جان يعقوب جبور

تُعد الظاهرة السياسية في لبنان نموذجاً مركباً يجمع بين الطائفية، الزبائنية، والارتباطات الإقليمية والدولية، وضمن هذا الإطار يبرُز النفاق السياسي كأحد الملامح البنيوية التي تُعيق قيام دولة القانون والمؤسسات؛ فالنفاق هنا ليس مجرد سلوك فردي أو أخلاقي؛ بل هو جزء من آلية اشتغال النظام السياسي نفسه، يتجلّى في التناقض بين الخطاب المُعلن والممارسة الفعلية، وفي استخدام القيم الوطنية والشعارات الإصلاحية كأدوات لتحقيق مصالح فئوية أو شخصية.

يُعرَّف النفاق السياسي بأنه التباين المقصود بين الخطاب والممارسة، أو بين ما يُعلَن وما يُمارَس، بهدف تحقيق مكاسب سياسية أو الحفاظ على النفوذ. وفي السياق اللبناني، يتجاوز النفاق حدود التلاعب الخطابي؛ ليصبح وسيلة بنيوية لإدارة التوازنات الدقيقة بين الطوائف والمصالح المتعارضة، مما يجعل من الصعب الفصل بين المبدأ والمصلحة.

يستندُ النظام السياسي اللبناني إلى مبدأ المُحاصَصة الطائفية، الذي يُوزِّع السُلطة وفق الانتماءات الدينية والمذهبية لا وفق الكفاءة أو البرامج السياسية. هذه البنية تُنتج بطبيعتها بيئة خصبة للنفاق؛ إذ تفرض على الزعماء التنقُّل المستمر بين خطابين: خطاب عام يدعو إلى الوحدة الوطنية، وآخر داخلي يُغذي العصبية الطائفية لضمان الولاء الشعبي. وهكذا يصبح الدفاع عن حقوق الطائفة ذريعة لتبرير الفساد والاحتكار السياسي.

إضافة إلى ذلك، يتميّز لبنان بتشابك ولاءاته الإقليمية والدولية؛ حيث ترتبط قوى سياسية بمحاور خارجية متناقضة. وهذا الواقع يُعمّق النفاق السياسي؛ إذ يرفع كل طرف شعار "السيادة الوطنية"، فيما يعتمد فعليًا على دعم خارجي لتثبيت موقعه الداخلي. وبذلك تتحوّل السيادة من قيمة وطنية إلى ورقة تفاوضية في لعبة النفوذ.

إنّ طول أمد النفاق في الحياة السياسية اللبنانية ساهم في ترسيخ ثقافة اجتماعية قائمة على الشك واللامسؤولية؛ فالمواطن اللبناني بات يتعامل مع الخطاب السياسي باعتباره تمثيلًا مسرحيًا، لا التزامًا حقيقيًا. وهذه القطيعة بين الشعب والنخب الحاكمة أضعفت ثقة المواطنين بالمؤسسات، وأدّت إلى تآكل الشرعية السياسية، وغياب المحاسبة الفعلية.

لا يمكن تجاوز ظاهرة النفاق السياسي دون مقاربة شاملة لإصلاح البنية السياسية والثقافية في آنٍ واحد. ويتطلّب ذلك إصلاح النظام الانتخابي بما يحدّ من الطائفية السياسية ويعزّز التمثيل الوطني، إلى جانب تعزيز الشفافية والمساءلة عبر مؤسسات قضائية وإعلامية مستقلة وتطوير الوعي المدني لدى المواطنين، لترسيخ ثقافة المواطنة على حساب الولاءات الضيقة.

واستعادة العلاقة بين السياسة والأخلاق تمثّل الشرط الأساسي لبناء دولة حديثة في لبنان، دولة تُدار وفق المبادئ لا المصالح ووفق القيم لا التناقضات.

وبالخلاصة، النفاق السياسي في لبنان ليس ظاهرة طارئة؛ بل هو نتاج تاريخ طويل من التسويات والمساومات التي صاغت النظام السياسي بعد الاستقلال. إلا أنّ استمرار هذا النمط بات يُهدد بقاء الدولة نفسها، ما لم يُعاد النظر في الأسس التي تنظّم العلاقة بين السلطة والمجتمع.

