في صيف عام 1952، آثر دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، الانعزال في منزله الكائن في سديه بوكير في صحراء النقب، حيث انقطع عن مهامه الرسمية قرابة شهرين. وقد خرج من هذه العزلة بما عُرف لاحقًا بسيمنار بن غوريون وهو النواة التي أخرجت الأسس الأولى للنظرية الأمنية الإسرائيلية أو العقيدة العسكرية، محددًا مرتكزاتها ومبادئها التي شكلت لسنوات طويلة العمود الفقري للسياسات الدفاعية والهجومية لإسرائيل.

هذه النظرية تأسست على اقتناع بقدرة إسرائيل على الجمع بين الردع والإنذار المبكر، وبين نقل المعركة إلى أرض الخصم وبناء تحالفات دولية داعمة. وقد مثلت بذلك الإطار الذي حدد حدود القوة الإسرائيلية وكيفية ممارستها في محيط عربي معادٍ.

كذلك، فلاديمير جابوتينسكي -أحد أبرز المنظّرين للحركة الصهيونية- صاغ في عام 1923 ما يُعرف بنظرية الجدار الحديدي التي شكّلت لاحقًا الأساس النظري للعقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. تقوم هذه النظرية على فرضية مركزية مؤداها أنّ العرب لن يقبلوا أبدًا بوجود كيان يهودي في فلسطين ما دام لديهم أيّ أمل في منعه أو مقاومته، ومن ثمّ لا سبيل لترسيخ المشروع الصهيوني إلا بإقامة جدارٍ حديديٍّ من القوة في جميع أشكالها، يَئِد إرادة المقاومة في مهدها ويقنع العرب بعبثية مقاومة الوجود الصهيوني الاستعماري.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الطريق إلى الغثائيّة.. تأريخٌ لفكرة الهوانlist 2 of 2الشاهبندر البرّاك.. المبعوث الذي يتاجر بسوريا لا معهاend of list

وقد تحوّلت هذه الرؤية من أطروحة أيديولوجية إلى ركيزة بنيوية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي تبنّت فكرة الردع المطلق واستخدام القوة المفرطة أداةً في محاولة لتحقيق الأمن والاستقرار للمشروع الصهيوني. ومع توالي الأيام أصبحت هذه النظرية جزءًا من البنية الذهنية والإستراتيجية للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية حتى اليوم.

في السابع من أكتوبر 2023. ففي ذلك اليوم، ومن الجنوب ذاته الذي انبثقت منه أفكار بن غوريون، انكشفت ثغراتها العميقة وتهاوت مقولاتها المركزية، وانهار جدار جابوتينسكي، وظهرت محدوديته في التعامل مع واقع متحول ومع خصم فلسطيني لم يخبُ الأمل في قرارة ذاته.

ومع أن السابع من أكتوبر شكّل ضربة قاصمة للنظرية الأمنية بصيغتها الكلاسيكية، فإنه فتح الباب في الوقت نفسه أمام مسار إعادة صياغة جديدة. إذ برز تيار واسع في إسرائيل يرى أن تجديد النظرية الأمنية لم يعد خيارًا ثانويًّا، بل هو شرط لازم لبقاء الدولة واستعادة زمام المبادرة. ومن هنا، فإن الخطاب الإسرائيلي المعاصر ينزع نحو بناء مقاربة أمنية جديدة أكثر شمولًا، تتكامل فيها أدوات القوة العسكرية مع السيطرة التكنولوجية والاستخبارية، إلى جانب تعزيز الردع النفسي والإعلامي. وبذلك، فإن ما يُطرح اليوم ليس فقط إعادة النظر في مكونات النظرية، بل إعادة إنتاجها كإطار جامع يحدد هوية إسرائيل الأمنية في القرن الحادي والعشرين.

إعلان

بهذا المعنى، يمكن القول إن انهيار النظرية في أكتوبر 2023 لم يكن نهاية المطاف، بل شكل نقطة انعطاف. فبينما كشف ما رشح من نتائج التحقيق في الهجوم المباغت عن قصور في نجاعة الرؤية الأمنية التي صاغها بن غوريون، فإنه في المقابل أطلق عملية إعادة صياغة قد تمثل، في نظر كثير من المحللين الإسرائيليين، حجر الأساس في نهوض إسرائيل من جديد ضمن بيئة إستراتيجية أشد تعقيدًا. ومن هنا تتجلى أهمية تناول هذا الموضوع، لا باعتباره مراجعة تاريخية لنظرية أمنية تقادمت، بل بوصفه مدخلًا لفهم كيفية تعامل إسرائيل مع أزمتها في أعقاب هجوم 7 أكتوبر 2023 وسبل إعادة بناء قوتها والردع في النظام الإقليمي والدولي المعاصر.

ويرى معهد دراسات الأمن القومي أن المبادئ الأساسية للعقيدة الأمنية الإسرائيلية كانت كافية نظريًّا لمواجهة ناجحة لهجوم 7 أكتوبر، لكن الخلل الرئيسي تمثّل في سوء تطبيق هذه المبادئ من قِبل كلٍّ من المستوى السياسي والمستوى العسكري.

وقبل البدء لا بد من تعريف الأمن القومي. هو قدرة الدولة على صيانة مصالحها الإستراتيجية العليا وتأمينها، عبر امتلاك الدولة لمقومات القوة الإستراتيجية الشاملة التي ترتكز على تحقيق الأمن الإنساني، وتعزيز الإرادة الوطنية. يتضمن المفهوم توفير مقومات كاملة تمكّن الدولة من الحفاظ على سيادتها، وتنمية مواردها، وحماية بيئتها، إضافة إلى المساهمة في استقرار النظام الدولي، والأمن العالمي.

 

مرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية

تنطلق العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي صاغها دافيد بن غوريون  من إدراك جغرافي ديمغرافي عميق لواقع إسرائيل ككيان صغير المساحة مقارنة بالدول العربية، محاط بأعداء، ويفتقر إلى العمق الإستراتيجي والموارد البشرية الكافية لخوض حروب استنزاف طويلة. بناءً على ذلك، أسّس بن غوريون رؤيته الأمنية على مجموعة من الأسس المترابطة، هدفها النهائي ضمان بقاء الدولة ومنع تكرار الكارثة اليهودية عبر بناء قدرة ردع مستدامة، وهذه المرتكزات هي:

أولًا: الردع باعتباره ركيزة أولى، يقوم مبدأ الردع في فكر بن غوريون على منع العدو من الإقدام على شن هجوم عبر ترسيخ اقتناع لديه بأنّ تكلفة الاعتداء ستكون باهظة جدًّا. ويتحقق ذلك من خلال إظهار تفوق نوعي في القوة، والتزام دائم بالتعبئة الشاملة والجاهزية القتالية، مع الاحتفاظ بخيارات هجومية سريعة. وقد اعتُبر الردع حجر الزاوية الذي يقوم عليه مجمل السياسة الأمنية الإسرائيلية.

رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن غوريون (يسار) برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشيه ديان (يمين)، ٧ مايو/أيار ١٩٦٩، قبل مغادرته مطار اللد الدولي إلى جنوب أفريقيا. (تصوير: FILES-IPPA / AFP) (AFP)

ثانيًا: نقل المعركة إلى أرض العدو، نظرًا لانعدام العمق الجغرافي لإسرائيل، تبنّى بن غوريون مبدأ تحويل الحرب إلى أراضي الخصم فور اندلاعها. ويهدف هذا المبدأ إلى تجنيب الجبهة الداخلية أعباء القتال، أو احتلال أرض إسرائيلية ولو لفترة زمنية قصيرة، وإجبار العدو على القتال بعيدًا عن المراكز السكانية والبنى الحيوية الإسرائيلية.

إعلان

ثالثًا: تدمير المقدرات العسكرية المسلحة، ترى العقيدة الأمنية أنّ النصر لا يتحقق بمجرد صدّ الهجوم، بل بـتدمير القوة العسكرية للعدو ومنعه من استعادة قدراته القتالية. لذا ركّزت العقيدة على تحقيق حسم عسكري سريع عبر الاستخدام المركز للقوة الجوية والمدرعات والمناورة المتحركة، كما جرى في الحرب مع مصر.

رابعًا: احتلال مناطق والبقاء فيها، لم يكن الاحتلال هدفًا توسعيًّا بالمعنى الكلاسيكي، بل وسيلة لتحقيق الأمن من خلال السيطرة الوقائية على أراضٍ ذات أهمية إستراتيجية. فاحتلال مناطق معينة (مثل سيناء والضفة الغربية لاحقًا) اعتُبر وسيلة لتأمين الحدود، ولتحسين موقع إسرائيل الإستراتيجي بعد انتهاء العمليات العسكرية.

خامسًا: لا يُصبح الهجوم الاستباقي خيارًا عمليًّا إلا بعد تراكم معلومات استخبارية عملياتية دقيقة. إذ يُدرَج مبدأ الضربة الاستباقية باعتباره أداةً هجومية ذات طابع دفاعي تهدف إلى إحباط نيات العدو قبل تجسيدها فعليًّا، إذ اعتُبرت المبادأة وسيلةً لتقليل الخسائر؛ وبرز ذلك في الضربة الافتتاحية للحرب مع إيران عام 2025.

سادسًا: السلاح النووي ملاذ أخير، في ضوء التهديدات الوجودية، تطوّر لاحقًا لدى صانعي القرار الإسرائيليين مفهوم الردع النووي بوصفه خيارًا نهائيًّا، يُلجأ إليه فقط في حال تعرّض الكيان لخطر الإبادة. وقد عبّر بن غوريون عن إيمانه المبكر بـضرورة امتلاك سلاح غير تقليدي يضمن بقاء الدولة في وجه الأخطار المصيرية"، مما مهّد لتطوير البرنامج النووي في ديمونا تحت مبدأ الغموض.

ضرورة تحديث مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي

يشهد مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي تحوّلًا متسارعًا منذ مطلع الألفية الجديدة، نتيجة التبدلات العميقة في البيئة الجيوسياسية والتكنولوجية والإقليمية. فالعقيدة الأمنية التي تشكّلت في الخمسينيات على مبادئ الردع، والإنذار المبكر، ونقل المعركة إلى أرض العدو، لم تعد قادرة على مواكبة طبيعة التهديدات الجديدة. وقد فرضت التغيرات الجذرية في الشرق الأوسط، خاصة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، واقعًا إستراتيجيًّا جديدًا تلاشت فيه الحدود بين الأمن الخارجي والداخلي.

