محمود الريماوي.. قاصّ يمشي بين أريحا وعمّان
تاريخ النشر: 24th, October 2025 GMT
في ظهيرة خريفية من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، كان حرم جامعة اليرموك في مدينة إربد الأردنية يشهد احتفالا أدبيا مختلفا. فقد كرمت الجامعة صوتًا ظل وفيا لفن القصة القصيرة لنحو نصف قرن، حيث اعتلى القاص محمود الريماوي المنصة ليتسلم جائزة عرار للإبداع الأدبي لعام 2025 في حقل القصة القصيرة.
بدت اللحظة كأنها خلاصة رحلة طويلة امتدت بين أريحا وعمّان، بين الصحافة والسرد، وبين الذاكرة والمنفى.
وُلد محمود الريماوي عام 1948 في بيت ريما بفلسطين، عام النكبة. وحملت طفولته باكرا أسئلة الانتماء والغياب، فصار المكان الأول جرحا مفتوحا لا يندمل في نصوصه. في أريحا بدأ يكوّن لغته الأولى، هناك حيث الأرض وسماء الأغوار ودفء الحكايات الشعبية. وعندما حمله المنفى إلى الأردن، لم ينقطع عن جذوره، بل أعاد تشكيلها في نصوص جعلت من الذاكرة فضاء للكتابة ومن الفقد مادة جمالية.
ومنذ بداياته، كان واضحا أنه يكتب من منطقة بين الحنين واليقظة، بين الحلم والواقع. لم يكن يميل إلى الصخب، بل إلى التوغّل الصامت في عوالم الناس اليومية. وفي مكتبته القصصية تتوزع الثيمات بين الواقعي والتأملي، وبين الاجتماعي والوجودي. كتابته ليست مجرد مرآة للواقع، بل محاولة دؤوبة لاكتشاف ما وراءه. إنه قاصّ يحفر في النفس قبل الحدث، ويصغي إلى اللغة كما يصغي الناسك إلى صمته.
يقوم مشروع الريماوي الإبداعي على 3 أعمدة هي الاستمرارية، والصدق الفني، والبحث عن الإنسان، فمنذ سبعينيات القرن الماضي وهو يكتب بتأنٍ ووعي، دون أن يستسلم لموجات الموضة الأدبية. لغته رشيقة لا تهادن، دقيقة من دون زينة زائدة، وواقعيته تنبع من معرفة عميقة بالتحولات الاجتماعية والسياسية في المشرق العربي.
إعلانفي زمن صارت فيه القصة القصيرة جنسا هامشيا في النشر والنقد، واصل الريماوي عمله في هدوء المؤمن بفنه. جيله عرف الخيبات الكبرى، من النكبة، إلى النكسة، ثم الغزو، والانقسام، لكنه ظلّ يرى أن الكتابة يمكن أن تنقذ الذاكرة من المحو. من هنا تأتي حيوية نصوصه التي لا تُحاضر ولا تُجمّل، بل تترك القارئ في مواجهة المرآة.
القصة مرآة الإنسانمنذ مجموعاته الأولى في السبعينيات، ظل الريماوي وفيّا لفن القصة القصيرة في زمن كانت الرواية تكتسح الساحة الأدبية. كان يعرف أن القصة لا تحتاج إلى ضجيج لتقول الحقيقة، وأنها الفن الأقرب إلى نبض الحياة. في قصصه نلتقي وجوهًا مألوفة. موظفون بسطاء، نساء ينتظرن، عمال مهاجرون، لاجئون يطاردهم الحنين، وأناس يصنعون من الهزيمة شكلا من أشكال النجاة.
الريماوي يكتب من الداخل، من المسافة التي تفصل الإنسان عن ذاته. لغته مشدودة كوتر رقيق، تمزج بين البساطة والعمق، وتغوص في التفاصيل اليومية لتستخرج منها جوهرا إنسانيا خفيا. لا يُغريه التجريب اللفظي بقدر ما يسحره السؤال الأخلاقي، وفحواه كيف يعيش الإنسان في عالم يتداعى؟ وكيف يحافظ على كرامته وسط العدم؟
صحفي يكتب بعيون القصعمل الريماوي طويلا في الصحافة، وكان يقول مازحا "الصحافة في النهار، والأدب في الليل". لكن الليل امتدّ حتى غلب النهار. في كتابته نلمس أثر الصحفي الذي يرى بعين واقعية، ويكتب بعين أخرى تبحث عن المعنى. الصحافة منحته الدقّة، لكن الأدب منحه الخيال. ومن هذا المزج وُلد أسلوبه المتفرّد الذي يوازن بين السرد المحكم والهمّ الإنساني العميق.
