الفن والواقع-1 الصلة بين الفن وواقع الحياة الإنسانية
تاريخ النشر: 28th, October 2025 GMT
العلاقة بين الفن والواقع معقدة ومتشعبة؛ ولذلك فإنها موضع خلاف دائم، ليس فقط على مستوى التنظير، وإنما أيضًا على مستوى التلقي لدى الجمهور العادي.
ذلك أن هذه العلاقة نفسها يمكن النظر إليها من زوايا عديدة، أعني: من حيث علاقة الفن بالحياة ذاتها، وبالواقع السياسي والاقتصادي. وسوف أحاول إيجاز هذه العلاقة أولًا من منظور الصلة بين الفن والحياة، ثم من منظور الصلة بين الفن والسياسة في مقال تالٍ.
لعل أفلاطون هو أول من تناول باستفاضة مسألة الصلة بين الفن والواقع من منظور فلسفي يتعلق بنظرية المعرفة: إذ رأى أن المعرفة الحقة هي معرفة بالمُثُل أو معاني الأشياء، أما المعرفة بالأشياء نفسها كما تتبدى لنا في عالمنا أو دنيانا فهي وهم وخداع؛ لأنها تطلعنا فحسب على صورة من صور الأشياء الجزئية العابرة في عالم الواقع. ولأن الفن يُعد صورة من هذه الأشياء الجزئية الواقعية؛ فإنه بذلك يُعد صورة من صورة أو نسخة من نسخة. ومعنى هذا بطريقة ضمنية أن ما ينبغي أن يكون عليه الفن هو أن يحاكي المثال أو المعنى الكلي الذي هو الأصل والحقيقة. لكن أفلاطون بذلك لم يستطع أن يبين لنا كيف يمكن أن يحدث هذا في الفن (ببساطة لأنه فصل بين عالم المُثُل أو المعاني الكلية وبين عالم الواقع)؛ ولذلك فإن شوبنهاور هو من تكفل فيما بعد بهذه المهمة التي أخفق فيها أفلاطون، بأن أوضح لنا بالتفصيل كيف يتجلى المثال أو حقيقة الشيء في الشيء نفسه كما يتبدى أو يحدث في واقع ما. فالحقيقة أن المثال عند أفلاطون يُوجد في عالم مفارق، ويظل في النهاية مجرد فكرة تغيب عنها تفاصيل الحياة والموجودات الواقعية كما توجد في زمان ومكان ما. وبذلك فإن مذهب أفلاطون في الفن عمومًا يتنكر للواقع الذي نعرفه والذي نحياه.
وفي العصر الحديث رأى هيجل الفن باعتباره « التجلي المحسوس للفكرة»، والفكرة هنا تعني الروح أو الوعي الكلي الذي يسري في الوجود. وبما أن الفن هو أحد تجليات الوعي في الواقع، فإن هذا يعني أن الفن في عمومه (بما في ذلك الأدب) هو تجسد للفكر أو الوعي في الواقع، وهذا التجسد يحدث باعتباره عملية جدلية تطورية؛ وبالتالي فإن التغير والتطور الذي يجري على مسار الفن في الواقع هو انعكاس للتطور الذي يجرى على مسار الروح أو الوعي الكلي.
غير أن هذا الموقف بعينه كان مثار نقد الماركسيين لمذهب هيجل هنا: فعلى الرغم من إعجابهم بمنهج الجدل عند هيجل الذي يقوم على التغير والتطور، إلا أنهم رأوا في معظمهم مثلما رأى إمامهم ماركس أن الجدل عند هيجل يقف على رأسه وعلينا أن نقلبه؛ لأن الوعي ليس هو ما يوجه التاريخ ويتطور وفقًا له العالم، بل إن الأوضاع الاجتماعية ممثلة في الواقع الاقتصادي والسياسي في المقام الأول هي ما يشكل وعي الناس وطريقة تفكيرهم في أي مجتمع. ولهذا فقد رأى ماركس أن الفن الذي له قيمة هو الفن الذي يعبر عن مصالح الطبقة العاملة في كفاحها من أجل التغيير.
