خبير عسكري للجزيرة نت: أوروبا لن تتجنب الحرب ما لم تعد بناء قدراتها الدفاعية
تاريخ النشر: 20th, November 2025 GMT
باريس- تعيش أوروبا لحظة مراجعة غير مسبوقة في تاريخها الحديث يعاد فيها تعريف مفهوم الأمن الجماعي بعد عقود من الاطمئنان إلى "السلام الأبدي" الذي تلا الحربين العالميتين ونهاية الحرب الباردة.
وفي ظل التحولات الجيوسياسية واتساع رقعة التوترات العالمية تدرك أوروبا أن زمن الارتياح الإستراتيجي قد انتهى، وأن صورتها كقوة سلام تحتاج إلى مظلة قوة حقيقية.
كما أن احتمالية اندلاع حرب خلال السنوات المقبلة لا ينكرها الاتحاد الأوروبي، بقدر ما تقابلها مخاوف من الفجوة العسكرية بين دوله وخصومه المحتملين.
وفي مقابلة خاصة للجزيرة نت حذر الخبير العسكري والجنرال السابق في الجيش الفرنسي فرانسوا شوفانسي من أن أوروبا لم تعد قادرة على اعتبار نفسها في مأمن من الصراعات، مؤكدا أن تجنب الحرب لا يتحقق بالكلام، بل بإظهار القوة.
الردع والتسلح
ويرى شوفانسي أن أوروبا باتت مقتنعة بأن توازن الردع هو الضامن الأبرز لعدم الانجرار إلى حرب جديدة، لذلك تتجه معظم دولها بنسبة تتراوح بين 75% و80% إلى إعادة التسلح.
وتبرز هولندا مثالا لافتا في هذا الاتجاه، إذ تسعى لرفع عدد أفراد جيشها إلى 200 ألف جندي مقابل 75 ألفا اليوم.
ويقول شوفانسي إن الشعب الهولندي غير ميال إلى الروح العسكرية بطبيعته، لكنه "عملي" ويدرك وجود تهديد.
ورغم أنها تظل في قلب الجدل الأمني الأوروبي لا تتركز المخاوف على روسيا فقط، فالصين -بحسب شوفانسي- باتت أكثر عدوانية في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وهو ما ينعكس على مصالح أوروبا في تلك المنطقة، مما يدل على أن الخطر قد يأتي من جبهات جغرافية عدة.
ويرى الجنرال الفرنسي أن الرأي العام الأوروبي قد يضاهي أهمية السلاح والجيوش، قائلا "لدينا مجتمع أوروبي منزوع السلاح تماما في تفكيره ولا يفهم الحرب، لأنه رُوّج له سياسيا لفكرة السلام الأبدي، وأن التجارة ستحل جميع مشاكل العالم، والواقع أن هذه المجتمعات لم تعد تفهم هذا التوجه المحتمل نحو حرب مستقبلية".
هذا التباين بين القيادة العسكرية والشعوب يشكل -برأيه- ثغرة حقيقية في منظومة الأمن الأوروبي، وقد يظهر أثره عندما يتطلب الأمر اتخاذ قرار سريع في لحظة أزمة أو تقديم التضحيات التي قد تُطلب منه غدا، سواء كان ماليا أو إنسانيا.
إعلانوفي حالة وقوع هجوم لا تزال مسألة خوض الحرب من عدمها تشكل عقبة من حيث إدارة الرأي العام لقبول قرار بهذه الأهمية.
وتتناول المادة 42.7 من معاهدة لشبونة هذا الأمر بوضوح، وتعتبر أنها أقوى من المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والتي تنص على أن الهجوم على أحد أعضاء الحلف هو هجوم على جميع أعضائه، وفق شوفانسي.
وينص بند الدفاع المشترك في معاهدة الاتحاد الأوروبي (المادة 42.7) على أنه "إذا تعرضت دولة عضوة لعدوان مسلح على أراضيها تلتزم الدول الأعضاء الأخرى بتقديم العون والمساعدة لها بكل ما في وسعها، وفقا للمادة الـ51 من ميثاق الأمم المتحدة".
