د. إبراهيم بن سالم السيابي

لا يختلف اثنان على أنَّ التخطيط الاستراتيجي هو العمود الفقري لأي مؤسسة أو دولة تطمح إلى التقدم. فهو ليس مجرد أوراق تُحفظ في الأدراج، بل أداة لتوجيه الجهود، وتحديد الأولويات، ورسم مسارات المستقبل. ومن دونه تتحول الأعمال إلى اجتهادات متفرقة، وتضيع الموارد دون أن تحقق النتائج المرجوة.

ويبدأ التخطيط الاستراتيجي دائمًا بالسؤال عن موقعنا اليوم، وطموحنا للغد، والأدوات المتاحة من موارد ومقومات وغيرها، والطرق التي تقودنا إليه. ومن هنا تتضح أهميته: فهو يضع الرؤية، ويوحد الجهود، ويضمن الاستخدام الأمثل للموارد، ويقيس التقدم بشكل دوري. وهو أيضًا عملية تراكمية تتطلب التزامًا مُستمرًا، لا قرارًا عابرًا.

وتتدرج أدواته من جمع البيانات وتحليل الواقع، إلى صياغة الرؤية والأهداف، ثم تحديد الأولويات ومؤشرات الأداء، وصولًا إلى آليات التنفيذ والمتابعة التي تضمن البقاء على المسار الصحيح. فالتخطيط ليس رسمًا للمستقبل فقط، بل قراءة واعية للحاضر، وتفاعل مستمر مع متغيرات البيئة الداخلية والخارجية.

لكن بين الطموح والواقع، توجد مساحة دقيقة تحتاج إلى موازنة حكيمة. فكثير من الخطط تُكتب بلغة مثالية، يغلب عليها التمني أكثر من الواقعية، فتغرق في قائمة طويلة من الأهداف اللامحددة. ومع مرور الوقت، تتحول إلى شعارات جميلة لا تجد طريقها إلى التطبيق، لأن الوسائل لم تُبنَ على تقدير دقيق للإمكانات والظروف؛ فالخطة الجيدة لا تُقاس بجمال صياغتها، بل بقدرتها على التنفيذ والقياس والاستمرار. كما يجب أن تكون محددة بعدد معقول من الأهداف، لأنه كلما كثرت الأهداف أصبح من الصعب تحقيقها.

ومن الأخطاء الشائعة في التخطيط أن تُفصل الخطة عن الإنسان الذي ينفذها. فالبشر بطبيعتهم يميلون إلى رؤية النتائج القريبة قبل البعيدة، ويحتاجون إلى شعور دائم بالتقدم والتحفيز. لذا من الحكمة أن تُقسم الخطط طويلة الأمد إلى مراحل قصيرة واضحة النتائج، حتى يشعر الناس أن الجهد يؤتي ثماره، وتُبنى الثقة خطوة بخطوة؛ فنجاح أي خطة مرهون بإيمان العاملين بها، لا بورقها فقط.

وهنا تبرز أهمية المرونة في التخطيط؛ فالخطة التي لا تتكيف مع المستجدات سرعان ما تفقد قيمتها؛ فالتغيرات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية تحدث بوتيرة متسارعة، والخطة الذكية هي التي تواكب هذه التحولات دون أن تفقد بوصلتها، وتظل متمسكة بهدفها الكبير مهما تبدلت الطرق المؤدية إليه.

وفي هذا الإطار، جاءت رؤية "عُمان 2040" كمحاولة وطنية طموحة لترسيخ ثقافة التخطيط الاستراتيجي طويل المدى، بركائز أربع تمثل الإنسان والمجتمع، والاقتصاد والتنمية، والحوكمة والأداء المؤسسي، والبيئة المستدامة. وقد وُضعت هذه المحاور برؤية شاملة تراعي ماضي عُمان وتطلعات أجيالها القادمة، مستندة إلى دراسات واسعة ومشاركة مجتمعية غير مسبوقة، وهو ما أعطاها قوة انطلاق واستمرارية.