كذلك، خلال العقود الأخيرة كان هناك تحوّل بنيوي عميق في بنية الجيش الإسرائيلي وعقيدته الأمنية، حيث انتقل مركز الثقل العسكري من الجيش القائم على القوات البرية والمناورة الميدانية إلى جيش فائق التقانة (الهاي-تك) المعتمد على التكنولوجيا والاستخبارات والحرب عن بُعد. هذا التحول، الذي تَغذّى من الثورة الرقمية وهيمنة اقتصاد الابتكار الإسرائيلي، أوجد فجوة متزايدة بين الأذرع العسكرية، إذ تحولت النخبة التكنولوجية الممثلة بسلاح الجو والاستخبارات والسايبر إلى مركز الثقل العملياتي، في مقابل تهميش القوات البرية التي كانت تاريخيًّا عماد الحسم في الحروب الإسرائيلية.

ويرى كلٌّ من رئيس الأركان الأسبق غادي آيزنكوت والعميد غاي حزوت أنّ هذا الخلل في بناء القوة العسكرية أضعف قدرة الجيش على تحقيق الردع الفعّال والحسم الميداني، وجعل العقيدة الأمنية الإسرائيلية تميل إلى إدارة الصراع من بعيد بدل خوضه على الأرض، الأمر الذي أوجد فجوة بين التفوق التقني والجاهزية الميدانية.

وقد جاءت أحداث السابع من أكتوبر 2023 لتجسّد بصورة مأساوية هذا الخلل البنيوي، إذ كشف هجوم حماس حدود الرهان على التفوق التكنولوجي وإهمال القوات البرية، وأظهر هشاشة منظومات الاستخبارات والإنذار المبكر في مواجهة تهديد غير متكافئ. في ضوء ذلك، يقدم حزوت مراجعة نقدية داخلية لمسار الجيش الإسرائيلي، مبيّنًا أن النجاحات التكتيكية في المعركة بين الحروب لم تُترجم إلى تفوق إستراتيجي، وأن الانقسام بين جيش فائق التقانة (الهاي-تك) وجيش الفرسان يعكس أزمة أعمق في العلاقة بين الجيش والمجتمع الإسرائيلي، الذي تراجعت ثقته بالمؤسسة العسكرية وتبدلت أولوياته اتجاه الخدمة القتالية. ومن هنا، يدعو النص إلى إعادة بلورة عقيدة أمن قومي متوازنة تُعيد الاعتبار للقوات البرية، وتدمج بين القدرات التكنولوجية والميدانية، وتؤسس لرؤية نقدية إصلاحية داخل الجيش الإسرائيلي، بما يضمن استعادة الجاهزية والثقة وتحقيق الردع الفعلي في الحروب المستقبلية.

إعلان

ترافقت هذه التحولات الخارجية مع تغيّرات داخلية عميقة داخل إسرائيل نفسها. كما أثّرت اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية في الإدراك الإسرائيلي لمصادر التهديد، إذ انتقلت بعض الدول من خانة العداء إلى خانة الشراكة، مما دفع بعض النخب الأمنية إلى المطالبة بإعادة تعريف الأولويات الإستراتيجية. غير أن هذه التحولات لم تُفضِ إلى تبنّي صيغة جديدة رسمية للعقيدة الأمنية، وبقيت كل الجهود في حدود المبادرات الفردية والمؤسساتية غير الملزمة.

كانت المحاولة الأولى الجدية لإعادة صياغة العقيدة الأمنية في عام 1998 بمبادرة وزير الدفاع الأسبق إسحاق مردخاي، الذي أطلق ورشة عمل واسعة ضمّت شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية رفيعة المستوى. وقد أُنجزت خلالها دراسة شاملة امتدت في خمس مجلدات تناولت أسس العقيدة الجديدة، إلا أن المشروع لم يُقَر رسميًّا من قبل الحكومة، وبقي حبيس الأدراج.

تكررت المحاولة الثانية في عام 2006، عقب حرب لبنان الثانية، حين شكّل وزير الدفاع الأسبق دان مريدور لجنة خاصة لتعديل العقيدة الأمنية، وقدّمت اللجنة تقريرها إلى رئيس الأركان آنذاك شاؤول موفاز. تضمّن التقرير مقترحات لتوسيع مفهوم الأمن القومي ليشمل الدفاع عن المدنيين من تهديد الصواريخ البعيدة المدى والهجمات السيبرانية. ومع ذلك، واجه التقرير مصيرًا مشابهًا لما سبقه، إذ لم يُقرّ من قبل الحكومة، وظلّ ضمن الإطار النظري غير المُلزم، مما عكس هشاشة الإرادة السياسية في تحويل النقاش الفكري إلى سياسة أمنية عملية.

وفي عام 2013، قدّم اللواء البروفيسور يتسحاق بن يسرائيل تصورًا محدثًا للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، رأى فيه أن الخطر الأساسي الذي يواجه الدولة لم يعد متمثلًا في الجيوش النظامية، بل في التنظيمات اللا-دولتية مثل حماس وحزب الله، التي تمتلك قدرات صاروخية وهجومية متطورة وتعمل بأسلوب الحروب اللامتماثلة. دعا بن يسرائيل إلى بناء عقيدة أمنية تكنولوجية تعتمد على التفوق السيبراني والاستخباري، لكن اقتراحه، بدوره، لم يتجاوز حدود النقاش الأكاديمي، ولم يتحول إلى وثيقة رسمية أو إستراتيجية دولة معتمدة.

في ضوء ذلك كله قدّم كلٌّ من أليكس مينتس وشاؤول شاي دراسة بحثية تتناول ضرورة إعادة تطوير مفهوم الأمن الإسرائيلي التقليدي من خلال إضافة مكوّن جديد هو التكيّف باعتباره عنصرًا إستراتيجيًّا مكمّلًا للمحاور الكلاسيكية للأمن القومي (الردع، الإنذار المبكر، الحسم، والدفاع).

يرى الباحثان أنّ المفهوم الأمني الإسرائيلي، الذي تأسّس منذ عقود على مبدأ الردع والتفوّق العسكري الثابت، لم يعُد كافيًا في ظل التحوّلات الديناميكية المتسارعة في البيئة الإقليمية والتكنولوجية والعملياتية، وأنّ الحاجة الملحّة اليوم تكمن في بناء قدرة مؤسسية مرنة قابلة للتكيّف مع المتغيرات الميدانية والسياسية بصورة مستدامة.

ويؤكد مينتس وشاي أنّ المقصود بالتكيّف ليس الجانب التكتيكي المحدود في إدارة المعارك، بل هو مفهوم إستراتيجي شامل يشمل آليات اتخاذ القرار الأمني وتطوير منظومة التفكير العسكري والاستخباري، بحيث تتمكّن الدولة من التعامل مع سيناريوهات غير متوقعة في بيئة صراعية متقلبة. ويرتبط هذا التوجه بما يسمّيه الباحثان المرونة الإستراتيجية التي تتطلّب من المنظومة الأمنية القدرة على التعلم المؤسسي وإعادة الضبط السريع لمسارات الفعل الميداني والسياسي.

وقد برزت أهمية هذا المكوّن بوضوح عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023، حينما أظهرت إسرائيل تحوّلًا تكيفيًّا جوهريًّا في إدارة الصراع، تمثّل في الانتقال من صدمة الهجوم إلى خوض حرب طويلة الأمد امتدت قرابة عامين، اتّسمت بتبدّل الأهداف العملياتية وتغيير أساليب القتال والاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية. هذا الأداء، وفق التحليل، يعكس تبلور ما يمكن تسميته بـالجيل الجديد من المفهوم الأمني الإسرائيلي القائم على التكيّف الإستراتيجي المستمر في مواجهة التهديدات غير التقليدية.

فشلت المبادرات المتعاقبة في التحول إلى سياسة أمنية رسمية مُلزمة، وظلت محاولات فكرية جزئية تعكس وعيًا بتبدّل التهديدات دون أن تنجح في بلورة رؤية مؤسساتية موحدة. ويُعزى ذلك إلى هيمنة المقاربة العسكرية التقليدية على التفكير الإسرائيلي، وإلى الانقسام السياسي الذي يمنع التوافق على تعريف جامع للأمن القومي في عصر تتشابك فيه الأبعاد العسكرية، والاجتماعية، والتكنولوجية، والاقتصادية. وبذلك، يبقى مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي في حالة مراجعة دائمة دون تجديد فعلي، رهينًا بتوازنات القوى الداخلية والخارجية التي تعيق بلورة عقيدة أمنية جديدة تواكب واقع التحديات المعاصرة.

هجوم 7 أكتوبر 2023: انهيار النموذج الأمني والعسكري الإسرائيلي

شكّل هجوم حركة حماس على المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة يوم السابع من أكتوبر 2023 نقطة تحوّل جذرية في المشهد الأمني الإسرائيلي، وأحدث زلزالًا إستراتيجيًّا بدّد ركائز النظرية الأمنية التي قامت عليها دولة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948.

إعلان

ففي ذلك اليوم، تحطّمت أربع ركائز أساسية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية: الردع، الإنذار، الحسم، ونقل المعركة إلى أرض العدو، لتُضاف إليها أزمة التكنولوجيا العسكرية التي شكّلت لعقود عنصر التفوق الإسرائيلي. هذا الحدث غير المسبوق أعاد تعريف مفاهيم الأمن، والاستخبارات، والسيطرة في البيئة الإسرائيلية.

لا يتعلق فشل الإسرائيليين وحلفائهم في التنبؤ بطوفان الأقصى بالمعلومات التي غابت عنهم، بل بقصور نظريتهم وأدواتهم عن فهم شعوبنا (الإعلام العسكري)  غياب الردع وانهيار الهيبة العسكرية

قامت العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ بن غوريون على مبدأ الردع الذي يفترض أن التفوق العسكري والتكنولوجي يردع الأعداء عن المبادرة بالهجوم. غير أن عملية طوفان الأقصى أظهرت فشل هذا المبدأ جذريًّا. فبعد خمس حروب متكررة مع غزة، ساد في المؤسسة الأمنية شعور زائف بأن حماس مردوعة ومهتمة بالحفاظ على الهدوء الاقتصادي، وهو ما وصفه معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بأنه وهم الردع. لقد كشفت العملية أن الردع لا يصمد أمام خصم غير تقليدي يمتلك منطلقًا عقائديًّا واستعدادًا للتضحية، وأن الاعتماد على الردع دون معالجة الجذور السياسية للصراع يولّد هشاشة أمنية قابلة للانهيار في لحظة واحدة.

المفاجأة وغياب الإنذار المبكر

انهارت الركيزة الثانية المتمثّلة في منظومة الإنذار المبكر. فرغم امتلاك إسرائيل لجهاز استخباري يُعدّ من بين الأكثر تطورًا في العالم، ويجمع بين قدرات الرصد الإلكتروني، والاستخبار البشري، والمراقبة عبر الأقمار الصناعية، فإن هذا الجهاز أخفق في توقّع الهجوم أو تفسير مؤشّراته التحذيرية. وقد أشار تقرير صادر عن معهد ويست بوينت الأميركي إلى أنّ الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد رصدت تحركات وتدريبات مريبة في قطاع غزة، لكنها تجاهلتها نتيجة للمفهوم الذي ساد في الأوساط السياسية والعسكرية بأنّ حركة حماس ليست معنية بمواجهة عسكرية شاملة.

