدم التقني، أين يقف التقدم الاجتماعي والديمقراطي؟ وهل ما زالت فكرة «الخدمة العامة» حاضرة في وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي اليوم؟
ومن هنا أطرح «بياني»، المشبع بالقلق والخوف وعدم اليقين، حول ضرورة أن يضمن المجتمع إدماج هذه القوى الجديدة التي تشكّل الواقع في منظومة تستشعر الصالح العام، وتستبقي ما يحافظ عليه.
لقد بُذلت في الماضي جهود لغرس هذا الحس في الناس. فمثلًا، المبدأ الذي وجّه عمل هيئة الإذاعة البريطانية (بي .بي. سي) المتمثل في «الإعلام، والتعليم، والتسلية» جسّد رؤية اجتماعية للصالح العام، واهتماما برغبات بالناس ظل مصدر إلهام للعاملين وللمحتوى الذي ينتجونه. أما اليوم، ورغم أن الرقابة البشرية ما زالت ضرورية، فإن هذا الحس ينبغي أن يُبنى أيضًا في الخوارزميات التي تقودنا.
والغاية هي أن نستطيع، كمجتمع أن «نُخضع الصالح العام للخوارزميات»، أي أن نترجم رمزيًا إلى لغة التكنولوجيا السائدة المبادئ الاجتماعية الراسخة التي طالما سعت إلى صون الكرامة الإنسانية، وتحقيق العدالة، وترسيخ التضامن، وضمان رفاهية الجماعة. أما النقاط التسع الواردة أدناه، فهي دعوة متواضعة ومفتوحة إلى الباحثين والحكومات وشركات التكنولوجيا لتصحيحها وتطويرها وتوسيعها.
تسع أولويات:
ترسيخ الخدمة العامة: سواء من خلال وضع مخصصات يمكن تفعيلها أو عبر تدفق مستقل من المحتوى، فإن الحاجة ملحة لضمان أن أي منصة، حين تصل إلى عدد معين من المستخدمين، توفر فضاءً للمحتوى ذي القيمة الاجتماعية. وكما أثبتت تجربة هيئة الإذاعة البريطانية، فإن الخدمة العامة لا تعني الملل؛ فهي قادرة على إثارة المشاعر، وإمتاع الجمهور، وإدخال البهجة في نفوسهم. ويمكن تمويل هذا النوع من المحتوى عبر اقتطاع نسبة من أرباح المنصة. أما الإشراف عليه، فيجب أن يُوكل دائمًا إلى جهات مستقلة، لضمان وجود مساحة خالية من ضغوط السوق، يُعامل فيها المستخدمون كمواطنين لا كزبائن.
تعزيز القيم المشتركة: إن الصالح العام يحتاج إلى فضاء مشترك يلتقي فيه الجميع، حيث يمكنهم الرؤية والتجربة معًا. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك في بيئة رقمية تروّج للنزعة الفردية؟ يكمن الحل في تشجيع المحتوى الذي يستمد قيمته من صلته بالجمع، لا بالفرد وحده، سواء على المستوى المحلي أو العالمي. ويمكن أن يتجسد هذا الفضاء المشترك في تدفق للخدمة العامة يقدّم محتوى يعبر الأجيال وأنماط الحياة والثقافات، ويتيح خبرات جامعة وواسعة النطاق.
ضمان التربية الاجتماعية: في زمننا الراهن، يستطيع أي شخص أن يكون صانع محتوى. بخلاف الماضي، حيث كان كثير من الإعلاميين يتلقون تدريبًا متخصصًا ضمن مؤسسات رسخت فيهم حسًا اجتماعيًا، يكفي اليوم إنشاء
حساب جديد للانطلاق في النشر. ونتيجة لذلك، كثيرًا ما تتم عملية التواصل من دون وعي جمعي. لذا يصبح لزامًا على المنصات أن تتحمل مسؤولية تعزيز هذا الوعي. ويمكن، على سبيل المثال، إلزام الحسابات التي تصل إلى عشرة آلاف متابع أو مليون متابع بخوض دورات قصيرة ولكن إلزامية في التربية الاجتماعية. فذلك يضمن ألا تتحول حرية القلة إلى أداة لقمع الكثرة.
