بوابة الوفد:
2025-10-28@16:12:18 GMT

فاروق حسنى.. ثقافة الوزير ووزير الثقافة

تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT

لم يكن فاروق حسنى مجرد وزير للثقافة، بل كان حالة استثنائية فى تاريخ المشهد الثقافى المصرى والعربى. إنه رجل امتلك من أدوات الثقافة والفن ما جعله يتجاوز حدود البيروقراطية الحكومية، ليصبح راعيًا حقيقيًا للفكر والإبداع.

فنان أصيل خرج من عباءة اللون والخطوط إلى فضاء المسئولية، لكنه لم يتخلَّ يومًا عن هويته الفنية.

تلك الهوية لم تكن لقبًا أكاديميًا أو خلفية مهنية فحسب، بل كانت روحًا تسكنه وتوجه قراراته. وكان وزيرًا يرى العالم بعين الفنان، يسمع بإحساس الموسيقى، ويتذوق المسرح والسينما كعاشق حقيقى لا كمسئول رسمى.

امتلك فاروق حسنى ثقافة موسيقية وسينمائية ومسرحية واسعة جعلته قريبًا من المبدعين ومدركًا لاحتياجاتهم. ولم يكن فنانًا تشكيليًا فقط، بل كان متابعًا للفن بكل أشكاله، مستمعًا نهمًا للموسيقى، حاضرًا فى كواليس المسرح والسينما، مؤمنًا بأن الإبداع لا يعيش فى ظل الوصاية، وأن الحرية هى التربة الأولى التى تنبت فيها الفكرة. لذلك لم يفرض سلطة، ولم يمارس رقابة، بل هيأ المناخ الذى يسمح للإبداع بأن يولد وينمو.

ثقافته الشخصية الغنية كانت حجر الأساس فى نجاحه. ولم يصعد إلى موقعه بالمنصب، بل بالوعى المتراكم عبر سنوات من التعلم والتأمل والممارسة، وبشغف حقيقى تجاه كل أشكال الفن والمعرفة. لم تضف الثقافة إليه قيمة، بل كان هو الذى أضفى عليها قيمة جديدة، فصار رمزًا للمثقف الذى يُدير من عمق الفهم لا من مقعد السلطة.

فى عهده، شهدت مصر طفرة فى البنية الثقافية، من المكتبات العامة وقصور الثقافة والمراكز الإبداعية إلى تطوير دار الأوبرا المصرية. وأطلق مشروع “مكتبة الأسرة” إيمانًا منه بأن الثقافة يجب أن تصل إلى الناس، لا أن ينتظروها.

وكان مشروع «مكتبة الأسرة» أهم مشروع ثقافى قومى فى تاريخ مصر الحديث، لأنه وفر للجميع أهم الكتب وأمهات المؤلفات بأسعار رمزية، فأعاد للكتاب مكانته فى كل بيت، وجعل من القراءة عادة جماهيرية لا نخبوية.

كما جاءت مبادرة «القراءة للجميع» لتكمل هذا المشروع الطموح، فحولت الكتاب إلى صديق قريب من الطفل والشاب، وجعلت الثقافة متاحة على نطاق واسع فى كل محافظات مصر.

كانت مشروعاته القومية ثمرة رؤية متكاملة، لا شعارات مؤقتة، وما زالت شاهدة حتى اليوم على أن الثقافة فعل يومى لا حدث احتفالى.

دافع عن حرية الإبداع فى وجه كل محاولات الوصاية، وأعاد الروح إلى المسرح، وأطلق فرق التجوال فى الأقاليم، وحمى التراث المعمارى من الاندثار بتطوير القاهرة الفاطمية، وقرى النوبة، وترميم المعابد والمقابر الفرعونية.

وفى عام 2009 خاض معركة الترشح لمنصب مدير عام اليونسكو بدعم عربى واسع، وكاد يفوز لولا تدخلات سياسية. ومع أن الخسارة كانت مؤلمة، إلا أنها أكدت مكانته الدولية واحترامه فى الأوساط الثقافية العالمية.

ورغم اختلاف البعض معه حول بعض السياسات، إلا أن أحدًا لا يستطيع إنكار أنه الوزير الذى عاش الثقافة لا الذى أدارها فقط. وجعل من الوزارة مؤسسة نابضة بالحياة، وأثبت أن الثقافة ليست رفاهية، بل ركيزة لبناء الوعى الوطنى.

لقد ترك إرثًا مؤسسيًا وفكريًا يصعب تجاوزه، وإسهاماته ما زالت تُثمر لأنها بُنيت على فهم حقيقى لدور الثقافة فى بناء الإنسان قبل المكان.

