الفصل الأخير من الجزيرة بتوقيت غزة.. التغطية مستمرة
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
بعد هدنة قصيرة خادعة نهاية عام 2023، وسّعت إسرائيل حربها على قطاع غزة وارتكبت مئات المجازر بحق المدنيين، لكن هذه المرة كان الاستهداف أكثر منهجية وشراسة ضد من يحملون الكاميرات والميكروفونات.
في الجزء الثالث والأخير من برنامج "الجزيرة بتوقيت غزة"، تتحول الشاشة إلى سجل دام يوثق استشهاد صحفيين آخرين من طواقم القناة، سقطوا واحدا تلو الآخر في سلسلة استهدافات ممنهجة امتدت عبر شهور الحرب الدامية.
تفتح الحلقة على مشهد صادم في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، حيث استشهد مراسل الجزيرة إسماعيل الغول والمصور رامي الريفي بصاروخ مباشر بينما كانا يغطيان أخبار اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسماعيل هنية في طهران.
المصور الصحفي أسامة العشي الذي وصل إلى موقع الاستهداف يروي اللحظات الأخيرة بأنه سمع ضربة أولى، ثم بعد 10 دقائق جاءت الضربة الثانية التي حولت السيارة إلى كتلة من النيران.
الخوذة إرث الشهداءوبعد استشهاد الغول، التقط المراسل محمد قريع خوذة زميله الراحل وارتداها في تغطياته، قائلا بصوت محمل بالمسؤولية: "هل يمكن أن نستمر في ذات النفس الذي قطعه إسماعيل؟ ربما الأقدار ساقت هذه الخوذة إلى أن أرتديها أنا، لأكمل ذات النفس وذات الطريق وذات الرسالة"، ولم يكن يعلم أن هذا الإرث سيكلفه حياته بعد أسابيع قليلة.
في دير البلح، سقط مصور الجزيرة علي العطار مصابا بشظايا في دماغه في أثناء تغطيته عمليات القصف، ليفقد جزءا من بصره ويدخل في غيبوبة متقطعة، وفي مخيم جباليا، استهدف فريق الجزيرة بنيران مباشرة عند مدخل المخيم، مما أدى إلى إصابة المصور فادي الوحيدي في رقبته وإصابته بالشلل الدائم.
وفي مخيم النصيرات، استشهد مصور الجزيرة أحمد اللوح في أثناء محاولته توثيق عمليات إنقاذ المدنيين، في استهداف مباشر للصحفيين والمسعفين.
إعلانوبعد إعلان وقف إطلاق النار الثاني واستئناف الحرب بشكل أكثر ضراوة، اغتيل مراسل "الجزيرة مباشر" حسام شبات في أثناء تغطيته الأوضاع الإنسانية المتدهورة في شمال غزة، حيث كان يوثق مجزرة بيت لاهيا المروعة التي راح ضحيتها عشرات النساء والأطفال.
تحريض وتهديد
لم يكن الاستهداف جسديا فقط، بل امتد إلى حملة تحريض وتهديد ممنهجة، فقد نشر الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي مقطع فيديو استهزأ فيه من تغطية أنس الشريف عن الجوع في غزة، واصفا إياها بأنها "دراما مفبركة" و"دموع التماسيح".
لكن الشريف رد من خيمة الصحفيين بحزم: "هذه التهديدات مستمرة متواصلة، في محاولات تحريضية أيضا من قبل جيش الاحتلال عشان (من أجل) أتوقف عن بث هذه المشاهد، لكن أنا هذا واجبي وأنا بنقل (أنقل) الصورة بكل مهنية وبكل مصداقية".
وفي ذروة التصعيد، وبعد انتهاء محمد قريع من بث مباشر عن الأوضاع الإنسانية الكارثية في مدينة غزة، عاد مع مصوره إبراهيم ظاهر إلى خيمة الجزيرة المنصوبة عند أحد مداخل مجمع الشفاء الطبي.
كان بانتظارهما أنس الشريف والمصور محمد نوفل ومساعد التصوير مؤمن عليوة لتناول طعام العشاء. بعد عدة دقائق من تجمعهم داخل الخيمة، باغتهم صاروخ مباشر أطلقته مسيرة إسرائيلية.
