منزل رفاعة الطهطاوي بصعيد مصر.. رحلة في ذاكرة التنوير
تاريخ النشر: 26th, October 2025 GMT
القاهرة – في لحظة فاصلة من تاريخ مصر الحديث، ومع بداية مشروع محمد علي باشا لبناء الدولة، انطلقت عام 1826 أول بعثة تعليمية إلى فرنسا، ضمت 44 طالبا، بينهم شاب أزهري لم يوفد ليتعلم بل ليكون إماما ومرشدا دينيا لأفراد البعثة.
لكن الشيخ سرعان ما أصبح عقلها المفكر، ذلك هو رفاعة رافع الطهطاوي الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره حين غادر إلى باريس بتزكية من شيخه حسن العطار، شيخ الأزهر لاحقا، لهذه المهمة.
هناك، لم يكتف الطهطاوي بدور الإمام، بل اندمج في أجواء الفكر الأوروبي؛ فتعلم الفرنسية، وقرأ في الفلسفة والعلوم والآداب، وبدأ ينظر إلى الحضارة الغربية بعين المقارن لا المقلد، فاستخلص منها ما يخدم أمته من دون أن يتخلى عن هويته. ثم عاد الشيخ رفاعة إلى مصر عام 1831 محملا برؤية تنويرية شكلت نواة النهضة العلمية والثقافية في البلاد.
ولتكون جسرا بين الشرق والغرب، أسس الطهطاوي مدرسة الألسن عام 1835، وأسهم في تعريب العلوم وإنشاء نواة للكليات الحديثة. كذلك تولى عام 1842 رئاسة تحرير الوقائع المصرية، فأعاد تمصيرها وطور مضمونها، ليصبح رائد الصحافة العربية الحديثة. وفي 1870 شارك مع علي باشا مبارك في تأسيس مجلة روضة المدارس التي جمعت بين الأدب والعلوم والسياسة.
ولد رفاعة رافع الطهطاوي في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1801 بمدينة طهطا في صعيد مصر، لأسرة من الأشراف، وحفظ القرآن وتعلم اللغة والنحو منذ صغره. بعد وفاة والده، التحق بالأزهر وهو في السادسة عشرة، وتتلمذ على يد الشيخ حسن الذي وجهه لاحقا للانفتاح على العلوم الحديثة.
لم يكن مجرد مترجم، بل كان مفكرا ومهندس مشروع وطني يرى في العلم طريق الخلاص، وفي المرأة شريكا في المعرفة، إذ دعا إلى تعليمها في كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين"، كما اشتهر بتقدمه الإنساني حين نص في عقد زواجه عام 1840 على عدم الزواج عليها أو امتلاك جارية، وعلق عصمتها على ذلك الشرط.
إعلانوكان الطهطاوي من أوائل من نادوا بضرورة الحفاظ على الآثار المصرية وصونها من النهب والتخريب، إدراكا منه لقيمتها الحضارية والتاريخية. فكتب محذرا من التفريط فيها أو بيعها للأجانب، معتبرا أن الآثار ليست حجارة صامتة، بل شواهد على هوية الأمة وجذورها، ودعا إلى جمعها وتنظيمها في متاحف وطنية.
بعيدا عن السطور المعتادة التي خطت عن سيرة الطهطاوي، وأعماله، ومؤلفاته، وترجماته التي ملأت كتب التراجم والسير، نترك القلم لوهلة، ونعود إلى حيث بدأ كل شيء… إلى طهطا، المدينة الوادعة في جنوب مصر، حيث ولد رائد نهضة العلم والتعليم والثقافة.
المنزل المعروف باسم منزل رفاعة الطهطاوي لم يشيده الشيخ بنفسه، بل بناه حفيده محمد بدوي بك رفاعة الطهطاوي بعد مدة طويلة من وفاته، ليكون مقرا للعائلة وامتدادا لذكراه، ثم افتتح وجُدّد لاحقا ليصبح منزلا للعائلة ومكتبة ثقافية تحمل اسمه، وتحفظ بعضا من إرثه الفكري والمادي.
يقول عمر فتحي محمد بدوي رفاعة الطهطاوي، أحد أحفاده، في تصريحات خاصة للجزيرة نت: "بنى جدي محمد بدوي بك المنزل قبل أكثر من 100 عام تخليدا لرفاعة، وليكون بيت العائلة وذاكرة حية لأفكاره". ويضيف: "وتضم الحديقة الخلفية نخيلا وياسمينا وريحانا، كأن عبقها ما زال يحمل روح جدي المستنير".