دمج الديمقراطية: هل تعكس المنصات الرقمية المبادئ الديمقراطية في حياتنا الرقمية؟ الجواب: لا. ولهذا من الضروري أن نمنح هذه المنصات بعدًا ديمقراطيًا، يتيح للمستخدمين صوتًا مسموعًا. ويشمل ذلك إجراء استفتاءات بشأن القرارات التي تؤثر في التجربة الجماعية، واعتماد ممارسات أكثر شفافية وخضوعًا للمساءلة. من غير المنطقي أن تكون حياتنا الرقمية، التي نقضي فيها وقتًا متزايدًا، أدنى من القيم الديمقراطية التي نتمسك بها في حياتنا الواقعية.
صون الحرية: كما قد يقفز المرء إلى نهر من دون أن يدرك قوة تياره، يغوص كثيرون يوميًا في المنظومة الرقمية من غير وعي بوجهتهم، ويبقون فيها وقتًا أطول مما يرغبون قبل أن يستطيعوا الخروج. والسؤال هنا: هل نحن أحرار حقًا في فضاء صُمم ليستحوذ علينا ويوجهنا ويراقبنا؟ إن الحرية الحقيقية تعني توفير بدائل للتنقل بين المحتوى الرقمي، تتيح للمستخدمين تحديد بعض المعايير بأنفسهم. ذلك سيكون خطوة جوهرية نحو حرية حقيقية، بدل الاكتفاء بالاستهلاك السلبي لمنصات تصف نفسها بأنها حرة.
كشف التناقضات: هل نضمن أن يوسّع هذا الفضاء الرقمي آفاق مستخدميه؟ فالمجتمع الذي يتقدم باستمرار لا يعيش على المسلّمات المطلقة. ومن هنا فإنه ينبغي للخوارزميات، التي تعرف أذواق الناس وأفكارهم بدقة، أن تعرض للعامّة نسبة معقولة من المحتوى الذي يتحدى قناعاتهم؛ لأن الاكتفاء بتعزيز ما نؤمن به مسبقًا يُفقِر المعرفة. ومن دون معرفة بالعالم من حولنا، لا يمكن للتعاطف أن ينمو. ومن دون تعاطف، لا يستطيع الصالح العام أن يعيش.
الالتزام بالحقيقة: قد تكون الحقيقة بناءً نسبيًا يتأثر بالسياق وزوايا النظر، لكن ذلك لا يجعل بعض الحقائق مساوية للأكاذيب. سيكون من المنطقي أن تمنح الخوارزميات مساحة أكبر للمحتوى الموثوق والمُثبت، بحيث تقرّب المستخدمين من المعلومات الأكثر مصداقية. فالأسوأ من الجهل بالحقائق، هو الاعتقاد الخاطئ بأننا نعرفها جميعًا. ومن دون التزام واضح بالحقيقة، يبدأ الفهم الاجتماعي بالتآكل، ومعه يضعف الصالح العام.
إظهار المسؤولية الاجتماعية: للعالم المادي حدود وقوانين وتبعات اجتماعية واضحة، فلماذا يكون الفضاء الرقمي استثناءً؟ من الضروري ربط الهوية الرقمية بالهوية الواقعية، سواء كانت فردية أو جماعية، لضمان أن الحقوق والواجبات موزعة على الجميع. وينبغي أن يتحمل المطورون، ومن ينشرون المحتوى، وكذلك من يتيحون سلوكيات معينة على الإنترنت، مسؤوليتهم الكاملة. فهل يمكن اعتبار منصة تمنح مساحة للكراهية أو التضليل أو العنف محايدة؟ إن الدفاع عن الصالح العام يفرض على المنصات أن تتحمل مسؤوليتها عندما يُنتقص منه.
تشجيع الاستدامة: إن الصالح العام لا يقتصر على الحاضر ولا على جنسنا البشري وحده. لذلك يصبح من الملح تقييم الأثر البيئي للنظام الرقمي بشفافية وجدية، وضمان عمله ضمن حدود البيئة. فماذا لو التزمت كل منصة بإظهار حجم استهلاكها للطاقة وأهدافها البيئية بشكل واضح على ملفات المستخدمين، مع اقتراح أهداف شخصية لتعزيز الشعور بالمسؤولية المشتركة؟ قد تبقى الحلول محل نقاش، لكن المؤكد أن الاستثمار في العالم الرقمي مع الإضرار بالعالم الطبيعي الذي يدعمه أمر بالغ الخطورة.