استشهد الصحفيون الخمسة على الفور، بالإضافة إلى الصحفي محمد الخالدي الذي كان في الخيمة المجاورة، وفي استهداف آخر داخل مجمع ناصر الطبي في خان يونس، استشهد مصور الجزيرة محمد سلامة.
التغطية مستمرةرغم الخسائر الفادحة والألم العميق، فلم تتوقف التغطية، إذ انضم مراسلون جدد إلى الفريق، وهم شادي شامية ونور خالد في مدينة غزة، بينما استمر مراسلو الجزيرة في الجنوب بنقل الحقيقة من الميدان.
وعلى مدى عامين كاملين من الحرب، لاحقت آلة القتل الإسرائيلية طواقم الصحفيين على امتداد قطاع غزة، ليستشهد منهم أكثر من 250 صحفيا، بينهم شهداء الجزيرة: سامر أبو دقة، وحمزة الدحدوح، ومصطفى ثريا، وإسماعيل الغول، ورامي الريفي، وأحمد اللوح، وحسام شبات، وأنس الشريف، ومحمد قريع، وإبراهيم ظاهر، ومحمد نوفل، ومؤمن عليوة، ومحمد سلامة.
ذاق صحفيو الجزيرة فظاعة القتل وأهوال التدمير ومأساة النزوح ومرارة الجوع، عاشوا مع الناس عند أبواب المستشفيات، وباتوا في خيام متهالكة لم تقهم حر الصيف ولا صقيع الشتاء، مشوا بصمت وثبات في جنازات زملائهم الصحفيين، شهيدا تلو الآخر، لكن رغم ذلك، فإن تغطيتهم لم تتوقف.
وفي العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2025، دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بعد 471 يوما من القتل والإبادة، ونزع مراسلو الجزيرة الناجون تلك الدروع الصحفية الزرقاء التي لم تفارق أجسادهم طوال 15 شهرا، وعاد مؤمن الشرافي إلى شمال غزة بحثا عن بقايا منزله المدمر في مخيم جباليا.
بعد اتصالات دولية مكثفة، وافقت إسرائيل أخيرا على إخراج المصور علي العطار لاستكمال علاجه في الأردن، كما أُخرج فادي الوحيدي الذي أصيب بالشلل من القطاع بعد ضغوط إنسانية متواصلة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فی مخیم
إقرأ أيضاً:
موقع إسرائيلي: طالب فلسطيني يكتب كلمات وداعه الأخير لغزة
في نص ينضح وجعا وصدقا، يروي الشاب الفلسطيني عبد الله الجزّار لحظات مغادرته غزة إلى أيرلندا حاملا معه حقيبة صغيرة وأثقالا من مشاعر الذنب والحب والذكريات، بعد حصوله على منحة دراسية، تاركا خلفه أمّه وإخوته ومدينة تغتالها الحرب وتنهشها المجاعة.
منذ الوهلة الأولى في حكايته التي كتب تفاصيلها نصا بمجلة (+972) الإسرائيلية الإلكترونية، يتجلى الصراع بين الأمل والخجل، بين حلم النجاة والشعور بالذنب.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إل باييس: لقاء مع فلسطيني خارج غزة محاصر بالصورة والذاكرةlist 2 of 2موقع إيطالي: حفتر اشترى مروحيات من جنوب أفريقيا رغم الحظرend of listهناك، بين صالون الحلاقة المتواضع وخيمته في منطقة المواصي، تبدأ رحلة الفراق حيث اختلق "كذبة صغيرة" لحلاقه أخبره فيها أنه سيتقدّم لخطبة فتاة يحبها، فقط ليقنع الحلاق بالاهتمام بقصَّ شعره لكي يبدو في مظهر أنيق عندما يغادر في يوم الوداع الأخير.
يروي الجزار، وهو فلسطيني من غزة، أن الحكومة الأيرلندية اتصلت به في يوم ثلاثاء من أغسطس/آب الماضي لتبلغه بأن عليه الاستعداد لمغادرة غزة إلى أيرلندا حيث "تستعد جامعة مايوث لاستقبالك".