لقد مشت مهنته الصحفية جنبا إلى جنب مع مشروعه الإبداعي، فمنحته الصحافة عينا ثالثة، فصار يكتب القصة كما يكتب الصحفي تقريرا ولكن عن الداخل الإنساني. فبدا وكأنه يسعى إلى رصد التفاصيل الصغيرة التي تشي بانكسارات الإنسان، وغربته في المدينة الحديثة.
مشروع سردي متواصلمشروع الريماوي الإبداعي هو من أكثر المشاريع القصصية العربية استمرارية وصدقا. منذ أكثر من 5 عقود، ظلّ يكتب القصة القصيرة دون انقطاع، في زمن تغير فيه كل شيء، الذائقة، والنشر، والنقد، والقراء.
صدرت للريماوي مجموعات قصصية عديدة منها "العُري في صحراء ليلية"، "الجرح الشمالي"، "كوكب تفاح وأملاح"، "ضرب بطيء على طبل صغير"، "شجرة العائلة"، "رجوع الطائر"، "عودة عرار"، "عمّ تبحث في مراكش؟". وهي أعمال تشهد على روح لا تكلّ من طرح الأسئلة ولا تملّ من الإصغاء إلى الناس، وهي ليست شهادة على زمن أردني أو فلسطيني فحسب، بل على إنسان عربي يعيش بين الذاكرة والواقع، بين الوطن والحلم، بين ما يريد أن يكون وما يُجبر على أن يكونه.
حين أعلنت لجنة تحكيم جائزة عرار عن اسم الفائز، برّرت اختيارها بـ"غزارة إنتاجه وريادته في القصة القصيرة"، لكنها في الحقيقة كانت تكرّم جيلا كاملا من الكتّاب الذين ظلّوا مخلصين لفنهم رغم العزلة والتجاهل. لقد ظل الريماوي يكتب في صمت، يضع حجرا فوق حجر في بناء سردي متين، حتى صار صوته واحدا من أكثر الأصوات صدقا وعمقا في الأدب الأردني والعربي.
بين أريحا وعمّان… ظلّ يمشيفي النهاية، يبدو الريماوي كمن يمشي في طريق طويلة بين أريحا وعمّان، يحمل حقيبة مليئة بالقصص والأصوات. لا يكتب عن البطولة، بل عن هشاشتها. لا يحتفل بالنهايات، بل بالأسئلة التي تبقى معلّقة. إن تكريمه اليوم ليس مجرد احتفاء بمبدع، بل احتفاء بضمير ظل يكتب ضد النسيان، ويدافع عن إنسان بسيط اسمه العربي.
إعلانالقصة عنده ليست تمرينا على الجمال، بل مقاومة صامتة ضد القسوة، ضد التباس الحياة وضياع الذاكرة. وكأن الريماوي يقول، في كل نص يكتبه، إن الأدب ما زال قادرا على أن يمنحنا وطنا آخر من الكلمات.
لقد ظل محمود الريماوي يكتب بين الظل والنور، بين الحلم والمأساة. والحق أن جائزة عرار، بهذا المعنى، لم تذهب إلى اسم فحسب، بل إلى جيل كامل من الكتّاب الذين ظلوا يؤمنون بأن القصة القصيرة يمكن أن تكون وطنا آخر، يُسكنون فيه ما تبقّى من أرواحهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات القصة القصیرة
إقرأ أيضاً:
مهرجان الإسماعيلية .. ندوات علمية متخصصة حول الفنون الشعبية بين الذاكرة الثقافية وآفاق المستقبل
يشهد مهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية في دورته الخامسة والعشرين، التي تنطلق اليوم تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، واللواء أكرم محمد جلال محافظ الإسماعيلية، مجموعة من الندوات العلمية المتخصصة بعنوان "الفنون الشعبية بين الذاكرة الثقافية وآفاق المستقبل"، تنظمها الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان، في الفترة من 26 حتى 29 أكتوبر الحالي، تزامنا مع العروض الفنية للمهرجان.