إنَّ بناء مشروع سياسي صادق وأخلاقي هو التحدّي الأكبر أمام لبنان المعاصر، في سعيه إلى تجاوز أزماته البنيوية نحو نموذج أكثر اتساقًا مع قيم الديمقراطية والشفافية. وقليلون من السياسيين والأحزاب من يتطابق خطاباتهم مع ممارساتهم ومن يؤمنون بالوطنية والمواطنة وكثيرون هم من يعتمدون النفاق السياسي للوصول إلى السلطة (كما هو الحال في هذه المرحلة)، ولكن نقول لهؤلاء المنافقين إن نفاقكم سيؤدي إلى نفوق ما تبقى من الوطن والإنسان في بلدنا الحبيب لبنان.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

النفط والجيوش والفتاوى.. هكذا سخرت أنظمة “حركة النفاق” وعلماء السوء مقدرات الأمة لـ “الزعامة الدينية” للعدو

يمانيون/ تقرير: محسن علي
يوم بعد يوم وعام يعقبه آخر، حيث تتكشف الحقائق وتتهاوى الأقنعة، لم يعد الصمت خياراً، ولم تعد المجاملة ترفاً، إن ما يجري في المنطقة العربية ليس مجرد تقاعس أو عجز، بل هو تواطؤ ممنهج وخيانة استراتيجية مكتملة الأركان، تُدار من عواصم عربية يفترض بها أن تكون سنداً للأمة، غير أنها تحولت تبك الأنظمة، التي تتربع على عروشها بفضل ثروات الشعوب وجيوشها، إلى مجرد أدوات وظيفية في المخطط الصهيو-أمريكي، تعمل بجد واجتهاد على تصفية القضية المركزية وتثبيت هيمنة العدو وتكشف بوضوح لكل فرد من الشعوب العربية والاسلامية حقيقة من يحكمها بالحديد والنار.

الخيانة كاستراتيجية وجود
تلعب الأنظمة العربية الرسمية والنخب المدجنة التابعة لها دور وظيفي في خدمة وتثبيت المشروع الصهيو-أمريكي في المنطقة منذ عقود من الزمن تحت الطاولة، وتجلت في عصرنا الراهن بشكل واضح وصريح وفاضح، بيد إن هذه العلاقة لا تقتصر على مجرد التواطؤ السلبي، بل تتعداه إلى المشاركة الفعالة في تسخير مقدرات الأمة لضمان هيمنة العدو وزعامته الإقليمية والدينية المزعومة، وجيرت كل شيء – من الجندي إلى الريال والدرهم الدينار، ومن النخبة المثقفة إلى عالم السوء – لخدمة مشروع لا يرى في هذه الأمة إلا عبيداً وخزاناً للموارد, فهل تستفيق الشعوب لترى بأم عينها كيف تُباع قضاياها وتُرهن مقدراتها في سوق النخاسة السياسي.

خيانة الأنظمة والنخب المدجنة للمخطط الصهيو-أمريكي
تُعد خيانة الأنظمة العربية للقضية المركزية، فلسطين، حجر الزاوية في استراتيجية بقائها، لقد تحولت هذه الأنظمة، في نظر العديد من المحللين، إلى “حراس للكيان الصهيوني المحتل” حيث يكمن دورها الأساسي في حماية الكيان الصهيوني من التهديد الشعبي والمقاومة.

التواطؤ التاريخي والمستمر
يُظهر التاريخ الحديث أن الأنظمة العربية لعبت دوراً حاسماً في تمكين المشروع الصهيوني منذ مراحله الأولى. ففي عام 1936، تدخل الزعماء العرب لإقناع الثوار الفلسطينيين بوقف ثورتهم، معتمدين على “حسن نوايا” بريطانيا، مما أدى إلى إطفاء جذوة المقاومة وفي حرب 1948، كان قبول الهدنة التي فرضها مجلس الأمن، بتواطؤ عربي، بمثابة “بداية النصر لليهود بعد إنقاذهم من هلاك محقق”

النخب المدجنة والتطبيع الثقافي
تضطلع «النخب المدجنة» بدور محوري في تجميل وتبرير هذه الخيانة، فمن خلال السيطرة على وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والأكاديمية، تعمل هذه النخب على «تغيير الوعي المجتمعي» عبر شيطنة المقاومة والمجاهدين وتصويرها كـ “إرهاب” وفق المنظور الأمريكي، وتصوير العدو كـ “شريك سلام، وكذلك العمل على «تفكيك الهوية» من خلال الترويج لخطاب “التسامح” و”السلام” وما يسمى بـ”الأخوة الإبراهيمية” كغطاء للتطبيع السياسي والاقتصادي والأمني.