ويقول: "كنت، طوال أكثر من عام، أتدرّب على مغادرة بيتي في غزة، كما يتدرّب أخي الصغير على الطيران بطائرته الورقية. والآن انتهى التدريب، وحان الموعد الحقيقي".
ويضيف: "كانت لديّ خطط كبيرة، لكن كيف يمكن للمرء أن يترك حياته؟ كيف يتخلى عن بيته؟ أردت أن أغادر وظهري مستقيم، وكرامتي محفوظة".
ويردف قائلا إنه لم يُرد أن يشعر كأنه يهرب، "لكن الرحيل بكرامة عبارة فقدت معناها منذ زمن".
المرة الأولى
حين نظر في المرآة رأى وجه أخيه نور، "الشرطي المفقود" منذ قصف خان يونس، وكأنه يستأذنه للمغادرة. كانت المرة الأولى التي يصبح فيها هو "الراحل"، بعد أن اعتاد أن يكون هو "من بقي" في غزة.
وبين خوفه من أن يمنعه جندي إسرائيلي التوجه إلى معبر كرم أبو سالم، كان منظر غزة المدمرة يمر أمام ناظريه.
إعلانوفي مشهد مفعم بالعاطفة، يصف الجزار لحظة الوداع قائلا: "استأجرت سيارة أجرة بدل عربة يجرّها حمار لتنقلني من المواصي إلى دير البلح في وسط القطاع، ومنها بحافلة إلى المعبر".
في تلك الأثناء أدرك أنها ربما تكون لحظة الوداع الأخير. ودّع أمه التي لا تعرف الكراهية رغم أن الحرب سلبتها أحبتها، وقال لأخيه الصغير علي: "اعتنِ بنفسك وبأمك، حسنا؟".
عبد الله الجزار: لم ألتفت لأرى عائلتي مرة أخرى. كنت أشعر بالخجل. كنت أغادر نحو السلام، بينما يبقون هم أسرى الحرب والجوع. شعر بالخجل"كانت هذه كلماتي الأخيرة إلى غزة. لم ألتفت لأرى عائلتي مرة أخرى. كنت أشعر بالخجل. كنت أغادر نحو السلام، بينما يبقون هم أسرى الحرب والجوع".
وعند معبر كرم أبو سالم، بين دخان السجائر التي أشعلها المسافرون كأنها بخور الرحيل، بدأ يذوب بين المنفى والمجهول.
وعلى الجانب الإسرائيلي من المعبر، بدا موظفو السفارة الأيرلندية -في نظره- كأنهم ملائكة يقدّمون الماء والطعام للمسافرين، في حين تأشيرة واحدة تُخرجه من الجحيم. ورقة واحدة فصلت بينه وبين موطنٍ يتداعى إلى الرماد.
يراه في أحلامه
في الطريق إلى دبلن عاصمة أيرلندا، ظلّ طيف أخيه نور يزوره في الحلم، يقول له: "احملني معك، لا كعبء، بل كجناحين". ويضيف: "في الليل، أراه في أحلامي يبحث عني. أناديه: أراه في أحلامي يبحث عني. أناديه: أنا في أيرلندا، حبيبي. كل شيء هنا أخضر وجميل".
ويتابع مخاطبا نزر في حلمه: "انتقلت إلى سكني في مايوث، غرفة واحدة لكنها تتسع لاثنين. احتفظت بمكان لك قرب النافذة. فقط قل لي أين أنت يا حبيبي، وسآتي لأخذك".
كيف ينجو من وطنهحمل الجزار أخاه نور في قلبه، وهو يستعيد أطلال بيت ومصنع ومزرعة التهمتها الحرب. حتى حين أُعلن عن وقف إطلاق النار، لم يشعر بالسكينة، بل بالحيرة: كيف ينجو المرء من وطنه؟ وكيف يُشفى ممن يحبّ؟
ثم جاء الخبر السعيد. وعن تلك اللحظة، كتب يقول: "نور حيّ. أسيرٌ، لكنه حي"، قبل أن ينهار باكيا كما لو أن القلب تذكّر نبضه بعد طول صمت.
في دبلن، يدرس عبد الله الجزار حاليا لنيل درجة الماجستير في جامعة مايوث بأيرلندا، حيث يشغل منصب منسّق برنامج الطلاب الفلسطينيين القادمين من غزة.