ومع ذلك، فإنَّ النجاح الكامل لأي رؤية يحتاج إلى تقييم متواصل ومراجعة دائمة للمؤشرات، خصوصًا في الجانب الاقتصادي الذي يمثل مفتاح الحل لكل الملفات الأخرى، وفي مقدمتها ملف الباحثين عن عمل. وما زالت بعض المؤشرات بعيدة عن الطموح الذي يتطلع إليه المواطن؛ سواء في خلق فرص العمل النوعية أو في تحسين مستويات الدخل والمعيشة. ومن الأمانة القول إن هذه التحديات لا تقلل من قيمة الرؤية؛ بل تُبرز الحاجة إلى إعادة قراءة الأرقام وتحديث أدوات التنفيذ، لتظل الرؤية نابضة بالحياة، قادرة على ملامسة الواقع وتحقيق أثر ملموس في حياة الناس.

والمراجعة لا تعني أن هناك خللًا في الخطة؛ بل تعني النضج والرغبة في التطوير، خاصة فيما يتعلق بإعادة هيكلة التعليم العام وتسريع وتيرة الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل، الذي كما أسلفنا هو مفتاح الحل لكل الملفات. والجرأة على التقييم، علامةُ ثقةٍ في المسار، لا شك فيه؛ فالوطن لا ينهض بالشعارات، بل بالإخلاص في العمل، والصدق في التقييم، والإيمان بأنَّ المستقبل يمكن أن يكون أجمل إن نحن أحسنَّا البناء اليوم.

في الختام.. يبقى التخطيط الاستراتيجي ضرورة لا غنى عنها لكل من يسعى للتقدم. والفرق بين خطة ناجحة وأخرى مجرد شعار هو في التركيز على الأولويات، والارتباط بالواقع، ودقة التنفيذ، ومرونة التعديل، ومشاركة الإنسان في صنع المُستقبل. فالخطة التي تجمع بين الطموح الكبير والواقع المتاح، بين الأهداف البعيدة والنتائج القريبة، هي التي تتحول من حلم مكتوب إلى واقع ملموس يعيشه الناس في حياتهم اليومية. وفي كل خطة وطنية صادقة، تنبض روح عُمان التي لا تعرف المستحيل، وتُثبت أنَّ التخطيط الواعي هو طريق الأمل نحو غدٍ أجمل، ومستقبل أكثر إشراقًا لأبنائها جميعًا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

باكستان تدعو المجتمع الدولي لضمان التنفيذ الكامل لوقف النار بغزة

صفا

دعت باكستان، الأربعاء، المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات "فورية وفعالة" لضمان التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار في غزة.

وأدانت وزارة الخارجية الباكستانية، في بيان، الهجمات الإسرائيلية على غزة، رغم اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين تل أبيب وحركة حماس.

وجاء في البيان: "باكستان تدعو المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات فورية وفعالة لإنهاء الانتهاكات الإسرائيلية، وضمان التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار، الموقع في شرم الشيخ بمصر".

واعتبرت الخارجية الباكستانية، أن استمرار "إسرائيل" في هجماتها على غزة رغم اتفاق وقف إطلاق النار، "يمثل انتهاكا للاتفاق المبرم في شرم الشيخ بمصر".

وأكدت دعم بلادها للشعب الفلسطيني، داعية "إسرائيل" إلى وقف هذه الهجمات فورًا.

مقالات مشابهة

  • «نوفيدا للاستثمار».. تفتح صفحة جديدة من التوسع والنمو الطموح
  • حبس التيك توكر لوليتا 6 أشهر مع إيقاف التنفيذ
  • موعد انتهاء عمل لجان حصر الإيجار القديم .. التفاصيل وجدول التنفيذ
  • دولة الاحتلال بين سياسة الردع وخرافة تحقيق الأهداف
  • المنتدى الاستراتيجي للفكر: مصر تبذل جهودًا حثيثة لترتيب البيت الفلسطيني وتوحيد الصف الوطني
  • كوريا الشمالية: اختبار منظومة أسلحة متطورة لتعزيز الردع الاستراتيجي
  • باكستان تدعو المجتمع الدولي لضمان التنفيذ الكامل لوقف النار بغزة
  • بين الذكاء الاصطناعي والواقع.. سامسونج تكشف سر Galaxy XR
  • 6 محاور تشكل أسس التعاون الاستراتيجي بين مصر وأوروبا