د. محمد بشاري يكتب: من الرعية إلى المواطن.. فكر محمود ممداني وعبور إفريقيا نحو مستقبل جديد
تاريخ النشر: 10th, November 2025 GMT
محمود ممداني ليس مجرد باحثٍ في السياسة الإفريقية، بل هو ضميرٌ فكريٌّ ظلّ يُعيد صياغة العلاقة بين الهوية والسلطة والمواطنة في القارة السمراء. وُلد عام 1946 في كمبالا، عاصمة أوغندا، لأسرةٍ من أصولٍ هندية استقرت في شرق إفريقيا قبل الاستقلال. درس الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة ماكيريري، ثم واصل تعليمه في جامعة هارفارد حيث نال الدكتوراه.
في كتابه البارز «المواطن والرعية: إفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة»، الصادر أولاً بالإنجليزية سنة 1996 عن دار Princeton University Press، ثم تُرجم إلى العربية سنة 2018 بجهد المترجم صلاح أبو نار ومراجعة المفكر حلمي شعراوي ضمن «المشروع القومي للترجمة» في القاهرة، يقدّم ممداني أطروحةً فلسفيةً وسياسيةً تُعيد قراءة الدولة الإفريقية الحديثة من منظورٍ مختلف: فالاستعمار، في رأيه، لم يرحل تماماً، بل ترك وراءه بنية حكمٍ مزدوجة ما زالت تتحكم في مصير الشعوب الإفريقية حتى اليوم.
يقوم هذا التحليل على التفريق بين “المواطن” في المدينة، الذي يخضع لقوانين مدنية حديثة، و"الرعية” في الريف، الذي يُحكم بقانون عرفي قبليٍّ أُعيدت صياغته خلال العهد الاستعماري ليخدم السيطرة بأقل تكلفة. هذه الازدواجية التي يسميها ممداني بـ«الاستبداد اللامركزي» جعلت من القرى مساحاتٍ للطاعة ومن المدن فضاءاتٍ للحقوق الشكلية، فظلّت الديمقراطية الإفريقية ناقصةً لأنها لم تُوحّد المجال السياسي بين الريف والحضر.
قيمة هذا الكتاب لا تكمن في نقده للاستعمار فحسب، بل في شجاعته على نقد الأنظمة الوطنية بعد الاستقلال. فهو يبين أن كثيرًا من الدول الإفريقية ورثت أدوات القمع ذاتها التي صممها المستعمر، فاستمرت تُدير الريف بمنطق “الرعية” وتُنتج مواطنين منقوصي الحقوق. والنتيجة، كما يرى ممداني، أن مشروع المواطنة ظل حبيس المدن الكبرى، بينما بقي الريف مجرّد خزان انتخابي وسوقٍ خامٍ للقوة العاملة.
لكن الكاتب لا يستسلم للمرارة؛ بل يوجّه فكرَه نحو الأمل والبناء. فهو يدعو إلى تجاوز هذا الانقسام من خلال إعادة ربط الريف بالمدينة، ودمج الفلاحين والعمال في بنية الدولة على قدم المساواة، بحيث تتحول الدولة من سلطةٍ وصائية إلى فضاءٍ للمشاركة. في هذا السياق، يطرح ممداني نقدًا عميقًا لفكرة “الهوية الأصلية”، مبينًا أن القبلية في شكلها السياسي الحديث ليست تراثًا طبيعيًا، بل صناعةٌ استعماريةٌ هندستها القوى الكولونيالية لتقسيم المجتمع وإدامة السيطرة. فـ«الأصالة» عنده ليست ما يُورّث بل ما يُعاد بناؤه في مشروع وطني جامع.
أسلوب ممداني، رغم طابعه الأكاديمي، يتميّز بالهدوء المنهجي وبالانفتاح على الأمل. فهو لا يُحاكم الماضي بعصبية، بل يقرأه كمعملٍ لفهم ما يجب تغييره. وهذا ما يمنح فكره راهنية خاصة في عالمٍ لا تزال فيه آثار الكولونيالية تتبدى في نُظُم الإدارة والقانون والتعليم والسياسة. إنه يُذكّر بأن العدالة ليست ثمرة الثورة على الآخر، بل ثمرة إصلاح الذات، وأن المستقبل لا يصنعه من يُكرر خطاب المظلومية، بل من يُعيد تعريف المواطنة بوصفها عقدًا أخلاقيًا جامعًا لكل من يعيش في الوطن.