حصن الناتوويشدد الجنرال شوفانسي على أن الناتو هو "النقطة الإيجابية الأبرز" في المشهد الأمني الأوروبي، بفضل ما يوفره من بنية تنظيمية وعسكرية موحدة ولغة عمليات مشتركة وإطار واضح لاتخاذ القرار، ومع ذلك تبقى نقاط الضعف كبيرة.
ويبدو أن ضعف الميزانيات لا يزال يشكل حلقة الضعف الأكثر إلحاحا، فبينما اقترب الإنفاق الدفاعي الأوروبي من 380 مليون يورو هذا العام يظل أقل بكثير مقارنة بالولايات المتحدة التي تنفق نحو تريليون دولار (920 مليار يورو).
أما على المستوى العسكري الخالص فأشار شوفانسي إلى أن الجيوش الأوروبية محترفة لكنها محدودة العدد والوسائل، وأن نقص القوى البشرية دفع بعض الدول إلى التفكير في إعادة التجنيد الإلزامي، متوقعا إصدار بيانات رئاسية في الفترة المقبلة تدعو إلى إعادة إرساء شكل من أشكال الخدمة العسكرية.
وأضاف "في أوكرانيا مثلا، لا يوجد مجندون محترفون، بل جنود احتياط وآخرون إلزاميون تم تدريبهم لضرورة استبدال من قُتلوا في المعارك، وقد واجهت أوروبا المشكلة ذاتها بين عامي 1914 و1918 عندما قُتلت نسبة كبيرة من الضباط المحترفين في السنة الأولى من الحرب وحلّ جنود الاحتياط محل الضباط المحترفين".
واقتصاديا، يكمن الضعف الأكبر في الاعتماد على المواد الخام الخارجية، خصوصا الطاقة والمعادن الإستراتيجية التي تعد العمود الفقري للصناعات العسكرية، فدبابة قتالية لن تعمل دون نفط، والطاقة الشمسية ليست مناسبة بعد.
وعلق شوفانسي على ذلك قائلا "فرضت الصين -التي تسيطر على 90% من طاقتها التكريرية، أي المعادن النادرة والعناصر الأرضية النادرة- قيودا على التصدير، ولذا، قررت فرنسا منذ أشهر عدة تخزين العناصر الأرضية النادرة الضرورية لكل شيء إلكتروني، ليس فقط الأسلحة، ولكن أيضا لتقليل اعتمادها على المصادر الخارجية".
"شنغن عسكري"
وبحسب الجنرال الفرنسي، تُعد القيود الإدارية والقانونية داخل أوروبا من أبرز التحديات التي تعيق تحرك قواتها داخل حدود الاتحاد.
ويطرح مثالا واقعيا: نقل دبابة من فرنسا إلى رومانيا استغرق وقتا طويلا بسبب القيود الألمانية المفروضة على استخدام الطرق، مما دفع الجيش الفرنسي إلى الاعتماد على السكك الحديدية.
وتم تخفيف جميع اللوائح اليوم للسماح بنشر القوات دون تصريح، وما كان يستغرق عادة 10 أيام ينفذ الآن في أقل من 3 أيام بفضل ما يسمى "شنغن عسكري" (تسهيل التنقل العسكري في منطقة أوروبا) يسمح بتنقل القوات دون عوائق.
إعلانويرى شوفانسي أن هذه القيود ورثت بنية "زمن السلم" ولم تعدل لاستيعاب سيناريو الحرب، مؤكدا "يجب البدء بتفكيك البيروقراطية الأوروبية في حال وقوع أزمة عسكرية كبرى، أي رفع جميع لوائح زمن السلم لأنها لم تعد تلبي الاحتياجات الحقيقية".
وحذر شوفانسي من أن إنشاء "شنغن عسكري" قد يفتح الباب لصراع صلاحيات بين الدول والمفوضية الأوروبية بقيادة أورسولا فون دير لاين التي تسعى إلى الحصول على نفوذ أكبر في ملفات الدفاع.