تُبرز الصدمة التي أصابت وحدات الجيش والاستخبارات الإسرائيلية صباح السابع من أكتوبر حجم التآكل الذي أصاب مبدأ اليقظة الدائمة. فالفشل في تشغيل منظومة الإنذار المبكر لا يُعدّ مجرد إخفاق عملياتي، بل انهيارًا بنيويًّا عميقًا في البنية الأمنية الإسرائيلية نفسها، التي طالما تباهت بقدرتها على معرفة نيات خصومها قبل أن يُدركوها هم. لقد كشفت تلك اللحظة عن عمق الغرور الأمني الذي حجب عن المؤسسة العسكرية رؤية الخطر الحقيقي الكامن خلف حدود غزة.

 الفشل في الحسم السريع

الركيزة الثالثة في النظرية الأمنية الإسرائيلية، المتمثّلة في مبدأ الحسم السريع، تعرّضت لانهيار كامل خلال أحداث السابع من أكتوبر أيضًا. فقد استمر القتال داخل المستوطنات الإسرائيلية ساعات طويلة من دون أن تتمكّن القوات النظامية من فرض السيطرة أو استعادة المبادرة. في تلك الساعات الحرجة، وجدت فرق التأهّب المحلية (مجموعات قتالية مكونة من المستوطنين المحللين) في بلدات مثل نير عام ونتيف هعسرا نفسها تقاتل وحدها من دون أي إسناد جوي أو بري فوري، في مشهدٍ عرّى حقيقة الفجوة بين الصورة الدعائية للجيش الإسرائيلي على أنه قوة عالية الجاهزية، وبين أدائه الفعلي في مواجهة مفاجئة.

لقد كشفت هذه المعركة أن الجيش الذي طالما قُدِّم بوصفه قادرًا على التعبئة السريعة والرد الحاسم خلال دقائق، يعاني من عجز بنيوي في الاستجابة الفورية عند وقوع صدمة ميدانية. ووفقًا لتقرير نشره موقع " War on the Rocks" الأميركي، فإن الخلل القيادي والتنظيمي في الساعات الأولى للهجوم شكّل حالة من الشلل العملياتي الشامل، مما أدى إلى إطالة أمد الاشتباكات ورفع حجم الخسائر، مؤكّدًا أن انهيار مبدأ الحسم السريع قد أصاب جوهر العقيدة العسكرية الإسرائيلية في الصميم.

انكسار معادلة الحرب خارج الحدود

إن هجوم السابع من أكتوبر نسف هذا المبدأ من جذوره، إذ اندلعت المعارك في عمق النقب الغربي ووصلت إلى قواعد عسكرية وبلدات مدنية داخل إسرائيل نفسها. لقد تحوّل الصراع من تخوم الحدود إلى الفضاء الداخلي الإسرائيلي، في مشهدٍ أحدث صدمة جماعية ونفسية عميقة لم يعرفها المجتمع الإسرائيلي منذ قيام الدولة عام 1948.

وقد وصفت صحيفة هآرتس هذا التحوّل بأنه أول حرب تُخاض في قلب إسرائيل منذ عام 1948، مؤكدة أنّ الدولة فشلت في أداء وظيفتها الأساسية المتمثّلة في ضمان أمن مواطنيها داخل حدودها المعترف بها. بهذا المعنى، لم يعد التفوّق العسكري الإسرائيلي كافيًا لردع العدو أو منعه من نقل الحرب إلى الداخل، الأمر الذي يفرض إعادة تعريف شاملة لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، بحيث لا يقوم على القوة وحدها، بل على معالجة الخلل البنيوي في منظومة الردع والحماية الداخلية.

 الفشل التقني والتكنولوجي

كشّف الهجوم بأنّ الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا كـدرعٍ أمنِي لم يعُد كافيًا لحماية العمق أو لردع عملية مفاجئة ومنسّقة. تعطّلت منظومات رصد ومراقبة في نقاط حدودية نتيجة هجمات وتفجيرات مركّزة، وجرى استهداف بنى الاتصالات مما أعاق الربط والتنسيق بين الوحدات الميدانية، كما أُطلقت موجات صواريخ هائلة دفعت دفاعات القبة الحديدية إلى حدود طاقتها وأظهرت أنّها يمكن أن تُشْغَل في حالات الهجوم المتزامن المكثّف.

إلى ذلك، أظهر التحليل النقدي أنّ ثقة القيادة المفرطة في الحلول التقنية -أنظمة المراقبة الذكية، الذكاء الاصطناعي، الطائرات المسيّرة، والسياج الذكي- أضعفت الحسّ العملياتي والجاهزية البشرية على الأرض، فأصبح الاعتماد على الشاشات يقابل هشاشة في الاستجابة الميدانية، بينما نجح المهاجمون في فتح ثغرات فعلية في الحماية الحدودية باستخدام أساليب بسيطة نسبيًّا كالعبوات الناسفة، مما كشف فجوة بين قدرة التكنولوجيا في الظروف المثالية وبين واقع المواجهة على الأرض.

 الفشل الميداني وهروب الجنود من المواجهة

شكّل أداء الجيش الإسرائيلي في الساعات الأولى من الهجوم مشهدًا نادرًا من الانهيار القتالي والانضباطي. فمع اندلاع الاقتحامات المتزامنة في مستوطنات غلاف غزة، تأخرت القوات النظامية في الوصول إلى المناطق التي اخترقها مقاتلو حماس، و تُركت فرق التأهب المحلية تواجه وحدها موجات الهجوم بأسلحة خفيفة وذخيرة محدودة. مع امتداد الاشتباكات لساعات، نفدت ذخيرة بعض المقاتلين، واضطر آخرون إلى الانسحاب أو الاختباء في انتظار الإسناد الذي لم يصل في الوقت المناسب.

هذا التأخير كشف عن شلل عملياتي حاد في منظومة القيادة والسيطرة، وعجز في التنسيق بين الوحدات الجوية والبرية، مما جعل الميدان يفتقد إلى القيادة الموجِّهة خلال اللحظات الحرجة. ووفق تقارير ميدانية إسرائيلية، فقد شوهد عدد من الجنود وهم يفرّون من المواجهة أو يتخلّون عن مواقعهم في ظلّ غياب الأوامر والتعزيزات. لقد مثّلت هذه الوقائع تصدّعًا غير مسبوق في الروح القتالية للجيش الذي طالما قدّم نفسه على أنه قوة لا تُقهر، وكشفت أنّ المؤسسة العسكرية، رغم تفوقها التقني والاستخباري، عجزت عن إدارة صدمة ميدانية مباشرة بحجم هجوم السابع من أكتوبر.

تحوّلات بنيوية عميقة في الأداء العسكري الإسرائيلي

في ضوء حرب السابع من أكتوبر، يمكن رصد تحوّلات بنيوية عميقة في الأداء العسكري الإسرائيلي، عكست إعادة تشكّل العقيدة القتالية وطرائق التفكير الإستراتيجي داخل المؤسسة الأمنية والسياسية. هذه التغيّرات لا تعبّر فقط عن استجابة ظرفية لهجوم غير مسبوق، بل تكشف عن تحوّل في الثقافة العسكرية الإسرائيلية ذاتها، وفي طبيعة العلاقة بين الجيش والمجتمع والدين والسياسة.

برزت ملامح انتقال واضح نحو نموذج الحرب الطويلة الأمد، في قطيعة مع العقيدة التقليدية التي سادت منذ الخمسينيات والقائمة على الحسم السريع ونقل المعركة إلى أرض العدو. فالحرب على غزة تحوّلت إلى صراع استنزاف مفتوح، يتجاوز الأهداف الميدانية نحو إعادة تشكيل البيئة الإقليمية المحيطة بإسرائيل. هذا التبدّل فرض اعتماد أسلوب عملياتي يعتمد على المناورة المتقطعة، وإعادة التموضع المستمر، والسيطرة المؤقتة على المناطق.

كما شهد الجيش الإسرائيلي تصاعدًا لخطاب التضحية والفداء في صفوفه، وهو تحوّل نابع من البعد الديني والصهيوني المتجذّر في الخطاب العسكري والسياسي بعد أكتوبر. إذ لم تعد النجاعة العسكرية وحدها معيار البطولة، بل غدت المعاناة في سبيل المهمة القومية مكوّنًا مركزيًّا في الخطاب التعبوي. وقد ظهرت هذه النزعة بوضوح في خطابات القيادة العليا وفي أدبيات المعاهد التحضيرية العسكرية التي تربط بين الحرب والرسالة الإيمانية الصهيونية.

ويمكن ملاحظة تراجع مكانة الأسير في الوعي الإسرائيلي الجمعي والعسكري. فبينما كان المختطَف في العقود السابقة رمزًا وطنيًّا يوحّد الإسرائيليين حول قضية استعادته، أصبحت قضيته اليوم تُعامل ضمن حسابات سياسية وأمنية باردة، في ظلّ ضغط الرأي العام المؤيد لاستمرار الحرب حتى تحقيق النصر الكامل. هذا التحوّل يعكس تراجعًا في مركزية البعد الإنساني أمام تغوّل المنظور الأمني والعقائدي.

امرأة تحمل صورة هدار جولدين، الجندي الإسرائيلي خلال مظاهرة تدعو إلى إعادة الأسرى  في تل أبيب (AP)

لقد منح الدعم الأميركي غير المحدود سياسيًّا وعسكريًّا واستخباريًّا  الجيش الإسرائيلي ثقة مفرطة بالعمل دون خشية من المحاسبة الدولية. إذ وفّرت واشنطن غطاءً دبلوماسيًّا في المؤسسات الدولية، وإمدادات عسكرية مستمرة، مما أتاح لإسرائيل خوض معارك طويلة المدى بعمق ميداني أكبر وبحدود أدنى من القيود القانونية أو الأخلاقية.

كما برزت قدرة إسرائيل المتزايدة على العمل المتزامن في أكثر من جبهة، من غزة إلى الضفة الغربية، ومن الحدود الشمالية مع حزب الله إلى العمليات الجوية في سوريا والعراق. هذا النمط الجديد من الانتشار المتعدد الجبهات يعكس توجهًا إستراتيجيًّا يقوم على إدارة الحروب المتوازية، لا بهدف الحسم الفوري، بل لضبط الإيقاع الإقليمي واحتواء خصوم متعددين ضمن معادلة ردع مفتوحة.

وبذلك، تكشف الحرب الأخيرة عن أن إسرائيل لم تعد تخوض حروبًا تكتيكية محدودة، بل أصبحت تعيد صياغة مفهوم الحرب ذاته، في سياق تحوّل إستراتيجي من الردع الوقائي إلى الردع الوجودي، حيث تغدو المعركة مكوّنًا مستمرًّا من هوية الدولة وأجهزتها العسكرية والدينية معًا.