أما الماركسيون من نقاد الماركسية الأرثوذوكسية (أو الأصولية)- خاصةً من أتباع مدرسة فرانكفورت من أمثال: هوركهايمر وأدورنو- وإن كانوا يسايرون الماركسيين في السعي إلى ربط الفن (الذي هو شكل من أشكال الوعي) بالواقع؛ فإنهم يرفضون اختزال هذا الواقع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالطبقة على نحو تصبح قيمة الفن وماهيته مختزلة في التعبير عن المصالح الطبقية. ذلك أن الفن عندهم له وظيفة اجتماعية وسياسية، فهو وإن كان يعكس الواقع الاجتماعي، فإنه يكون قادرًا في الوقت ذاته على تجاوز أصوله الطبقية، والتحرر من الواقع والتمرد عليه، وهذا معنى ثورية الفن وقدرته على التغيير.
والرأي عندي هو أن كل فن حقيقي لابد أن يأتي معبرًا عن حالة إنسانية ما، وقد تتمثل هذه الحالة في لحظة إنسانية ما معينة عابرة، أو في واقع اجتماعي يجري في زمان ومكان ما. هذا أمر لا شك فيه، بشرط أن نعي دائمًا أن الفن لا يعبر عن هذا الواقع بأن يعكسه أو يصوره على النحو الذي يُوجَد عليه، بل بأن يقوم برفعه إلى حالة حضور دائم يتجاوز عالمه الجزئي، وذلك من خلال التعبير عن دلالة عامة تتجاوز إطاره الزماني المكاني. وهذا يصدق حتى على الفن التجريدي abstract art الذي لا يتمثل واقعًا معينًّا ما، ولكنه مع ذلك لا يخلو من التعبير عن دلالة عامة ما يمكن أن نتمثلها في واقعنا المعيش. ولهذا فقد قيل دومًا إن الفن التجريدي بوجه عام هو نوع من التعبير عن رفض العالم، ومن ثم التمرد على الواقع وعلى النحو الذي تتبدى عليه الأشياء في هذا الواقع.
كيف نطبق ذلك على الصلة بين الفن والواقع السياسي، وهي الصلة التي تعبر بشكل أكثر وضوحًا وتحديدًا عن تجليات العلاقة بين الفن والواقع؟ هذا ما سوف نتناوله في المقال التالي بمشيئة الله.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التعبیر عن فی الواقع أن الفن الذی ی
إقرأ أيضاً:
بالصور.. أجيال من الفنانين التشكيليين في افتتاح معرض رضا عبد السلام بجاليري ضي
شهد جاليري ضي الزمالك، مساء اليوم الأحد، افتتاح معرض الفنان التشكيلي الأستاذ الدكتور رضا عبد السلام "رحلتي بين التجريب والتجديد"، بحضور أجيال متعددة من الفنانين التشكيليين وطلاب الفنون الجميلة، ويستمر لمدة شهر.
حضر الافتتاح السفير حازم رمضان قنصل مصر العام السابق في جدة، و حرمه الفنانة الدكتورة نيفين درويش، والفنانة ابتسام زكي عبد الرحمن حرم السفير أسامة العشيري مساعد وزير الخارجية السابق، والفنان طارق الكومي نقيب التشكيليين، ورئيس اتحاد التشكيليين الفلسطينيين الدكتور عصام حلس، والفنانون الكبار سامي البلشي وصلاح حماد وأحمد الجنايني وصفية القباني ووليد عبيد وحكيم جماعين ومراد درويش وشمس القرنفلي والسيد عبده سليم وأسماء الدسوقي، والدكتور محمد هشام قنديل رئيس مجلس إدارة أتيليه العرب للثقافة والفنون، والمهندس أسامة قنديل مدير جاليري ضي.
ويتيح المعرض أعمال الفنان الكبير رضا عبد السلام مقترنة بعدة فعاليات، يوميا من الساعة الحادية عشرة صباحًا حتى التاسعة مساءً بشارع حسن عاصم بالزمالك، ليقدّم للمتلقي تجربة بصرية تجمع بين الفكر والمادة، وتعيد تعريف العلاقة بين الجمال والبيئة في الفن المصري المعاصر.
وقال الناقد التشكيلي هشام قنديل، إن المتتبع لتجربة الفنان الكبير رضا عبدالسلام علي مدار نصف قرن، يكتشف بسهولة أنها متجددة دائما، تنمو كما ينمو الكائن الحي، منفتحة علي الجديد، وهي في الوقت ذاته تضيف إلى ثرواته التشكيلية ثراء نوعيا مستمدا من احتكاكه بالواقع المعاصر وقضاياه، حيث تتسع الرؤية والهموم الفنية التي يعبر عنها العمل الفني سواء في الشكل أو المضمون.