وقال "ستسمح المفوضية بنشر القوات العسكرية تحديدا من خلال منطقة شنغن العسكرية، ولكن يجب ألا ننسى أنها لم تتأسس لإدارة قضايا الدفاع، وإنما للمساعدة في تخصيص الموارد للدفاع الجماعي، لذا فإن توليها صلاحيات أخرى يعد أمرا خطيرا".
نافذة للإعدادويعتقد الخبير شوفانسي أن أوروبا تملك نافذة زمنية تتراوح بين 3 و5 سنوات لتجهيز نفسها عسكريا واقتصاديا وإداريا.
وفي هذا الإطار، بدأت العديد من دول الاتحاد ببناء خطوط إنتاج عسكرية جديدة ستستغرق نحو عامين حتى تدخل حيز التشغيل الكامل.
وأكد أن المطلوب ليس اقتصاد حرب بمعناه التقليدي، بل اقتصاد قادر على "تحمّل الحرب"، أي قادر على توفير السلع الأساسية والطاقة والمواد الإستراتيجية دون أن ينهار تحت الضغط.
ويرى الجنرال السابق أنه رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها روسيا في أوكرانيا فإنه لن يكون في استطاعتها شن هجوم مباشر على أوروبا قريبا، مضيفا أن صمود أوكرانيا وتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية يمنحان القارة الوقت الضروري للاستعداد والتحصين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات لم تعد على أن
إقرأ أيضاً:
واشنطن بوست: صراع على تسلّم روسي مرتبط بشحنات الطرود التي هزت أوروبا
يشكّل ياروسلاف ميخايلوف، المواطن الروسي الذي وجد نفسه في قلب واحدة من أخطر العمليات التخريبية المنسوبة لموسكو في أوروبا، محور صراع استخباراتي محتدم بين روسيا وعدد من الدول الأوروبية.
ورد ذلك في تقرير حصري مطول نشرته واشنطن بوست قالت فيه إن وثائق التحقيق وشهادات مسؤولين أمنيين غربيين، تحوّل ميخايلوف إلى لاعب أساسي في شبكة عمليات سرّية تعتمد عليها الاستخبارات العسكرية الروسية، مستفيدة من قدرته على التنقّل المتكرر داخل أوروبا باستخدام هويات مزوّرة وجوازات سفر مزيفة، بعضها صادر باسم أوكرانيا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هآرتس: قرار الأمم المتحدة الأخير شديد الغموض بشأن الدولة الفلسطينيةlist 2 of 2صحيفة إيطالية: 4 خيارات على طاولة ترامب للتخلص من مادوروend of listزار 10 دولوأوضح التقرير، الذي أعده، غريغ ميلر وكاثرين بولتون وماري إليوشينا، أن سجلات الهواتف وتحقيقات الأجهزة الأمنية تظهر أن ميخايلوف زار ما لا يقل عن 10 بلدان خلال العام الماضي، من بينها ألمانيا والنمسا وبولندا، وتركيا، ورومانيا، وبيلاروسيا.
وأضاف أن هذا النشاط الواسع وفّر له الغطاء والتنقل اللازمين لتنسيق عملية شحنات الطرود المفخخة التي هزّت أوروبا في يوليو/تموز 2024، والتي اعتبرتها أجهزة الأمن الأميركية والأوروبية إحدى أكثر العمليات الروسية تهوّرا منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
وتشير المعلومات الاستخباراتية، وفقا للتقرير، إلى أن ميخايلوف لم يكن مجرد ناقل للأوامر، بل كان مشاركا في تحديد مواصفات الأجهزة المتفجرة التي استخدمت في المخطط، وهو ما يوحي بامتلاكه خبرات تقنية دفعت "الاستخبارات العسكرية الروسية" إلى تكليفه بهذه المهمة الحساسة.