دعوات متسقة لإعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية

في أعقاب السابع من أكتوبر وإعادة النظر العميق التي شهدتها أروقة صنع القرار والمجتمع المدني في إسرائيل، تصاعدت دعوات متسقة لإعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية على نحو يجعلها أكثر تحصينًا أمام المفاجآت وأكثر قدرة على إدارة نزاعات طويلة الأمد ومتعدّدة الجبهات. هذه الدعوات لا تقتصر على مجرد تعديلات تكتيكية، بل تطالب بتحوّل إستراتيجي يتضمن ترسيخ مفاهيم دفاعية وتجهيزية قديمة مع إدخال عناصر عملية جديدة، وعلى رأسها مبدأ المبادرة الذي يجيز لإسرائيل استهداف تهديدٍ في مهده قبل أن يتبلور إلى خطر فعلي.

تتمحور الدعوات حول إعادة بناء منظومة دفاعية متكاملة تبدأ من خط الحدود وتصل إلى العمق، مع تعزيز بنية الردع بحيث تكون قادرة على ردع خصوم متعددين ومتزامنين. لا يكفي اليوم الاعتماد على شبكات رادار أو أنظمة اعتراض متفرقة؛ فالمطلوب توحيد عمل الشبكات، وزيادة كثافة نقاط المراقبة البشرية والميدانية، وربطها بإجراءات استباقية قادرة على تعطيل شبكات التموين والتصنيع المعادية قبل أن تعمل. هذه الرؤية تجد سندًا في تقارير تحليلية رأت أن مفهوم «الدفاع المتعدد الجبهات» يجب أن يصبح مبدأً ثابتًا في بناء القدرات والميزانيات.

ويدعو مؤيِّدو التغيير إلى اعتماد سياسة تقوم على مبدأ المبادرة المنتظمة والمحدّدة: استهداف مواقع تدريب، وخطوط إمداد، ومنشآت تسليح لدى الفواعل التي تُظهر مؤشرات واضحة للاستعداد لهجوم مستقبلي. لكنهم يؤكدون أن هذا المبدأ لا ينبغي أن يُفهم على أنه خيار ثانوي، بل أداة تتطلب معايير استخبارية صارمة، وآليات رقابية سياسية وسريعة، وإطارًا قانونيًّا يحدّد متى تُستخدم القوة استباقيًّا. في هذا الصدد، تشير التحليلات إلى أن الفاعلية المستدامة لمبدأ المبادرة مرهونة بتحسين دقة الاستخبارات ووجود قواعد واضحة للقرار.

لقد أظهرت الواقعة أن التفوق التكنولوجي وحده لا يكفي؛ فتعطّل منظومات مراقبة أو تشويش الاتصالات يمكن أن يلعن قدرة المنظومة على الرد. لذلك تُطالب توصيات الخبراء بإعادة توازن الاستثمار: لا تقليل للتكنولوجيا، بل تعديل لاستخدامها بحيث تصبح مضاعفةً للقدرة البشرية لا بديلًا عنها.

يتضمن ذلك رفع مستوى التدريب الميداني، وإعادة تأهيل وحدات المشاة والاحتياط، وتحسين الكفاءات القيادية والمرونة التكتيكية على الأرض. تنتقد دراسات أن ثقافة الاعتماد على «الشاشات» أضعفت الحسّ العملياتي، مما يستدعي عودة إلى تمارين وممارسات تُكرّس الاعتماد على القرار البشري تحت ضغط الميدان.

جنود إسرائيليون يعملون على أجهزة الكمبيوتر المحمولة أثناء مشاركتهم في دورة تدريبية في مجال الأمن السيبراني (رويترز)

وفي صلب الإصلاحات المقترحة تأتي ضرورة تقوية القدرات البشرية الاستخبارية عبر تعليم اللغة العربية ودراسة التقاليد واللهجات والثقافة المحلية لكل من يتعامل مع الساحات الفلسطينية والعربية. تعلّم اللغة ليس رفاهية بل أداة استخبارية وإستراتيجية لتحسين التفاعل الميداني، وفهم الإشارات الثقافية، وتخفيض حالات التفسير الخاطئ للمعلومات. تقارير وإعلانات مؤسسات أمنية إسرائيلية أكدت مؤخرًا خطوات في هذا الاتجاه، معتبرة أن تحسين الكفاءات اللغوية والدينية مكمّل حاسم للاستخبارات التكنولوجية.

ويدعو المعلّقون إلى تطوير منصات ذكاء اصطناعي قادرة على تحليلات دقيقة للبيانات المتعدّدة -استخبارات إلكترونية، واتصالات، وصور فضائية، ومصادر مفتوحة- بشرط أن تُرفَق هذه الأدوات بضوابط شفافية، وتقييم خطأ، وإشراف بشري متواصل. التحقيقات الصحفية كشفت عن مشاريع عسكرية تسعى لبناء نماذج لغوية تستطيع فهم العربية اللهجية وتحليل أحجام هائلة من المحادثات، وهو ما يؤكد جدوى التوجّه لكنه يضع أيضًا تحديات أخلاقية وقانونية.

إن التفكك في منظومة القيادة والسيطرة والافتقار إلى تنسيق فوري بين القوات المركزية وفرق التأهب المحلية أدى إلى فترات حرجة من الفراغ الأمني. لذلك يوصي المختصون بآليات اتصال موحدة، لنظام إنذار مبكر داخلي يضمن وصول التعزيزات خلال دقائق، وبرامج تدريبية معيارية لفرق التأهب في المستوطنات بحيث تمتلك أدوات دفاعية مناسبة ومخزونات لوجستية تكفي المراحل الأولى من المواجهة. كما يجب دمج هذه الفرق في منظومة التخطيط القومي لا أن تُترك كقوة محلية معزولة.

أدّت الحاجة إلى استمرارية الإمدادات إلى مناشدات لزيادة الاكتفاء الذاتي في الإنتاج العسكري: ذخائر، وقطع غيار للطائرات المسيّرة، ومنظومات إلكترونيات، ومركبات مُحمّلة تجهيزًا خاصًّا. تبرز تقارير صناعية أن الحملة لتوسيع القاعدة الصناعية المحلية ضرورية لكنها تواجه حدودًا تقنية وسوقية؛ لذلك تقترح سياسات حكومية داعمة للاستثمار، وشراكات مع القطاع الخاص، وحوافز لصناعات النطاقين المتوسط والصغير. تحقيق استقلالية أكبر في التصنيع يُنظر إليه على أنه عامل محوري لتثبيت القدرة القتالية في زمن حرب مطوَّلة.

مقاربات نظرية

تُبرز المقاربات النظرية الحديثة حول إعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية حاجة الدولة إلى مراجعة شاملة لمبادئها الأساسية وتحديث أدواتها المفاهيمية والعملياتية في ضوء إخفاقات السنوات الأخيرة، وعلى رأسها فشل السابع من أكتوبر 2023.

يقدّم أفيتار متنيا رؤية تحليلية لتجديد عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، منطلِقًا من دراسة تطوّرها التاريخي منذ تسعينيات القرن العشرين، مبيّنًا نقاط قوتها وضعفها في مواجهة التحديات الأمنية الراهنة. ويستعيد متنيا ما يُعرف بـ"الأرجل الثلاث" التي شكّلت العمود الفقري للعقيدة منذ تأسيس الدولة -الردع، والإنذار المبكر، والحسم العسكري- مؤكّدًا أنّ جوهرها ظلّ قائمًا رغم التحولات السياسية والجيوسياسية، لكنّها بحاجة إلى إعادة مواءمة تكتيكية وتنظيمية لتتلاءم مع المتغيرات البنيوية في البيئة الإستراتيجية.

ويرى أن أحد التحولات المركزية تمثّل في تآكل مفهوم "المحيط العدائي" الذي كان يفترض مواجهة متزامنة مع جبهات عربية عدّة تمثل تهديدًا وجوديًّا، حيث صيغت العقيدة الأمنية في عهد بن غوريون لتكون دفاعية الطابع معتمدةً على الهجوم الاستباقي كوسيلة ردع. بيد أنّ التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية بعد التسعينيات ألغت فعالية هذا النموذج، إذ لم تعد التهديدات تنبع من دولٍ منظمة بل من فاعلين غير دولتيين كحماس وحزب الله، مما يفرض تطوير عقيدة أمنية مرنة تتعامل مع تهديدات غير متماثلة في فضاء معولم ومتغيّر.

ويخلص متنيا إلى أنّ القوة العسكرية لم تعد كافية لتحقيق نصرٍ حاسم في زمن الثورة الرقمية والاقتصاد العالمي؛ فالنصر أصبح وظيفة إدارةٍ ذكيةٍ للصراع ضمن أهداف محددة وأطر زمنية واضحة توازن بين الإنجاز العسكري واستدامة الاقتصاد والحفاظ على جاهزية الاحتياط. ومن هذا المنطلق، يدعو إلى بلورة عقيدة أمنية محدّثة ترتكز على سبع ركائز:

التكيّف المستمر مع التحولات الإقليمية والعالمية. بناء قوة إستراتيجية متوازنة تجمع بين التفوق التكنولوجي والجاهزية العملياتية. تعزيز الردع الوقائي وتكثيف الضربات الدقيقة الموجّهة. تحصين الجبهة الداخلية بوصفها مكوّنًا حيويًّا للأمن القومي. ترسيخ التحالف مع الولايات المتحدة ضمن مصالح إستراتيجية متبادلة. دمج الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية في تخطيط الأمن القومي. تطوير الدفاع السيبراني والمعلوماتي لمواجهة التهديدات غير التقليدية.

وفي خلاصة رؤيته، يشدّد متنيا على أنّ العقيدة الأمنية الجديدة ينبغي أن تحافظ على طابعها الدفاعي التاريخي، مع إعادة تعريف مفاهيم الردع، والمرونة العملياتية، والتكامل المدني العسكري بما يتناسب مع تحديات العقود المقبلة.

أما آري شافيت فيذهب إلى أن إسرائيل تحتاج إلى سياسة وطنية متكاملة تنبع من عقيدة أمنية محدَّثة ومُفعّلة ميدانيًّا، إذ لا يمكن مواجهة التحديات المتصاعدة من دون إعادة بناء الأساس الفكري الذي وضعه زئيف جابوتنسكي ودافيد بن غوريون، وتكييفه مع واقع القرن الحادي والعشرين. ويشدّد على البعد التربوي في إعادة ترسيخ ثقافة أمن قومي واعٍ يربط بين الهوية القومية والمسؤولية الإستراتيجية.