وتابع قنديل: إذا نظرت إلي أعمال رضا عبدالسلام تستطيع كذلك أن تميزها عن غيرها بسرعة وتلقائية، ذلك أنه يبحث منذ بداياته عن صور جمالية جذابة تتميز باستيحاء واستلهام البيئة والطبيعة، وذكريات طفولته وصباه في مدينة السويس الباسلة، بعيدا عن التقريرية والصوت العالي، مبتعدا عن التكرار والتماثل الذي يفقد اللوحة المغامرة في خلق عالم تشكيلي جديد يفجر الواقع ويكشفه، وينجلي هذا في معرضه حيث يطرح قضايا جمالية جديدة ذات حساسية مختلفة، تقوم في نفس الوقت علي أسس فنية، منها إعادة تدوير الذاكرة نفسها، والذاكرة هي سلاح هام تفجر الحاضر وتنحو باتجاه المستقبل، من خلال ما وقع تحت يد الفنان من أشياء قديمة ولوحات مهملة، فضلا عن مكنونات في ذاكرته وذاكرة المجتمع ككل.
أضاف قنديل: كما تنجلي قدرة رضا عبدالسلام التشكيلية في استخدام تركيباته الجديدة وإعادة صياغته للأشكال من جديد وعلاقة هذه الأشياء بالواقع، فقد استطاع ببراعته وقدراته أن يكون سباقا في اكتشاف أبعاد جديدة للوحة،والانتقال من الموقف التقريري إلي لغة الدهشة والحلم، بنزوعه الدائم إلى التجريب والتجديد والحركة، بالإضافة إلى قدرته الفائقة على تفكيك مفردات الواقع وإعادة صياغته من جديد، وتظل إثارة الدهشة، من أبرز سمات رضا عبد السلام، وهو في ذلك يعمد إلى تحري فلسفته الخاصة، بحيث يكون الصور من فتات الواقع، مع إعادة صياغتها وخلق حالة تشكيلية جديدة.
واختتم قنديل مؤكدا أن هذا المعرض يحمل إضافات جديدة في الشكل، بطريقة غير متعارف عليها، مع تحرير للوحة من اعتياديتها وتقريراتها، مبتعدا عن الرتابة بطريقته الخاصة وحساسيته، ومهما تمرد و جدد ستظل أعمال رضا عبد السلام ساطعة و لا تخطئها العين أبدا، لسبب وحيد ووجيه، أنها تحمل خصوبته وخصوصيته في آن واحد.
يشكل معرض الفنان الدكتور رضا عبد السلام تجربة فنية وفكرية ترصد مسيرته الطويلة في البحث عن أشكال جديدة من التعبير البصري، وتسلّط الضوء على مفهوم إعادة التدوير والاستدامة الجمالية كاتجاه معاصر في الفنون التشكيلية.
ويقدم المعرض مجموعة من الأعمال التي تمثل محطات مختلفة من رحلة الفنان رضا عبد السلام، بين القديم والجديد، التجريب والتجديد، المادي والفكري، حيث يوظف الخامات المستهلكة والمواد المعاد تدويرها ليخلق منها أعمالًا تحمل طاقة جمالية ومعنًى بيئيًا في آنٍ واحد و تجمع بين الجرأة في التكوين والتنوّع اللوني، وتعكس سعيه المستمر إلى التجديد في أدوات التعبير، مع الحفاظ على بصمته الخاصة التي تنطلق من الواقع المصري بكل ما فيه من رموز بصرية وشعبية، وتتحول عبر خياله إلى تشكيلات إنسانية وحلمية مفعمة بالحركة والإيحاء.
ويرى الفنان رضا عبد السلام أن الفن لم يعد مجرد وسيلة للتعبير الجمالي، بل أصبح مسؤولية تجاه البيئة والمجتمع، وهو ما جعله يسعى — كما يوضح — إلى تحويل "عديم النفع" من الأشياء اليومية إلى أعمال فنية نابضة بالحياة والدلالة، تمزج بين مهارة الحرفة ووعي الاستدامة.