حركة النفاق وتسخير الموارد والجيوش
تُشير “حركة النفاق” إلى تلك القوى التي تتظاهر بالعداء للعدو بينما تعمل في الخفاء على خدمته، وهي تشمل الأنظمة وحلفاءها من النخب، وقد عملت هذه الحركة على تسخير موارد الأمة لفرض هيمنة العدو وزعامته الدينية المزعومة, متخذة من “بعبع” إيران مخاوف وهمية فرضها العدو الأمريكي والصهيوني لبسط السيطرة المباشرة عليها وبناء قواعد عسكرية على أراضيها” وفي هذا السياق يتجلى ما أورده الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي “رضوان الله عليه” حينما قال في أحد محاضراته ودروسه من هدي القرآن” أن قادة أنظمة وزعامات ورؤساء الدول العربية وجيوشهم جعلتهم أمريكا مثابة رؤساء أقسام للشرطة يأتمرون بأمرها وينفذون توجيهاتها بحق كل من تراه أمريكا وإسرائيل خطرا يهدده في أي بلد” هذا الوصف الدقيق يلخص بعبقرية الدور الأمني الوظيفي الذي تمارسه هذه الأنظمة , حيث لم تعد الجيوش العربية بما تمتلكه بحوزتها من ترسانة عسكرية هائلة أداة للدفاع عن الأمة’ بل أصبحت أداة قمع داخلية وخارجية تخدم الأجندة الصهيوأمريكية في دول المنطقة وشعوبها بشكل مباشر.

موارد الأمة وثرواتها بأيدي اعدائها
في مقدمة الاعمال التي تقوم بها حركة النفاق المتمثلة بقادة ورؤوساء وملوك الانظمة العربية والاسلامية هي تسخير قدراتها العسكرية والبشرية «الجيوش والأمن» وتحويل وظيفة الجيوش من الدفاع عن الأمة إلى حماية حدود العدو وقمع أي تحرك شعبي أو مقاوم يهدد مصالحه، وقد كشفت مؤخرا تقارير عن تعاون عسكري وأمني بين دول عربية وإسرائيل بتنسيق أمريكي، خاصة في حرب غزة.
لم تكتف تلك الانظمة بتسخير الجيوش، بل واضافت بجانبها تسخير «الثروات والموارد» واستخدام الثروات النفطية والمالية لتمويل صفقات السلاح الأمريكية، والتي تضمن تفوق إسرائيل العسكري، واستثمارها في مشاريع تطبيعية تخدم الاقتصاد الإسرائيلي, وحين تسأل بالمقارنة عن سبب الشقاء والتعاسة والفقر الذي تعيشه أمة العرب وتقول.. من هي أغنى أمة وأفقر أمة.. سيكون الجواب.. أمة العرب.. لماذا.. لأن مناطقها غنية بالثروات والموارد وأموالها كلها تصب في بنوك اليهود والنصارى.
ساهم في هذا الجانب «الزعامة الدينية» ممثلة بعلماء السوء والبلاط الذين عملوا على إضفاء شرعية دينية على الوجود الصهيوني من خلال ترويج مفاهيم دينية محرفة تخدم الرواية الصهيونية، وتبرير التطبيع كـ “ضرورة شرعية” وفق مفاهيم ثقافية هدامة وافكار مظلة باطلة ارتكزت على ما ينسبونه زورا وبهتانا إلى رسول الله محمد صلوات الله عليه وآله بقولهم « أطع الأمير وإن جلد ظهرك وهتك عرضك وأخذ حقك ومالك» ليتجلي فيهم قول الله ” ليحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يظلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون”

دور علماء السوء في تطويع الشعوب
وبعيدا عن الأدوار التي يجب أن يقوم بها العلماء في تبصير الناس بهدي الله وتعاليمه وشريعة رسوله ونبيه الكريم، يُعد «دور علماء السوء»، أو “علماء السلاطين”، الحلقة الأهم في سلسلة الخيانة، فهم الأداة التي يستخدمها الحكام لتطويع الشعوب، تمهيداً لتطويعها لصالح الأعداء وتبرير الاستبداد والخيانة، حيث تتمثل وظيفة هؤلاء العلماء في «تطويع نصوص الشريعة وتحريف معانيها» لتناسب رؤية الحاكم ومصالحه السياسية, وفي هذا السياق يشدد السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي “حفظه الله” على خطورة تدجين هؤلاء العلماء , مبينا أن دورهم لا يقتصر على تبرير سياسيات الحكام فحسب’ بل يتعداه إلى تثبيط الأمة وتضليلها وخداعها لما يسمى بـ “ولي الأمر” الذي يخدم الأعداء, مشيرا إلى أنهم أيضا يمثلون جبهة داخلية تعمل على تفتيت الوعي وتخدير الشعوب عن قضاياها المصيرية مما يسهل على الأنظمة تمرير مخططات التطبيع والخيانة بكافة أشكالها.