وأضاف أن المنزل يقع على شارع بورسعيد الرئيسي، بمساحة تقارب ألفي متر مربع، ويتكون من طابقين على 3 نواص، تزين واجهاته المشربيات الخشبية الأثرية التي تضفي عليه طابع عمارة خاصا.
ويؤكد عمر أن المنزل كان مقصدا دائما للبعثات الأجنبية والسفراء خاصة الفرنسيين الذين يزورون طهطا عرفانا بعمق العلاقة التي ربطت فرنسا بالطهطاوي منذ بعثته الأولى. خلف الباب الرئيسي يقف أسدان من المرمر الإيطالي أهداهما ملك إيطاليا إلى أحد أحفاده، علي باشا رفاعة.
يضيف حفيد الطهطاوي أن إحدى الغرف تضم صورة شهيرة ونادرة للطهطاوي يحتفظ المتحف الفرنسي اللوفر بنسختها الأصلية، إلى جانب خزنة أوروبية تعود لعام 1855 كانت تحفظ وثائق نادرة منها قسيمة زواجه عام 1840. كما يوجد "كونسول" فرنسي أثري عمره أكثر من 170 عاما وساعة حائط من القرن التاسع عشر توقفت عقاربها كما لو توقفت إجلالا لصاحب الدار.
واستدرك قائلا إن العديد من الصور النادرة توجد على جدران بعض الغرف، من بينها صورة شهيرة لرفاعة مع رفاقه في البعثة المصرية إلى باريس، تؤكد جذوة النهضة الأولى. وفي 29 مايو/أيار 1958 افتتح حفيده فتحي رفاعة مكتبة حملت اسمه داخل المنزل تخليدا لمرور 85 عاما على وفاته، لتضم آلاف الكتب والمخطوطات، قبل أن تنقل لاحقا إلى مكتبة الرفاعي في سوهاج.
في محافظة سوهاج تنتشر رموز كثيرة تخليدا لرفاعة، من بينها مكتبة وميدان يحملان اسمه في مدينة سوهاج، ومدرستان وشارع باسمه في طهطا، إضافة إلى 4 تماثيل له: أحدها أمام جامعة سوهاج القديمة، و3 بمدينة طهطا في ميدان محطة القطار ومدخلي المدينة.
إعلانتظل ذكرى رفاعة الطهطاوي حية في ضمير الصعيد ومصر كلها، ليس بصفته مترجما أو موظفا في دولة محمد علي، بل باعتباره رائد التنوير الأول الذي ربط الشرق بالغرب بالحبر والفكر، وأثبت أن النهضة تبدأ من العقل، وأن العلم وحده هو الجسر الذي تعبر عليه الأمم نحو المستقبل.
توفي رفاعة الطهطاوي في القاهرة يوم 27 مايو/أيار 1873، عن عمر ناهز 72 عاما، بعد أن ترك إرثا فكريا وثقافيا لا يقدر بثمن. لم يكن مجرد مترجم أو عالم، بل كان مهندسا لرؤية نهضوية مبكرة، سعى من خلالها إلى بناء جسور بين الحضارة الإسلامية والحداثة الأوروبية.
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات محمد بدوی علی باشا
إقرأ أيضاً:
تمثال أميرة سبأ في مزاد فيينا.. ذاكرة اليمن المنهوبة تُباع في العلن
في مشهد يعكس حجم المأساة التي تعيشها الهوية الحضارية اليمنية المنهوبة، كشف الباحث المتخصص في شؤون الآثار اليمنية عبدالله محسن، عن عرض تمثال نادر لرأس أميرة من سبأ ضمن مزاد تنظمه جاليري "زاكي" في العاصمة النمساوية فيينا في 21 نوفمبر 2025، ضمن مجموعة تُعد من أثمن مقتنيات اليمن القديم.
ويأتي هذا المزاد في وقتٍ تتزايد فيه عمليات تهريب وبيع الآثار اليمنية في الأسواق الدولية، مستغلة حالة الحرب والفوضى التي تعصف بالبلاد منذ نحو عقد من الزمن، في حين تظل السلطات اليمنية عاجزة عن استعادة إرثها المنهوب، رغم المناشدات المتكررة للمجتمع الدولي بوقف هذه الانتهاكات الثقافية الجسيمة.