*المتحف المصرى الكبير... هدية مصر للعالم*

ومن أبرز ملامح رؤيته أن المتحف المصرى الكبير لم يكن مشروعًا معماريًا فحسب، بل حلمًا وطنيًا بدأ بفكرة أطلقها الفنان فاروق حسنى حين كان وزيرًا للثقافة، مؤمنًا بأن مصر تستحق صرحًا حضاريًا عالميًا يليق بتاريخها.

يقع المتحف بالقرب من أهرامات الجيزة، حيث تعود كل قطعة إلى مهدها الطبيعى بجوار أعظم بناء هندسى فى العالم. ويمتد على مساحة نصف مليون متر مربع ليكون أكبر متحف فى العالم مخصص لحضارة واحدة.

يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تروى قصة الإنسان المصرى عبر العصور، بينها المجموعة الكاملة لكنوز الملك توت عنخ آمون التى تضم 5398 قطعة تُعرض لأول مرة مجتمعة بعد سنوات من الترميم الدقيق.

يستقبل الزائر تمثال الملك رمسيس الثانى شامخًا فى البهو الرئيسى، بينما يصعد عبر الدرج العظيم الذى يحتضن 87 قطعة ضخمة من مختلف العصور، وكأنه يصعد درجات الحضارة المصرية نفسها.

المتحف تحفة معمارية تمزج بين روح الحضارة والحداثة، تطل واجهته الزجاجية العملاقة على الأهرامات فى مشهد فريد لا يتكرر فى أى مكان فى العالم.

لا يقتصر دوره على العرض فقط، بل هو منظومة ثقافية وتعليمية متكاملة تضم متحفًا للأطفال، ومراكز للترميم والتعليم والتدريب، ومكتبات متخصصة، وحدائق ومناطق ثقافية وتجارية.

كما يعتمد على أحدث تقنيات العرض التفاعلى والعروض الغرافيكية، ما يجعل الزيارة *تجربة معرفية وإنسانية متكاملة*

افتتاح المتحف الكبير يوم السبت القادم ليس حدثًا ثقافيًا فحسب، بل نقطة تحول فى التاريخ المعاصر لمصر، فهو يعيد تموضعها على خريطة الثقافة العالمية، ويمنحها مكانة لا تضاهيها دولة أخرى، لأنها ببساطة تقدم للعالم ما لا يملكه أحد... الحضارة الأولى على وجه الأرض.

وقد استغل فاروق حسنى شبكة علاقاته الدولية الواسعة من أجل المساهمة فى بناء هذا الصرح الكبير، مؤمنًا بأن مصر تستحق متحفًا عالميًا يليق بحضارتها. وفتح قنوات تعاون مع مؤسسات دولية ومتاحف كبرى، واستثمر مكانته واحترامه العالمى لتأمين الدعم الفنى واللوجستى والمعنوى للمشروع، فكان أحد أبرز من وضعوا حجر الأساس للمتحف المصرى الكبير، إيمانًا منه بأن الثقافة هى جسر التواصل الأقوى بين الشعوب.

تحية لكل من ساهم فى إقامة هذا الصرح العظيم من مهندسين وعلماء ومرممين ومصممين، ممن عملوا سنوات طويلة ليُخرجوا هذا الحلم إلى النور.

وتحية خاصة للفنان الكبير فاروق حسنى، صاحب الرؤية والبذرة الأولى لهذا المشروع، الذى آمن بأن الفن ليس ترفًا بل هو روح الأمة، وأن المتحف الكبير يجب أن يكون مرآة مصر أمام العالم.

*ثقافة مصر... ميراث لا ينضب*

كان فاروق حسنى يعى أن فى مصر ميراثاً ثقافياً متنوعاً، من مطروح إلى أسوان وسيناء والدلتا والصعيد. وفى كل منطقة ملامح خاصة، فى الشعر والموسيقى والحكى والفن الشعبى، تمتزج بروح المكان وخصوصيته.

من بدو الصحراء فى مطروح حيث تتجلى الحكمة والشعر، إلى موسيقى النوبة الحارة بالمشاعر، إلى الصعيد حيث الربابة والمزمار لا يفارقان الحياة اليومية، إلى الدلتا حيث تختلط الأذكار بالأنغام الصوفية فى حقول الخير.

لذلك حرص على الاهتمام بهذا التنوع الذى يجرى فى عروق المصرى، ليصنع منه مزيجًا فريدًا من الحس الإنسانى والفنى. وكل شيء فى مصر جعله نابضاً بالحياة، لأنه ابن الحياة نفسها: الصحراء والبحر والنيل والليل والنهار.