لكن غور ليش يقدّم قراءةً نقدية مغايرة، إذ يرى أن فشل السابع من أكتوبر لم يكن ناتجًا عن خلل بنيوي في العقيدة الأمنية ذاتها، بل عن تطبيقٍ خاطئ لمبادئها من قبل المستويين السياسي والعسكري. فالعقيدة بحد ذاتها، في رأيه، ما زالت صالحة لو أُحسن تنفيذها، لكنّ انعدام الانسجام بين القيادة السياسية والعسكرية هو ما أدى إلى إخفاقات ميدانية وتنظيمية جسيمة.

ويحذر ليش من وهم الحرب المفتوحة، معتبرًا أن خوض حرب طويلة دون إطار زمني واضح ودون تحديد أدواتها وغاياتها يُعدّ خطأً إستراتيجيًّا قاتلًا. فكل عملية عسكرية يجب أن تُقيّم وفق كلفتها وجدواها السياسية، لا بناءً على المكاسب العسكرية فحسب. كما يحمّل الجيش مسؤولية التحذير من تجاوز حدود القدرة التشغيلية والحفاظ على توازن الموارد والجاهزية، داعيًا إلى أن تكون العمليات العسكرية وسيلة لتحقيق غاية سياسية محددة وليست غايةً بحد ذاتها.

ختامًا

تتكامل هذه الطروحات لتؤكد أنّ إعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية تمثّل ضرورة إستراتيجية ملحّة، ليس بهدف تبديل جوهرها التاريخي، بل من أجل تجديد منطقها الداخلي وإعادة تحقيق الانسجام بين مستوياتها الثلاثة النظرية، والإستراتيجية، وآليات التطبيق العملي بما يعيد للعقيدة قدرتها على التكيّف والفعل في بيئة إقليمية ودولية تتّسم بعدم اليقين والتغيّر البنيوي المتسارع.

وإلى جانب ذلك، تُعدّ إعادة الصياغة هذه إحدى الأدوات المركزية لتعزيز مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية؛ إذ تسهم في ترسيخ صورتها كقوة مستقرة قادرة على الاستجابة الذكية للتحديات، وتُظهر قدرتها على الجمع بين الصلابة العسكرية والمرونة السياسية. كما تتيح لها توظيف تفوقها التكنولوجي والاستخباري في بناء ردع مستدام يحدّ من أخطار التهديدات غير التقليدية، ويعزّز من مكانتها كفاعلٍ محوريّ في منظومات الأمن الإقليمي والتحالفات الإستراتيجية العالمية.

بذلك، تصبح إعادة بناء العقيدة الأمنية الإسرائيلية ليست مجرّد مراجعة عسكرية أو فكرية، بل مشروع شامل لإعادة إنتاج القوة الإسرائيلية على المستويين المفاهيمي والعملي، بما يضمن استمرارية تفوقها الإستراتيجي وحفاظها على دورها القيادي ضمن توازنات الشرق الأوسط المتحوّلة.

أعدنا تشكيل وجه الشرق الأوسط، ومفهوم أمن دولة إسرائيل، وإستراتيجيتنا للدفاع والردع للسنوات القادمة

أيال زامير رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي

 

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات العسکریة الإسرائیلیة السابع من أکتوبر 2023 العسکری الإسرائیلی الجیش الإسرائیلی والإنذار المبکر الإنذار المبکر القوة العسکریة الإسرائیلی ا الحسم السریع الاعتماد على عقیدة الأمن ا إستراتیجی ر بن غوریون هذا المبدأ إعادة بناء فی مواجهة على الأرض قادرة على فی البیئة فی منظومة انهیار ا على أنه التکی ف التی شک فی بناء لم تعد لاحق ا واقع ا على أن فی ضوء فی عام التی ت إلى أن حدود ا

إقرأ أيضاً:

العقل الاِستراتيجي في سوريا.. فقه السياسة الشرعية وفكّ الاِشتباك مع العقيدة (2)

في هذا الجزء الثاني والأخير، يوسع الدكتور الصلابي دائرة التحليل التاريخي ليقدم دروسًا تطبيقية من سيرة قادة بلاد الشام، مثل الملك العادل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، في كيفية إدارة الدولة ومواجهة الأعداء عبر الجمع بين القوة العسكرية والحكمة السياسية، مع الحفاظ على الثوابت الدينية.

ويُظهر كيف يمكن توظيف العقل الاستراتيجي المعاصر في سوريا الجديدة لإدارة التحالفات الإقليمية والدولية، واستثمار فرص الدعم من الحلفاء، وفكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل العقيدة في مواجهة التحديات الراهنة، بما يعيد بناء الدولة، ويصون مصالح الشعب، ويحقق الأمن والاستقرار ضمن إطار شرعي رشيد، مستلهماً في ذلك نماذج الماضي الإسلامي الحافل بالمرونة والحكمة.

ثالثاً ـ قادة بلاد الشام والمعاهدات مع الأعداء بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية

لقد واجه قادة بلاد الشام على مر التاريخ تحديات كبيرة تتعلق بإدارة الدولة، وحماية الأمة، وتحقيق مصالح المسلمين، في ظل تهديدات خارجية مستمرة، سواء من القوى الصليبية، أو البيزنطية، أو غيرها من القوى الإقليمية. وكان من أبرز الأسئلة التي يواجهها القائد المسلم: كيف يمكن عقد المعاهدات والصلوح مع الأعداء دون إخلال بالعقيدة، أو التفريط في حقوق المسلمين، مع تحقيق المصلحة العامة ودرء المفاسد الكبرى؟

1 ـ فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية والمسائل العقدية في تجربة الملك العادل نور الدين زنكي (رحمه الله)

تُعَدُّ سيرة الملك العادل نور الدين زنكي من السير الملهمة في مجالي العمل الجهادي والسياسي معاً. فقد كادت دولة نور الدين أن تسقط أمام تحالف الحشود الصليبية التي كانت تقودها مملكة بيت المقدس، ومعها الإمبراطورية البيزنطية بقيادة الإمبراطور مانويل. وبدأت هذه الحشود تزحف باتجاه مملكة نور الدين، مما أثار مخاوفه، فكتب إلى ولاة الأعمال وقادة المعاقل يُعلِمهم بما وقع من تحرك الروم، ويحثّهم على التيقّظ والتأهّب للجهاد، والاستعداد للنكاية بمن يُظفر بهم من الأعداء. ومن ثم توجّه إلى حلب والمناطق التابعة لدولته لشحذ الهمم وبثّ الطمأنينة في نفوس السكان.

وفي الوقت نفسه، بدأت رُسُل نور الدين تتردد على معسكر الإمبراطور في عملٍ دبلوماسيٍّ وسياسيٍّ كبير، مع الاستعداد الجادّ للحرب. وتواصل قدوم الأمراء وولاة الأعمال بجنودهم، ومع هذه الكثرة العددية، إلا أنّ نور الدين استهدف زعزعةَ التحالف البيزنطي مع مملكة بيت المقدس وأنطاكية ضده، حتى لا يجد نفسه بين عدوّين: الصليبيين في الجنوب، والبيزنطيين في الشمال. وقد استطاعت الدبلوماسية النورية أن تصل إلى صلحٍ مع الدولة البيزنطية، مع العلم أنّ البيزنطيين كانت لهم خبرةٌ طويلة في مجال الدبلوماسية، وكذلك الدولة النورية التي نسجت علاقات دبلوماسية مع العباسيين، والفاطميين، ومملكة بيت المقدس الصليبية؛ أي مع معظم القوى الكبرى في المنطقة، سواء الإسلامية أو المسيحية.

لا أحد من المحبين لنجاح التغيير الجديد في سوريا يقول إن حكومة أحمد الشرع وقيادته معصومة أو غير قابلة للنقد والنصح، ولا يدّعي أنها لم تقع في أخطاء. حتى الرئيس نفسه وفرق القيادة لا يزعمون ذلك، بل هم حريصون على تجاوز الأخطاء وإصلاح ما يمكن إصلاحه.والملاحظة المهمّة في فقه نور الدين السياسي هي مثابرته في المفاوضات مع استعدادٍ عسكريٍّ كبير؛ حشدٌ للجيوش، واستعدادٌ للقتال، واستنفارٌ للأمة للتصدّي. وقد تخلّل الاتصالات الدبلوماسية تبادلٌ للهدايا ومحاولاتٌ لتوطيد الصلات السياسية بين حلب والقسطنطينية. ومهما يكن من أمر، فإن الاتفاق بين الطرفين تضمّن ما يلي:

1 ـ إطلاق نور الدين محمود سراح ستة آلاف من الأسرى النصارى الذين كانوا في سجونه منذ الحرب الصليبية الثانية.

2 ـ تعهّد الملك نور الدين زنكي بمساندة مانويل في حروبه ضدّ سلاجقة الروم.

وقد اتفقت المصادر العربية والبيزنطية والصليبية على هذا الشرط الثاني. وفرح المسلمون بهذا الاتفاق برحيل الإمبراطور بعد الصلح إلى بلاده، من غير أن يؤذي أحدًا من المسلمين. وقد ترتّبت على هذه المصالحة نتائج إيجابية عديدة، ومن أهمها:

1 ـ إنهاء التحالف البيزنطي - الصليبي، بحيث أصبح على الصليبيين أن يعتمدوا على أنفسهم أو على الدعم الأوروبي في صراعهم مع الزنكيين.

2 ـ حفظ وحدة الشام، وهي تُعدّ الأساس المهم لأي وحدة لاحقة بينها وبين مصر.

3 ـ إعادة التوازن بين الصليبيين والزنكيين بخروج البيزنطيين من الساحة، ومن ثم عاد التنافس بين الطرفين على السيطرة على مصر في سياقٍ أكثر توازناً.

لقد استطاعت المهارة السياسية النورية أن تدقَّ إسفيناً بين التحالف البيزنطي والصليبي، ولم يكن ذلك بلا ثمن؛ بل تحقّق عبر تنازلاتٍ غير يسيرة. فقد اتّخذ نور الدين خطوة لا يمكن تقييمها إلا بوصفها من القرارات المصيرية الصعبة؛ إذ كان يدرك عداء البيزنطيين لسلاجقة الروم، ويقدّر أن معركته الحالية والمرحلية هي ضد الصليبيين لا ضد البيزنطيين، فوازن بين احتمال إفشال مشاريعه على يد الحملة الصليبية - البيزنطية المشتركة، وبين الوقوف في صفّ سلاجقة الروم. فاختار الخيار الثاني، وتفاهم مع الإمبراطور البيزنطي ضد السلاجقة، فقبل الإمبراطور، وانسحب من الحلف الصليبي، فتوقفت الحملة وزال الخطر المباشر.

ومن أعظم النتائج التي ترتّبت على هذه الخطوة أنّ سلاجقة الروم جرى عمليّاً استبعادهم من الصراع الدائر في المشرق؛ إذ إنّ الإمبراطور البيزنطي سرعان ما قاد حملة ضدهم، وتعرّض قلج أرسلان الثاني لضغطٍ ثلاثي من ياغي أرسلان الدانشمندي، والزنكيين، والدولة البيزنطية. ولما لم يكن بمقدوره أن يحارب على جميع الجبهات، مال إلى السِّلم، وبدأ بالجانب الإسلامي؛ فتمّ الصلح أولًا بينه وبين نور الدين محمود.