إلغاء ركائز الإسلام والتركيز على الهامش والشكليات
وبينما تعربد أمريكا وإسرائيل كما يحلوا لها في المنطقة وترتكب المجازر والاغتيالات وتنهب الثروات, أغض العلماء أنظارهم عن هذه المنكرات وكأنها لم تحصل وتقع, وبرزت أدوارهم السلبية وفق توجهات العدو وتوجيهات أسيادهم فقاموا بـ«إلغاء فريضة الجهاد» وتركزت أدوارهم على قضايا فرعية وهامشية (كإسبال الثوب والسواك) وتجاهل القضايا المصيرية للأمة، إضافة إلى ثقافة «تأصيل “طاعة ولي الأمر” المطلقة» حتى لو أدت هذه الطاعة- مع أنها متنافية ومجافية تماما لتوجيهات الله سبحانه واوامره في كتابه الحكيم- إلى خيانة الأمة والتطبيع مع العدو وتكريس عبودية الشعوب للأمراء والملوك بعيدا عن عبوديتهم لله جل وعز، وما نراه من عجز حاصل وذل في أوساط الشعوب ما هي الا نتاج لهذه الثقافة التي جردت المسلم حتى فطرته التي خلقه الله عليها, وقتلت روح الدين الإسلامي في أفئدتهم وأماتت نخوة العروبة في دمائهم وذوبت الإنسانية في توجهاتكم وأفكارهم , بل وخلقت حاجزاً نفسياً ودينياً بين الشعوب والمقاومة، فضلا عن ذلك «إصدار فتاوى التطبيع» حيث يعملون على تبرير التطبيع بكل جرأة مع الكيان الصهيوني، ويزعمون أنه “لا يوجد في الدين الإسلامي ما يحرِّم التطبيع مع الدول الأخرى”.

تطويع الشعوب لصالح الأعداء
إن تطويع الشعوب للحكام هو خطوة أولى نحو تطويعها لصالح الأعداء، فعندما ينجح عالم السوء في إقناع الشعب بضرورة طاعة الحاكم المطلقة، يصبح الحاكم قادراً على توجيه هذا الشعب نحو أي مسار يخدم مصالحه ومصالح أسياده، بما في ذلك القبول بالهيمنة الصهيو-أمريكية والتخلي عن المقاومة والجهاد في سبيل الله وإفساح المجال لكل المنكرات والجرائم وهو ما تشهده الساحة في دول مماليك النفط.

منظومة متكاملة من الخيانة
ما ورد سالف الذكر يكشف عن منظومة متكاملة من الخيانة والتواطؤ، تبدأ بالأنظمة الحاكمة، مروراً بالنخب المدجنة التي تروج لخطابها، وصولاً إلى علماء السوء الذين يوفرون الغطاء الشرعي , وإن تعرية هذه المنظومة وفضح آلياتها يعد الخطوة الأولى نحو استعادة الوعي وتوجيه بوصلة الأمة نحو التحرر الحقيقي, وأرضية قابلة للإرتقاء في سلم درجات الإيمان المحمدي الأصيل, قبل أن يصل كل فرد مسلم إلى قوله تعالى ” وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين”.

#تدجين_الشعوب_لليهود_والنصارى#حركة_النفاق_العربية#علماء_السوء

مقالات مشابهة

  • النفط والجيوش والفتاوى.. هكذا سخرت أنظمة “حركة النفاق” وعلماء السوء مقدرات الأمة لـ “الزعامة الدينية” للعدو
  • الطائفية المستوردة: حين فشل العملاء في صناعة الانقسام
  • نظام التقاعد رهن المراسيم التطبيقية
  • فؤاد السنيورة: الحياة السياسية في لبنان تمر بدورات من النهوض والانتكاس وهذا أمر طبيعي
  • بول مكارتني يحث كوب ٣٠ على تبني النظام النباتي لتجنب النفاق المناخي
  • لا للاستسلام.. جنبلاط يدعو الرؤساء الثلاثة للتوافق السياسي
  • إلى روسيا وإيران.. كيف هرب رجال الأسد عبر لبنان؟
  • حزب الله يرفض التفاوض السياسي.. عون وبري وُضِعا في جوّ البيان قبل صدوره
  • ياسمين عبده تكتب: زلزال واشنطن السياسي.. هل تغيّر الانتخابات وجه النظام العالمي؟