ومن هنا، يصبح استثمار هذا الموروث الثقافى العظيم هو طريقنا نحو المستقبل.لذلك كانت مشروعاته لخدمة هذا التنوع والثراء الثقافى فأنشأ مركز تنمية المواهب بدار الأوبرا لتعليم الموسيقى للأطفال والشباب، وفصولًا لتدريس التراث المصرى فى متاحف الآثار، وقاد أكبر حركة ترميم وإنشاء متاحف فى تاريخ مصر الحديث:

ومن تمثال أبى الهول إلى معابد الأقصر والكرنك، مرورًا بالآثار اليهودية والقبطية  والإسلامية، فى مشهد يعكس وحدة الهوية المصرية عبر العصور.

طور القاهرة التاريخية، وأنار البر الغربى بالأقصر والقلعة، ورمم المسارح ودور العرض، وأعاد افتتاح أوبرا الإسكندرية ودمنهور، وأنشأ متاحف الحضارة، والنوبة، وإخناتون، والمجوهرات، ومتاحف المحافظات.

كما أطلق مشروعات رائدة: مكتبة القاهرة الكبرى، ومكتبة طلعت حرب، ومكتبة الأسرة، ومكتبات القرى.

أسس المركز القومى للترجمة، وجهاز التنسيق الحضارى، وصندوق التنمية الثقافية، وقطاع الإنتاج الثقافى.

وفى المهرجانات، أطلق مهرجان الموسيقى العربية، ومهرجان المسرح التجريبى، والمهرجان القومى للسينما، وسمبوزيوم أسوان، ومهرجان القلعة للموسيقى والغناء.

*بنك أفكار لا ينضب*

لم يكن فاروق حسنى وزيرًا تقليديًا ينتظر مقترحات اللجان أو يلاحق أضواء الإعلام، بل كان بنك أفكار متجددًا. ومكتبه كان خلية عمل دائمة مليئة بالمشروعات المستقبلية.

لم يكن موظفًا فى منصب، بل رجل رؤية جعل الثقافة المصرية فى عهده مركز إشعاع فى العالم العربى.

اليوم، ونحن نراجع تجربته، ندرك أن قيمة الوزير لا تُقاس بعدد التصريحات أو الصور، بل بما يتركه من أثر فى الوعى العام. وفاروق حسنى يظل نموذجًا نادرًا لرجل دولة امتلك مشروعًا ثقافيًا وطنيًا متكاملًا.

*صناعة الأمل*

ما قدمه فاروق حسنى نموذجاً يُحتذى فى صياغة مشروع ثقافى وطنى شامل، ونموذج فى صناعة الأمل.

ومن هذا النموذج، يجب أن ننطلق لبناء مشاريع جديدة تليق بمصر وتاريخها ومكانتها، بعيدًا عن صخب مناسبات الترفيه السطحية.

نحن نريد مشروعات ثقافية وطنية تليق بوجه مصر الحضارى وتستكمل ما بدأه روادها الحقيقيون... أمثال فاروق حسنى.

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: يتجاوز حدود فاروق حسنى أن الثقافة فى العالم لم یکن بل کان وزیر ا

إقرأ أيضاً:

وزير العدل ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء يجتمع مع السفير المصري

اجتمع سعادة السيد/إبراهيم بن علي المهندي، وزير العدل ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، مع سعادة السيد/ وليد فهمي الفقي، سفير جمهورية مصر العربية لدى الدولة.

تم خلال الاجتماع بحث علاقات التعاون القانوني بين دولة قطر وجمهورية مصر العربية ، والسبل الكفيلة بتعزيزها وتطويرها.

مقالات مشابهة

  • ميزانية 2026 و”راتبك لحظي” على طاولة المحافظ ووزير المالية
  • رسالة للسلام من المتحف المصرى الكبير ‎بعد طول انتظار.. ملوك ورؤساء العالم فى حضرة الفراعنة
  • تامر حسنى يخطف جائزة أيقونة الإلهام العالمية 2025 ويحقق إنجازا بعالم الأزياء
  • قصور الثقافة هذا الأسبوع.. افتتاح قصر ثقافة الطفل بسوهاج وعروض فنية تزين مهرجان الإسماعيلية
  • وزير العدل ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء يجتمع مع السفير المصري
  • فضائل فاروق حسنى
  • طوابير إيطالية.. فى حب الحضارة المصرية
  • بعد اختياره رئيسًا لـ ثقافة الشيوخ.. محمد عمران: دعم الهوية الوطنية على رأس أولوياتي
  • شكرًا فاروق حسني