وتبدأ الفعاليات الأحد مع ندوة بعنوان "الفنون الشعبية والهوية الثقافية"، ويشارك بها كل من د. خالد أبو الليل، د. سمر سعيد، د. محمد شحاتة.
ويشهد يوم الاثنين 27 أكتوبر ندوة بعنوان "توثيق عناصر التراث الثقافي غير المادي والتحولات المعاصرة من التدوين الورقي إلى التوثيق الرقمي"، ويشارك بها كل من د. حسام محسب، د. محمد فرماوي، وعمرو عجمي.
وتعقد يوم الثلاثاء 28 أكتوبر ندوة بعنوان "الفنون الشعبية في زمن العولمة.. التحديات والفرص"، يشارك بها كل من د. مدحت فهمي، أشرف عوض الله، إيناس عبد العزيز عبد الظاهر، ويوم الأربعاء 29 أكتوبر يشارك كل من د. محمد حسن عبد الحافظ، د. حمدي سلیمان، ونشأت نجيب، في ندوة بعنوان "رؤية مستقبلية لعناصر الفنون الشعبية".
كما تشهد الندوات تكريم عدد من رموز الفن الشعبي وهم د. شمس الحجاجي، د. أحمد يونس، نادر عبد إسكندر، محمد المصري، زكريا الحجاوي، محمود السمان، سعيد عبد العال، سمير جابر، نور الهدى سيد حسن، محمد ميدا، رأفت فتحي، سيد كابوريا.
وتقدم الندوات بإشراف الإدارة المركزية للشئون الثقافية برئاسة الشاعر د. مسعود شومان، وتقام يوميا في الثانية عشرة ظهرا بنزل الشباب الدولي وتعلن التوصيات في جلسة ختامية يوم الخميس 30 أكتوبر.
ويقام مهرجان الإسماعيلية الدولي الفنون الشعبية بالتعاون بين وزارة الثقافة ممثلة في الهيئة العامة لقصور الثقافة والإدارة المركزية للعلاقات الثقافية الدولية، ومحافظة الإسماعيلية، وبالتنسيق مع وزارة الشباب والرياضة، وهيئة قناة السويس، وهيئة التنشيط السياحي.
يشارك في المهرجان هذا العام 25 فرقة مصرية وأجنبية، منها 12 فرقة من دول: تونس، الأردن، غينيا، سريلانكا، لبنان، فلسطين، بولندا، الجزائر، أندونيسيا، أوزباكستان، رومانيا، والهند، و9 فرق تابعة لهيئة قصور الثقافة وهم: حلايب، الشرقية، الحرية السكندرية، أسيوط، الإسماعيلية، الوادي الجديد، المنيا، أسوان، والتنورة التراثية، بالإضافة إلى فرقتي ذوي الهمم "هيئة قناة السويس، وفرقة القلوب البيضاء" التابعتين لمحافظة الإسماعيلية، ومشاركة فرقتي رضا والفرقة القومية للفنون الشعبية التابعتين للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية.
وينطلق المهرجان بديفيليه فني لجميع الفرق من أمام مبنى المحافظة القديم بشارع محمد علي في الخامسة مساء اليوم. ويقام حفل الافتتاح الرسمي للمهرجان في الثامنة مساء غد السبت على المسرح الروماني.
وتقدم العروض الفنية في الفترة من 26 حتى 29 أكتوبر على مسارح: حديقة الشيخ زايد، حديقة الخالدين، نادي الأسرة، شاطئ الفيروز، نادي الدنفاه، بجانب عدد من مسارح مدينة فايد، القنطرة غرب، القصاصين والجيش الثاني.
وتنفذ فعاليات المهرجان بإشراف الإدارة المركزية للشئون الفنية، برئاسة الفنان أحمد الشافعي، من خلال الإدارة العامة للمهرجانات، والإدارة العامة للفنون الشعبية، مدير المهرجان الفنان ماهر كمال، وبالتعاون مع إقليم القناة وسيناء الثقافي، وفرع ثقافة الإسماعيلية.
ويشهد المهرجان تنظيم معرض للحرف البيئية، وتختتم الفعاليات على المسرح الروماني يوم 30 أكتوبر بحفل فني وتكريم للفرق المشاركة.