وبحسب ما نشره الباحث عبدالله محسن على صفحته في "فيسبوك"، فإن ثلاثة من أجمل آثار اليمن ستُعرض للبيع في مزاد "الآثار الجميلة والفنون القديمة" الذي تنظمه جاليري "زاكي" في فيينا.
وأوضح أن القطع المعروضة تنتمي إلى مصادر مرموقة ومجموعات تاريخية مثل متحف موجان للفنون الكلاسيكية في الريفييرا الفرنسية، ومتحف زيلنيك استفان للذهب في جنوب شرق آسيا، إضافة إلى مقتنيات لتجار تحف مشهورين في أوروبا والولايات المتحدة.
ومن بين هذه القطع، رأس منحوت لامرأة من المرمر يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، يُرجح أنه يمثل أميرة من مملكة سبأ. يتميز التمثال بأنف مستقيم وشفتين بارزتين وذقن مدبب، وعينين لوزيتين كبيرتين، ما يعكس الأسلوب الفني المتقن لحضارات جنوب الجزيرة العربية القديمة. يبلغ ارتفاع التمثال 18.5 سم ويزن 4 كيلوجرامات.
ويصف كتالوج المزاد هذه القطعة بأنها كانت تُثبت على لوحة من الحجر الجيري المنقوش، موجهة لمواجهة المشاهد مباشرة، حيث كانت تُستخدم في طقوس جنائزية أو تُنصب كـ شواهد قبور لأفراد من الطبقة الملكية أو النخبة الاجتماعية في ممالك اليمن القديم، مثل سبأ وقطبان وحضرموت.
وفقًا لوثائق المزاد، فإن ملكية هذه القطعة تعود إلى جوزيف أوزان، صاحب معرض "ساماركاند" في باريس، الذي قال إنها مقتناة من مجموعة سويسرية خاصة، مع إقرار خطي بأن القطعة كانت ضمن مقتنيات والده قبل عام 1971م.
ويشير الباحث عبدالله محسن إلى أن هذه الادعاءات تتكرر في معظم المزادات الأوروبية لتبرير بيع الآثار القادمة من مناطق النزاعات، عبر ثغرات قانونية تتيح للمزادات التلاعب بتاريخ الملكية لتفادي الملاحقة القانونية.
ويؤكد محسن أن مثل هذه المزادات لا تراعي القيم الأخلاقية ولا الاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقية اليونسكو لعام 1970 الخاصة بمنع الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية، مشددًا على أن استمرار بيع الآثار اليمنية بهذه الطريقة يُعد جريمة نهب علني لتراثٍ إنساني لا يقدّر بثمن.
في تعليق لأحد خبراء المزاد، جرى تذكير المشترين بأن مملكة سبأ كانت مركزًا رئيسيًا لتجارة اللبان والمر والبخور، تسيطر على طرق القوافل الممتدة من مأرب إلى البحر الأحمر، ما جعلها واحدة من أكثر الممالك ازدهارًا في العالم القديم. وأشار إلى أن فن سبأ الجنائزي يعكس تأثرًا بالعصور الهلنستية والرومانية، لكنه يحتفظ بخصوصيته الجمالية التي تمجد المرأة كرمز للخصب والحياة والسلطة.
إلا أن هذا الوصف الفني، بحسب مراقبين، لا يخفي التناقض الأخلاقي في تسويق القطع اليمنية المنهوبة باعتبارها "قطعًا فنية نادرة"، بينما هي في حقيقتها شواهد قبور وأجزاء من ذاكرة أمة فقدت سيادتها الثقافية.
ومنذ اندلاع الحرب الحوثية 2014، فقد اليمن آلاف القطع الأثرية التي نُهبت من المتاحف والمواقع الأثرية، وتم تهريبها إلى الخارج عبر شبكات منظمة. وتشير تقارير اليونسكو ومنظمات دولية إلى أن السوق السوداء للآثار اليمنية تشهد نشاطًا متزايدًا في أوروبا والولايات المتحدة.
ورغم الجهود المحدودة التي تبذلها الحكومة اليمنية لاستعادة بعض القطع، إلا أن غياب التنسيق الدولي الفاعل وتعقيدات إثبات الملكية القانونية، جعلت معظم القطع تباع بشكل علني في المزادات العالمية دون محاسبة تُذكر.