في هذا الأفق، يبدو أن المسار الفكري لمحمود ممداني يلتقي مع المسار السياسي لابنه زهران في نقطةٍ واحدةٍ أساسية: الإيمان بضرورة تحويل السلطة إلى مسؤوليةٍ اجتماعيةٍ تتأسس على المساواة والكرامة. فكما يدعو الأب إلى إنهاء منطق «الرعية» في السياسة الإفريقية، يسعى الابن إلى إنهاء منطق «التهميش» في قلب الغرب نفسه، مؤكداً أن الإنسان هو المركز في أي مشروع سياسي عادل.
وهكذا، فإن «المواطن والرعية» ليس مجرد كتابٍ في التاريخ السياسي، بل مرآةٌ فكرية تُظهر عمق التحول الإنساني في بيتٍ واحدٍ جمع بين المفكر والمصلح والسياسي. ممداني الأب يكتب ليعيد تعريف المواطنة في إفريقيا، وزهران الابن يمارس السياسة ليعيد تعريفها في الغرب. كلاهما ينتميان إلى مشروعٍ واحد: عبور العالم من منطق الهيمنة إلى منطق المشاركة.
في زمنٍ يزداد فيه الحديث عن الحدود والهويات والانقسامات، يبقى فكر ممداني رسالةً متجددةً بأنّ الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بانسحاب المستعمِر، بل بانتصار الإنسان. فإفريقيا التي حلم بها ممداني ليست إفريقيا الضحية، بل إفريقيا المواطن الحرّ، الشريك في القرار، المشارك في المصير، العابر نحو مستقبلٍ لا مكان فيه للرعايا، بل لمجتمعاتٍ تُبنى على العدالة والكرامة والوعي المشترك.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: أفريقيا الهند محمد بشاري البشاري فی جامعة
إقرأ أيضاً:
تفاصيل اجتماع اللجنة العليا المنظمة لبطولة إفريقيا لكرة السلة سيدات
اللجنة العليا المنظمة لبطولة إفريقيا للأندية لكرة السلة سيدات، رقم ٢٩، برئاسة محمد الجارحي، عضو مجلس إدارة النادي الأهلي، وإبراهيم العامري ورويدا هشام، عضوي مجلس الإدارة ونائبي رئيس اللجنة العليا، التي يستضيفها الأهلي خلال الفترة من ٤-١٥ ديسمبر المقبل، عقدت اجتماعًا موسعًا اليوم بمقر النادي بالجزيرة، في حضور الكابتن خالد العوضي، مدير البطولة، ورؤساء اللجان.
وخلال الاجتماع ناقشت اللجنة جميع التفاصيل التنظيمية الخاصة بالبطولة، وفي مقدمتها ترتيبات استقبال الفرق والوفود المشاركة، وتسكينها في الفنادق المخصصة، وجدول الانتقالات اليومية من وإلى مقر النادي، بما يضمن توفير الراحة والأجواء المناسبة لجميع البعثات المشاركة. استعرضت اللجنة أيضًا الخطة الكاملة للترتيبات الأمنية داخل الصالات ومحيط النادي، بالتنسيق مع الجهات الأمنية المختصة و الشخصيات التي سيتم توجيه الدعوات لها لحضور فعاليات البطولة. وتطرق الاجتماع إلى مناقشة فقرات حفل افتتاح البطولة، فضلًا عن تصميم شعار البطولة (اللوجو)، الذي يجسد هوية الحدث ويعبر عن مكانة الأهلي. وقال محمد الجارحي، رئيس اللجنة العليا المنظمة للبطولة، إن النادي يضع كل إمكاناته لخروج البطولة في أفضل صورة ممكنة، مشيرًا إلى أن اللجنة العليا تعمل على أدق التفاصيل لضمان نجاح الحدث القاري. وأضاف أننا نهدف إلى تنظيم بطولة تليق باسم الأهلي والرياضة المصرية، وتعكس خبرات النادي الكبيرة في استضافة البطولات القارية، فلدينا فريق عمل متميز، ونعمل جميعًا بروح واحدة من أجل أن تخرج البطولة في أفضل صورة ممكنة.