وقد أحسن نور الدين في أدائه السياسي مع مانويل؛ إذ تمثّل دهاؤه السياسي في عدم إثارته الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية، واتجاهه لعقد اتفاقٍ سلميٍّ معها، تفادياً لتحالفٍ صليبي ـ بيزنطي ضده، قد يفضي إلى خسائر فادحة للطرفين. ولا شكّ أنه استثمر خبرة دولته الدبلوماسية في إدارة تلك المفاوضات، واستطاع تحجيم خطر الإمبراطورية البيزنطية عبر الاتصالات الدبلوماسية، وقد ساند هذا النجاح السياسيَّ الكبيرَ وجودُ قوّةٍ عسكرية ضاربة لدى الدولة النورية.

كان الملك نور الدين زنكي ـ رحمه الله ـ على عقيدةٍ صحيحة، وتديّنٍ سليم، وحرصٍ ظاهر على تحكيم الشريعة. وقد ظهرت آثار ذلك في عهده تمكينًا وأمناً واستقراراً، ونصراً وفتحاً مبيناً، وعزّاً وشرفاً، وبركةً في العيش، ورَغَداً في الحياة، وانتشاراً للفضائل وانزواءً للرذائل.

قال عنه ابن الأثير: "قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين من قبل الإسلام، ومنه إلى يومنا هذا، فلم أرَ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سيرةً من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرّياً للعدل والإنصاف منه، قد قصَر ليله ونهاره على عدلٍ ينشره، وجهادٍ يتجهّز له، ومَظلِمةٍ يزيلها، وعبادةٍ يقوم بها، وإحسانٍ يوليه، وإنعامٍ يُسْدِيه".

ولا شكّ أنّ سيرته تُعين على فهم منهج فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل العقيدة في الواقع العملي؛ إذ تجمع بين سلامة المعتقد ورسوخ التديّن من جهة، وبين براعة الإدارة السياسية والعسكرية من جهة أخرى.

ومن أراد التوسّع في ذلك، فليراجع مثلاً كتابات: عصر الدولة الزنكيّة، ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي التي كتبتها في سنوات سابقة، بفضل الله وتوفيقه.

1 ـ فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعيّة ومسائل العقيدة في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي
من المسلمين لا يعرف صلاح الدين الأيوبي، وهو القائد الكرديّ المجاهد، الذي أجرى الله على يديه الفتح الكبير والنصر التاريخيّ الفذّ في حطّين، وحرّر بيت المقدس من الاحتلال الصليبي الذي استمرّ عقوداً، حيث ذاق فيها المسلمون ألوان القهر والعذاب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض؟

وقد قال فيه العماد الأصفهاني عند وفاته:

مَـنْ في الجِهادِ صِفاحُهُ ما أُغْمِدَتْ
           بالنَّصرِ حتّى أُغْمِدَتْ صَفَحاتُهُ

مَـنْ في صُدورِ الكُفرِ صَدْرُ قَناتِهِ
            حتّى تَوَارَتْ بالصَّفيحِ قَناتُهُ

لَذُّ المتاعِبِ في الجِهادِ، ولَمْ يَزَلْ
    مُذ عاشَ، قَطُّ بالصَّفيحِ قَناتُهُ

مَسْعودَةٌ غَدَواتُهُ، مَحمودَةٌ
          رَوْحاتُهُ، مَيْمونَةٌ ضَحَواتُهُ

في نُصْرَةِ الإسلامِ يَسْهَرُ دائِمًا
لِيَطولَ في رَفْضِ الجِنانِ سُباتُهُ

وقد سجّلت هذه الأبيات ـ وغيرها ـ صورةً ناصعة لتفاني القائد صلاح الدين في خدمة الإسلام، ورفع راية الجهاد، والتصدّي للغزاة. وقد استطاع صلاح الدين، ومعه مستشاروه من كبار القادة والعلماء، أن يقودوا الحرب والسِّلم معًا؛ ففاوضوا وهادنوا حين اقتضت المصلحة الشرعية، وقاتلوا حين وجب القتال. ومحلّ الشاهد هنا ما يتصل بصلح الرَّمْلة مع المحتلّ لأراضي المسلمين.

فقد كانت ردّة فعل الغرب الصليبي على انتصارات صلاح الدين إرسالَ الحملة الصليبية الثالثة، التي عمل قادتها على استرداد بيت المقدس بأيّ ثمن. فوجد الناصر صلاح الدين نفسه في موقفٍ شديد التعقيد. وبعد قتالٍ طويل، لم ينجح ريتشارد قلب الأسد في تحقيق هدفه الرئيس، واضطرّ في النهاية إلى فتح باب المفاوضات مع صلاح الدين. وهكذا كانت الحرب تشتعل، ثم تعود المفاوضات، في دورة متكرّرة؛ وقد تمكن الصليبيون خلال تلك الفترة من السيطرة على يافا وعكّا وجزءٍ لا يُستهان به من بلاد الشام وسواحلها.

لقد أدركت القيادة في سوريا أن إدارة الدولة ليست بالصراخ، ولا برفع الصوت، ولا بالخطب الرنانة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، بل هي منظومة قوانين معقدة تتداخل فيها المصالح والتحالفات والثقافات. لذلك، اتخذت القيادة خطوات متقدمة في العقل الاستراتيجي السياسي، فتعاملت مع تركيا باعتبارها واقعًا جغرافيًا ووجودًا سياسيًا، وقوة اقتصادية وعسكرية وإقليمية، لتكون من أسباب الاستقرار الداخلي للبلاد بعد الله.ومع اشتداد المرض على ريتشارد، أخذ يرسل الرسل إلى صلاح الدين يطلب الفاكهة والثلج، وقد ذكر المؤرخون أنّه اشتَهى الكمثرى والخوخ، فكان صلاح الدين – بتسامحه وأخلاقه – يمدّه بما يطلبه، على الرغم من أن الحرب بينهما سجال. ومن ثم جَدَّد ريتشارد عرض الصلح على صلاح الدين، مدفوعاً بعدة عوامل، وإن من أبرزها:

ـ أنّ المرض ألمّ به واشتدّ عليه، فتدهورت صحته حتى عجز عن القيادة الفاعلة والتخطيط السليم.

ـ انقطاع النجدات العسكرية القادمة من أوروبا لقوات الحملة الثالثة في الشام.

ـ يأسُ ريتشارد من استرداد بيت المقدس.

وغير ذلك من الأسباب التي فُصِّلتها في كتابي "صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس".

وفي المقابل، لم يستطع ريتشارد أن يحقّق نصراً حاسماً، وبدأت بعض الحصون والمدن ـ ومنها عكّا ـ تترنّح، وظهرت علامات السآمة والتعب على عساكره، مع تزايد المخالفات في صفوفهم، في حين كان العدوّ في ازديادٍ عدديٍّ وإمداداته متتابعة، وإمدادات صلاح الدين في نقصان.

كلّ ذلك دفع ريتشارد في النهاية إلى القبول بالصلح؛ فاستمرّت المفاوضات بينه وبين صلاح الدين خمسة عشر شهرًا، واقتضت اثنين وأربعين وفدًا تفاوضيًّا، كانت المفاوضات خلالها تنقطع حينًا وتُستأنف حينًا آخر. وكان البادئ بطلب الصلح في أغلب الأحيان هو ملك الإنجليز ريتشارد قلب الأسد.

1 ـ وقد مرّت المفاوضات بمراحل متعدّدة، وكانت المرحلة السادسة ـ وهي الأخيرة ـ طويلةً ومعقّدة؛ إذ استمرّت قرابة خمسة أشهر. وفي يوم 22 شعبان سنة 588هـ / 2 أيلول (سبتمبر) 1192م حمل رُسُل صلاح الدين العرض النهائي، فقبِله ريتشارد قلب الأسد، ووقّع عليه، وأثبت المندوبون أسماءهم إلى جانب اسمه على المعاهدة التي نصّت على ما يلي:

2 ـ يكون للصليبيين الشريطُ الساحليّ من صور شمالًا إلى يافا جنوبًا، بما في ذلك: قيسارية، وحيفا، وأرسوف.

3 ـ تبقى عسقلان في أيدي المسلمين، على أن تُخَرَّب تحصيناتها.

4 ـ يتقاسم المسلمون والصليبيون كُلًّا من اللُّد والرملة مناصفة.

5 ـ يحقّ للنصارى زيارة بيت المقدس بحرّية.

6 ـ للمسلمين والنصارى الحقّ في اجتياز بلاد بعضهم بعضًا بأمان.

7 ـ مدة المعاهدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.

8 ـ واشترط صلاح الدين إدخال مناطق الحشّاشين في بنود الصلح، بمعنى: أن المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء تُعدّ جزءًا من الأراضي الإسلامية التي شملتها المعاهدة. وفي المقابل اشترط ريتشارد قلب الأسد إدخال كلٍّ من صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس في الصلح.

9 ـ ولما تمّت الهدنة أذِن صلاح الدين للصليبيين بزيارة بيت المقدس، فاختلط عسكر المسلمين بعسكر الصليبيين، وخرج جماعة من المسلمين إلى يافا للتجارة، كما قَدِم خلقٌ كثير من الصليبيين إلى القدس للحجّ، وأنفذ صلاح الدين لهم الخفراء يحفظونهم، وكان غرضه من ذلك أن يقضوا وطرهم من الزيارة ثم يرجعوا إلى بلادهم آمنين.

ـ نتائج الحملة الصليبية الثالثة وأهمّ الأحداث قبيل وفاة صلاح الدين

1 ـ من أبرز نتائج الحملة الصليبية الثالثة ..

2 ـ رحيل ريتشارد قلب الأسد إلى بلاده بعد صلح الرملة انتهت الحملة الصليبية الثالثة؛ إذ لن يتوجّه إلى الشرق الأدنى الإسلامي حشدٌ كهذا من الملوك والأمراء مرةً أخرى. ومع أنّ أوروبا الغربية توحّدت ـ إلى حدّ كبير ـ في هذا المسعى، وجهّزت حملة تُعَدّ من أكبر الحملات الصليبية، إلا أنّ النتائج التي تحققت كانت محدودة؛ فالدفاع عن صور على يد كونراد دي مونتفرات، ونجدة طرابلس من قِبَل الأسطول الصقلي، جرى كلاهما قبل وصول معظم أفراد الحملة. أما إسهام قادة الحملة الثالثة فلم يتعدَّ الاستيلاء على عكا وعدد من المدن الساحلية حتى يافا، بالإضافة إلى جزيرة قبرص. وأمّا الهدف الرئيس ـ وهو استرداد بيت المقدس ـ فلم يتحقق، بل كان من آثار الحملة توقّفُ نشاط صلاح الدين التوسّعيّ في الفتح.