وفي الختام، من المهم أن نعترف بأن هذا النظام التكنولوجي قد جلب فوائد لا حصر لها للصالح العام. فقد أتاحت المجتمعات الافتراضية مثلًا فضاءً آمنًا لملايين الأشخاص الذين يشعرون بالتهميش في العالم الواقعي، حيث وجدوا فيه القبول والطمأنينة. ومع ذلك، لم يعد ممكنًا أن نتجاهل أن البيئة ذاتها أصبحت سببًا رئيسيًا فيما يمكن أن نسميه «الحَوَل الاجتماعي»، حيث ينظر المجتمع في اتجاهين متعاكسين بدل أن يركّز على جوهر ما هو أساسي.
فبين عين مثبتة على القيم اليسارية وأخرى على القيم اليمينية، يجد المجتمع صعوبة متزايدة في التركيز على ما هو أهم، وهي الكرامة الإنسانية وما يجمعنا جميعًا، أي الصالح العام. إن هذا التشتت بالغ الخطورة؛ لأنه من دون وضوح البوصلة، قد نفقد الطريق.
أبيليو ألميدا عالم اجتماع في مركز بحوث الاتصال والمجتمع بجامعة مينهو في مدينة براغا بالبرتغال، ومؤلف كتاب «مستقبل التلفاز» الصادر عام 2024.
ترجمة: بدر بن خميس الظّفري
عن مجلة (نيتشر)، العدد 646، الصفحات 34-37 (2025).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإذاعة البریطانیة الصالح العام ل الاجتماعی من المحتوى من خلال ضمان أن لم یعد
إقرأ أيضاً:
نجوم الأوبرا يعيدون سحر الزمن الجميل في مهرجان الموسيقى العربية.. صور
قدم نجوم الأوبرا غادة آدم، أحمد عفت، إيناس عز الدين، ومنار سمير مجموعة من الروائع الخالدة، جسّدت عبق الفن الجميل، خلال حفل مهرجان الموسيقى العربية الدورة الـ 33، الذي أقيم بمسرح النافورة.
ومنها: أوعدك، إسمعوني، أغداً ألقاك، على الحلوة والمرة، الليالي.
مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية هو أحد أبرز الفعاليات الثقافية والفنية في العالم العربي، تنظمه دار الأوبرا المصرية سنويًا تحت إشراف وزارة الثقافة المصرية، ويُعد منصة رائدة للاحتفاء بالموسيقى العربية الكلاسيكية والمعاصرة، والربط بين تراثها الأصيل وتطورها الحديث.
أُطلقت الدورة الأولى من المهرجان عام 1992، وكان من بين أهدافه الرئيسية الحفاظ على الهوية الموسيقية العربية، وإحياء التراث الغنائي الأصيل، وتقديم تجارب موسيقية رائدة من مختلف البلدان العربية. ومنذ انطلاقه، بات المهرجان يشكل تظاهرة فنية فريدة تجمع بين العروض الغنائية والنقاشات البحثية العلمية، ما يمنحه طابعًا ثقافيًا ومعرفيًا متكاملاً.
أبرز ملامح المهرجان:
يقام سنويًا في شهر نوفمبر تقريبًا، ويستمر لأكثر من أسبوعين.
تُقام فعالياته على عدة مسارح تابعة لدار الأوبرا المصرية، منها: المسرح الكبير، معهد الموسيقى العربية، مسرح الجمهورية، وأوبرا الإسكندرية، وأوبرا دمنهور.
يشارك فيه نخبة من نجوم الغناء العربي، إلى جانب فرق موسيقية وكورالية متخصصة، ومنشدين، وعازفين من مختلف الدول العربية.
يتخلله مؤتمر علمي دولي يشارك فيه باحثون وموسيقيون من العالم العربي والغرب، يناقشون قضايا تتعلق بتاريخ وتوثيق الموسيقى العربية، وتحديات الإنتاج الفني، والتقنيات الحديثة في التأليف والتوزيع.
أهداف المهرجان:
1. الحفاظ على التراث الموسيقي العربي وإبرازه للأجيال الجديدة.
2. إتاحة الفرصة للفنانين الشباب للظهور وتقديم أعمالهم ضمن سياق فني راقٍ.
3. تعزيز التواصل بين الأجيال الموسيقية من مختلف البلدان العربية.
4. توثيق وتطوير المعرفة الموسيقية من خلال المؤتمر العلمي المصاحب.
5. التأكيد على دور مصر المحوري كحاضنة للفن والثقافة العربية.
رموز وتكريمات:
دائمًا ما يخصص المهرجان كل دورة لأحد رموز الموسيقى العربية، ويُكرّم خلالها عددًا من الشخصيات الموسيقية البارزة، تقديرًا لعطائهم في مجالات الغناء، التلحين، التأليف، النقد، والإعلام الموسيقي.