3 ـ يعدّ المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ الحروب الصليبية؛ لأنها لم تُحقّق نتائج تتناسب مع الجهد الهائل المبذول فيها، فضلًا عن عجزها عن تحقيق الهدف الأساس الذي قامت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين.

4 ـ ساهمت الظروف السياسية والعسكرية التي واجهت هذه الحملة في نهايتها الفاشلة؛ إذ ليس في طاقة جيشٍ منقسم القيادة، ممزّق بوَطيس المنازعات السياسية، يقاتل في أرضٍ بعيدةٍ عنه، أن ينتصر على جيوش جمعت بينها وحدة الصفّ والهدف، وانضوت تحت قيادة واحدة قوية مثل صلاح الدين.

5 ـ من عوامل الفشل كذلك أن ملكي إنكلترا وفرنسا حملا معهما إلى الشرق خلافاتهما السياسية المحلية، رغم تعهّدهما بتجاوزها قبل التحرك من أوروبا الغربية؛ فطغت تلك النزاعات على وحدة القرار العسكري.

6 ـ اختلف الطابع الروحي للحملة الثالثة عن الأولى؛ إذ قلّ تأثير البابوية في توجيهها مقارنةً بالحملة الصليبية الأولى، وطغى عليها الطابع السياسي بما يحمله من مصالح متناقضة وخلفيات متضاربة.

7 ـ استمرّ تماسك الجبهة الإسلامية بعد أن اختفت – إلى حدّ كبير – المنازعات الدينية والسياسية، على الرغم من تراجع القوة العسكرية للمسلمين بفعل الإرهاق والتعب؛ فقد اضطرت الجيوش الإسلامية إلى القيام بعمليات عسكرية شبه مستمرة على مدى ثلاث سنوات، في ظروف شديدة الصعوبة. ومع ذلك، ظهرت بعض التشنّجات الداخلية التي سرعان ما امتصّها صلاح الدين بحكمته، ومنها النزاع الذي وقع بين العناصر التركية والعناصر الكردية في جيشه. ولولا رحمة الله، ثمّ حنكة القيادة، لكانت الخسائر فادحة وبصورة غير متصوَّرة. غير أن حسن قيادة صلاح الدين وصمود المسلمين في وجه هذه الحملة الشرسة أربك ملوك أوروبا وأفشل مخططاتهم، ومنعهم من استرجاع بيت المقدس، وهو ما يُعدّ انتصارًا استراتيجيًا كبيرًا لصلاح الدين رغم ما لحق المسلمين من خسائر.

8 ـ تميّزت هذه الحملة الصليبية بقدرٍ ملحوظ من التفاهم والاحتكاك المباشر مع المسلمين؛ فوثقت الصلة بين الطرفين، وتجاوزت جانب القتال إلى طرح مشاريع للمعاهدات، وتبادل الهدايا، وإرسال الفواكه والثلج لريتشارد قلب الأسد في مرضه، بل وقيام طبيب صلاح الدين الخاص بمداواته.

وقد ترتّب على هذا الاختلاط والاحتكاك آثارٌ حضارية مهمّة في اللاتين المتواجدين في بلاد الشام وفي الغرب الأوروبي، وإن من أبرزها:

1 ـ نقلهم عن المسلمين كثيرًا من العلوم والمعارف التي كانت سائدة في العالم الإسلامي آنذاك؛ وقد ألّفوا فيها كتبًا احتوت على قدرٍ من التجديد والابتكار، ووُضعت فيها قوانين ونظريات جديدة.

2 ـ نقلهم عن المسلمين عددًا من الصناعات والفنون، مثل صناعة النسيج والصباغة، والمينا، والمعادن، والزجاج، فضلًا عن فن العمارة. وكان لهذا النقل أثرٌ عميق في تطوّر الحياة الصناعية والتجارية والفنية في أوروبا. يقول غوستاف لوبون: إن تأثير الحروب الصليبية في الصناعة والفنون لم يكن أقلّ من تأثيرها في سائر نواحي الحياة؛ فبفضلها أخذت أوروبا عن المسلمين صناعة النسائج الحريرية والصباغة المتقنة، ولم يلبث فن العمارة أن تحوّل في أوروبا تحولًا تامًا.

3 ـ تأثرت الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية تأثرًا عميقًا أدّى إلى نموّ الحضارة الأوروبية وازدهارها. ولولا الحروب الصليبية ـ كما يرى بعض المنصفين ـ لتأخّر هذا النموّ زمنًا طويلًا. وقد اعترف عدد من المستشرقين المنصفين بهذه الحقيقة قبل أن يقرّرها مؤرخو المسلمين. يقول غوستاف لوبون ـ في معنى كلامه ـ: إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة التي أسفرت عنها الحروب الصليبية، تجلّت لنا أهميتها؛ فقد كان اتصال الغرب بالشرق، على مدى قرنين من الزمان، من أقوى العوامل في نموّ الحضارة الأوروبية. وهكذا أدّت الحروب الصليبية إلى نتائج غير تلك التي كان الصليبيون ينشدونها؛ فبينما كان الشرق المسلم يتمتع بحضارة زاهرة، كانت أوروبا غارقة في ظلمات التخلّف.

4 ـ ذلك ما أفادته أوروبا من الحروب الصليبية؛ فمع خسائرها البشرية والمادية الفادحة، وعجزها عن تحقيق هدفها الرئيس باستعادة بيت المقدس، إلا أنها كسبت ـ من حيث لا تشعر ـ مكاسب حضارية كبيرة أسهمت في نهوضها وتسريع نموّها الحضاري.

5 ـ أمّا المسلمون، فلم يكن لدى الصليبيين ما يمكن أن يُقتدى به في السلوك أو الأخلاق؛ فقد وصفهم عدد من معاصريهم ـ حتى من بني ملتهم ـ بأنهم كانوا في كثير من الأحيان كـ "الوحوش الضارية"، ينهبون الأصدقاء والأعداء، ويقتلونهم على حدّ سواء. ويذكر أسقف عكّا الصليبي جاك دو فيتري أنّ ما يُرى من الفرنج في أرض الميعاد إنما هو طوائف من الزنادقة والملحدين واللصوص.

6 ـ وقد جرت ـ خلال تلك الحقبة ـ جولات متعدّدة من التفاوض وعقد الاتفاقات بين المسلمين والفرنج، كان معظمها بطلب من الفرنج أنفسهم، ولم يتردّد الزعماء المسلمون في عقدها؛ لما فيها من مصالح، من قبيل: تحييد بعض الإمارات الصليبية، وتخفيف الضغط العسكري، وتيسير حركة المسلمين بين مصر وبلاد الشام، وتأمين طرق التجارة، وضمان سلامة قوافل الحجاج إلى الحرمين.

7 ـ وأما الصلح الأخير، وهو صلح الرملة، فقد حُدِّد بثلاث سنوات. ورأى صلاح الدين ومستشاروه أنّ المصلحة تقتضي عقده بسبب سوء الأوضاع الصحية التي ألمّت بجنده، إضافة إلى الإرهاق والتعب الشديد الذي أصابهم. فاعتبروه فرصة للاستعداد لجولات ومعارك قادمة. يقول ابن شداد: "ورأى السلطان في ذلك مصلحة؛ لما غشي الناس من ضعف، وقلة النفقات، والشوق إلى الأوطان... فرأى أن يجمَّهم مدةً حتى يستريحوا، وينسوا هذه الحالة التي صاروا إليها، ويعمر البلاد، ويشحن القدس بما يقدر عليه من الأسلحة، ويتفرغ لعمارته".

8 ـ ويذكر ابن شداد كذلك أن صلاح الدين لم يكن راضياً عن هذا الصلح من حيث الأصل، لكنه رأى أن المصلحة الشرعية تقتضي القبول به، لسآمة العسكر، وكثرة المخالفة، وضعف الموارد. ويرى ابن شداد أن الصلح كان في مصلحة المسلمين؛ لأن صلاح الدين توفي بعد عقده بزمنٍ يسير، ولو أن وفاته وقعت أثناء اشتداد المعارك بين المسلمين والفرنج لكان الخطر على الإسلام عظيمًا، وما كان الصلح –ـ في هذه النظرة ـ إلا توفيقًا وسعادة.

9 ـ مقتل ريتشارد قلب الأسد:

بعد صلح الرملة أبحر ريتشارد من عكّا عائدًا إلى بلاده، فغرقت سفينته في البحر، ونجا بنفسه حتى بلغ الساحل، ثم توغّل في أرض النمسا متنكّرًا، حتى انكشف أمره في إحدى الحانات بالقرب من مدينة فيينا في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1192م، فاقتيد إلى ليوبولد دوق النمسا، الذي اتّهمه بقتل المركيز كونراد دي مونتفرات، وأراد بيعه، فتقدّم خصومه لشرائه، ثم لم يلبث أن سلّمه إلى هنري السادس إمبراطور الدولة الجرمانية المقدسة. فبقي في أَسره إلى أن دُفعت عنه فديةٌ كبيرة، ثم أُطلِق سراحه في آذار/ مارس 1194م، وظل يقاتل خصومه من الأمراء حتى أصيب ولقى حتفه.

10 ـ تحصين بيت المقدس، وإصلاح أحوالها بعد الصلح

قال العماد الأصفهاني ـ في وصف ما قام به صلاح الدين بعد السلم ـ ما خلاصته: إنّ السلطان عاد بعد الهدنة إلى القدس ليتفقد أحوالها، ويستعرض رجاله فيها، وانشغل بتشييد أسوارها وتحصينها، وتخليد آثاره فيها وتحسينها، وتعميق خنادقها، وتوثيق طرقها، وزاد في أوقاف المدرسة سوقًا بدكاكينها، وأرضًا ببساتينها، ورتّب أحوال الصوفية في رعايتها، وجعل لها وقفًا يكفل كفايتها، وعيّن الكنيسة التي في شارع قمامة للبيمارستان، ونقل إليها العقاقير والأدوية على اختلاف أنواعها وألوانها، وأدار سور القدس على قبة صهيون، وضَمَّها إلى المدينة، وأمر بإجراء الخنادق حول الجميع. ثم صمّم العزم على الحجّ، فلم يوافقه القدر؛ فتأسف على فواته بعد أن هيّأ مقدماته، وأقام شهر رمضان في القدس، وأفاض فيه الإحسان. ومن ثم فوّض ولاية القدس وأعمالها إلى عز الدين جرديك، بعد أن استعفى منها حسام الدين سياروخ، وولّى مملوكه علم الدين قيصر ما دون القدس من الأعمال، كعمل الخليل وغزة والداروم وعسقلان.

رابعاً ـ فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد في تجربة سوريا الجديدة

لا أحد من المحبين لنجاح التغيير الجديد في سوريا يقول إن حكومة أحمد الشرع وقيادته معصومة أو غير قابلة للنقد والنصح، ولا يدّعي أنها لم تقع في أخطاء. حتى الرئيس نفسه وفرق القيادة لا يزعمون ذلك، بل هم حريصون على تجاوز الأخطاء وإصلاح ما يمكن إصلاحه. وأبواب التعبير مفتوحة في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، لكنّنا هنا بصدد بيان فقه الدولة الجديدة والممارسة السياسية، وما تحتويه من فقه الموازنات الدقيقة بين تعدد الطوائف، والتركيبات الاجتماعية والدينية والثقافية الداخلية، وامتداداتها الإقليمية والدولية، وموقع سوريا الاستراتيجي في مواجهة الكيان الغاصب الذي يسعى للهيمنة على دمشق، واستغلال أي ضعف للحكومة الجديدة، بما في ذلك الاعتداءات السابقة على الجيش السوري قبل تولي أحمد الشرع الحكم.

لقد أدركت القيادة في سوريا أن إدارة الدولة ليست بالصراخ، ولا برفع الصوت، ولا بالخطب الرنانة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، بل هي منظومة قوانين معقدة تتداخل فيها المصالح والتحالفات والثقافات. لذلك، اتخذت القيادة خطوات متقدمة في العقل الاستراتيجي السياسي، فتعاملت مع تركيا باعتبارها واقعًا جغرافيًا ووجودًا سياسيًا، وقوة اقتصادية وعسكرية وإقليمية، لتكون من أسباب الاستقرار الداخلي للبلاد بعد الله.

كما أنّ السعودية وقطر دعمتا الحكومة السورية الجديدة لأسباب تاريخية وحضارية وثقافية وسياسية واقتصادية وأمنية، وامتدت علاقاتها مع سوريا عبر الزمن، منذ تأسيس دولة الخلافة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة في قلب الجزيرة العربية. وإن هذه الدول اليوم تمتلك خبرة دبلوماسية عميقة، وعلاقات سياسية واستثمارية، وتشكل شرايين المال وإعادة الإعمار؛ لذلك كان التواصل معها ضرورة استراتيجية، باعتراف القيادة السورية، لضمان المساندة الفعّالة على الأرض.

وهذا جعل النظام السوري الجديد ينضم ـ سواء طوعًا أو كرهاً ـ إلى معسكر تركيا والسعودية وقطر وحلفائها. سوريا كانت مدمرة اقتصاديًا وعسكريًا، وفارغة من سكانها، فالملايين من المهجّرين والمغتربين بحاجة إلى ضمانات العودة إلى وطنهم، مع توفير سبل العيش الكريم.
تحركت القيادة السورية وفق مبدأ فن الممكن في السياسة، لتكون جزءًا من تحالف إقليمي ودولي ومحلي ترعاه تركيا والسعودية وقطر، وهم من ساعدوا على لقاءات متكررة للرئيس السوري مع الرئيس الأمريكي، وكانت السعودية سبّاقة في ذلك. كما سعت القيادة للتوازن مع الاتحاد الأوروبي، خصوصًا بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وأظهرت وجهًا حضاريًا ومدنيًا وحقوقيًا، دون أن يتعارض ذلك مع ثوابت الشريعة، مع السعي لمعالجة آثار الماضي الأسود مع روسيا.

ليس المقصود من هذا الطرح ـ بحال من الأحوال ـ إضعاف شأن العقيدة، أو التقليل من مركزيتها في حياة المسلم، أو صرفها عن مقامها الذي حفظته النصوص وأجمع عليه العلماء، كما لا يراد منه إعطاء غطاء شرعي لأي تنازل عن الثوابت العقدية أو القطعيات الدينية تحت دعوى "فقه الموازنات" أو "المرونة السياسية". بل المقصود هو ضبط مواضع العقدي بميزانه الشرعي، ووضع السياسي في مساحته الاجتهادية..كما فتح الرئيس السوري صفحة جديدة من التعاون مع العدو اللدود فلاديمير بوتين، بينما كانت الصين في الحسبان، لكنها لم تحقق تقدمًا ملموسًا مثل الحلفاء السابقين. وإن هذه الخطوات تُظهر كيف يعمل الرئيس أحمد الشرع وفرق قيادته على تجاوز الحقول المزروعة بالألغام وإكراهات السياسة الدولية.

كل هذه المقاصد والمساعي تساهم في لملمة شتات وطن جريح، فيه تيارات متلاطمة وطرق متداخلة، ومخاطر لا تُحصى. فالشريعة الإسلامية فتحت مجالاً واسعًا في فقه السياسة الشرعية، مؤكدةً على الإصلاح التدريجي، وأن الأحكام المتعلقة بالعدل والرحمة والأمن والعمران، وتوحيد الشعب، وتقديم الخدمات التعليمية والصحية والرياضية والثقافية والدينية، جميعها من مقاصد الشريعة القائمة على دفع المفاسد وجلب المصالح للشعوب والدول.

إنّ لله سنناً في حركة المجتمعات، وبناء الدول، والتدافع الحضاري، كالابتلاء، والأخذ بالأسباب، والتدرج في التغيير، وتغيير النفوس، والتمكين، وتحقيق النصر. فعندما تجهل القيادة سنن قيام الدول، تخطئ في تنزيل النصوص، وتفشل في مواجهة التحديات بالعلم والبصيرة والهدى والحكمة ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِي خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269].

إنّ أحمد الشرع اليوم، كرجل دولة، في أشدّ الحاجة إلى فقهاء النهوض الذين كان لهم عبر التاريخ قدرة على فكّ الاشتباك بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد، أمثال العلماء الذين رافقوا نور الدين زنكي، أو صلاح الدين الأيوبي، أو محمد الفاتح.

هؤلاء العلماء، وأمثالهم، ينظرون إلى أن مفهوم السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة لا يتعارض مع القيم الإنسانية، ولا مع التعاون الإقليمي والدولي، ولا مع مؤسسات الدولة المعروفة، بل تقوم الشريعة على رفع المفاسد، وجلب المصالح على المستويات المحلية، والإقليمية، والدولية.

نسأل الله عزّ وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يأخذ بيد الشعب السوري وقيادته إلى شطّ الأمان والاستقرار، وأن يقدّموا نموذجًا حضاريًا متميزًا في الجمع بين الثوابت والمتغيرات، والأصالة والمعاصرة، وأن يحفظهم من كيد الأشرار، ومن الأيدي العابثة، ومن أقلامهم اللعينة وأفكارهم المسمومة وفسادهم العريض.

وهكذا، حاولت هذه الورقة، في حدود ما يسمح به الجهد البشري، أن تضع إطارًا معرفيًا وشرعيًا يساعد على فهم طبيعة العلاقة بين السياسة الشرعية ومسائل الاعتقاد في السياق السوري المعاصر، وأن يسهم هذا الإطار في إعادة ضبط هذه العلاقة على أساس من العقل الاستراتيجي الذي عرّفناه بوصفه قدرة منهجية واعية على قراءة الواقع، واستشراف مآلاته، وبناء قرارات تراعي أصول الشريعة وقواعد الاجتهاد، وسنن الاجتماع، وقوانين السياسة.

وليس المقصود من هذا الطرح ـ بحال من الأحوال ـ إضعاف شأن العقيدة، أو التقليل من مركزيتها في حياة المسلم، أو صرفها عن مقامها الذي حفظته النصوص وأجمع عليه العلماء، كما لا يراد منه إعطاء غطاء شرعي لأي تنازل عن الثوابت العقدية أو القطعيات الدينية تحت دعوى "فقه الموازنات" أو "المرونة السياسية". بل المقصود هو ضبط مواضع العقدي بميزانه الشرعي، ووضع السياسي في مساحته الاجتهادية، حتى لا يختلط الأصل بالفرع، ولا تُحمَّل المواقف السياسية ما لم تُحمِّلها الشريعة، ولا يُكَفَّر أو يُتَّهَم مسلم في نيته ودينه بسبب اجتهاد سياسي قابل للأخذ والرد.

كما أنّ ما عرضته الورقة من أمثلة تاريخية أو نماذج شرعية لا يُقصد به القياس الحرفي أو الإسقاط الآلي، وإنما الاستفادة من السنن العامة التي دلّت عليها ممارسات الأنبياء والصالحين في الموازنة بين المبادئ والمصالح، مع الاعتراف التامّ باختلاف السياقات واختلاف الواقع، وعدم جواز تعميم الأحكام دون مراعاة شروطها وضوابطها.

1 ـ وتؤكد الورقة أن الاجتهاد السياسي، مهما اتسعت دائرته، يظل محكوماً بثلاثة ضوابط لا يجوز تجاوزها:

2 ـ حفظ الثوابت العقدية والنصوص القطعية.

3 ـ تحقيق المصالح الراجحة ودرء المفاسد الكبرى وفق فقه منضبط.

4 ـ النظر في المآلات ومعرفة أثر القرارات على حاضر الأمة ومستقبلها.

وإذا كان في هذا البحث ما أصاب فبفضل الله وتوفيقه، وإن كان فيه خطأ أو نقص فهو من نفسي وقصوري، وهو قابل للمراجعة والتقويم والزيادة. نسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الورقة لبنةً في سبيل ترشيد الخطاب السياسي والشرعي في سوريا وغيرها من بلدان المسلمين، وأن يعين العاملين على الحق، ويرزقنا جميعًا بصيرة نافذة، وعملاً صالحًا، وفهمًا صحيحًا، وأن يجنبنا الزلل والغلو والتقصير.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إقرأ أيضا: العقل الاِستراتيجي في سوريا.. فقه السياسة الشرعية وفكّ الاِشتباك مع العقيدة (1)

مقالات مشابهة

  • العقل الاِستراتيجي في سوريا.. فقه السياسة الشرعية وفكّ الاِشتباك مع العقيدة (2)
  • معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي.. الرواية الإسرائيلية أولا
  • كيف تراجع الابتكار الأوروبي وماذا فقدت القارة العجوز؟
  • قراصنة حنظلة يخترقون بيانات 9 أفراد مرتبطين بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية
  • ندوة فكرية في جامعة صنعاء حول أثر العدوان الإسرائيلي بغزة على الاقتصاد الفلسطيني وانعكاسات الردع اليمني على اقتصاد العدو
  • اليوم… العرض الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لفيلم "الأشياء التي تقتلها" على المسرح الكبير
  • في اليوم العالمي لضحايا حوادث المرور.. تأكيد على دعم المصابين وأسرهم
  • اعتداءات جديدة.. هذا ما فعله الجيش الإسرائيليّ في الجنوب اليوم
  • ظهور اللمبة الحمراء في عداد الكهرباء مسبوق الدفع: ماذا تعني وماذا تفعل؟