فقد جاءت المكوّنات من روسيا، مركّبة من إلكترونيات ومواد قابلة للاشتعال متاحة تجاريا، لكنها خضعت لتعديلات دقيقة أثّرت في قدرتها على المرور عبر أنظمة التفتيش الأمني، حسب واشنطن بوست.
وجرى تهريب الطرود إلى أوروبا بواسطة ضباط غواصات روس سابقين، أحدهم يدير شركة شحن تربط سان بطرسبورغ بدول البلطيق. وبعد سلسلة معقّدة من عمليات التسليم بين وسطاء، وصلت الأجهزة إلى المنفذين داخل ليتوانيا، إذ تولّى مواطن ليتواني نقلها إلى مكتب "دي إتش إل" في العاصمة الليتواني فيلنيوس في 19 يوليو/تموز العام الماضي.
إعلانوعلى مدار 3 أيام، اندلعت حرائق في منشآت الشحن في ألمانيا وبولندا وإنجلترا. ولم يتسبب الهجوم في خسائر بشرية، لكن طبيعة الأجهزة -التي تعمل بمؤقّتات وتحتوي على مكوّنات قابلة للاشتعال- دفعت مسؤولين أوروبيين للتحذير من أن انفجارها في الجو كان كفيلا بإسقاط طائرات شحن كبيرة، وهو ما كان سيقود إلى كارثة بشرية واسعة.
تحول ميخايلوف من مجرد عنصر عملياتي إلى نقطة تقاطع بين أجهزة الاستخبارات وصراعات النفوذ، ومؤشر على مدى تعقيد "الحرب الهجينة" التي تخوضها موسكو ضد خصومها في الغرب. كشف خيوط أساسيةويرى التقرير أن فشل أحد الأجهزة في الانفجار وفر للسلطات البولندية نافذة مهمة لتحليل بنيته الداخلية، الأمر الذي سمح بكشف خيوط أساسية في التحقيق.
أما ميخايلوف، فقد تمكّن من الإفلات من حملة مطاردة واسعة عبر استخدام وثائق هوية مزيفة سمحت له بمغادرة بولندا نحو تركيا، ثم إلى أذربيجان، حيث أوقف لفترة قصيرة بسبب الاشتباه في حمله وثائق سفر مزيفة.
وعلى الرغم من نجاحه في الوصول إلى إسطنبول، يبقى عدم إكماله طريقه إلى روسيا لغزا، خصوصا أن الهروب إلى موسكو كان سيضمن له الحماية من الملاحقة الأوروبية.
خطورة العملية
ويرى مسؤولون غربيون، حسب التقرير، أنه ربما كان يخشى من أن تعاقبه موسكو نفسها، نظرا لخطورة العملية التي نفّذها ولأن تنفيذ هجوم قادر على إسقاط طائرة شحن فوق أوروبا قد يجرّ روسيا إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي قد يضعه في دائرة الاتهام داخل بلده.
وقالت معدو التقرير إن هذا التفسير ينسجم مع تقديرات استخباراتية أخرى تشير إلى أن فاعلية العملية ومدى خطورتها كانت أكبر من أن تُنفذ من دون علم أجزاء معينة من الاستخبارات الروسية، لكن من المحتمل أن بعض مستويات القيادة العليا في الكرملين لم تكن على دراية كاملة بكل تفاصيلها قبل وقوع الحرائق، ما يفسّر رغبة موسكو اللاحقة في احتواء تداعياتها.
وفي الوقت الذي يُنظر فيه إلى ميخايلوف كمجرد عنصر ضمن شبكة واسعة تستغل المجرمين والوكلاء منخفضي المستوى لتنفيذ أعمال تخريبية، يكشف الصراع الدولي على تسلّمه أن دوره كان أكبر بكثير من مجرد منفّذ ثانوي.
مصدر لمعلومات حساسةفبعض التقارير تصفه بأنه حلقة الوصل الحيوية بين الضباط الروس في الداخل وعناصر التنفيذ في أوروبا، وهو ما يجعله مصدرا محتملا لمعلومات حساسة قد تُحرج موسكو بشدة إذا مثل أمام محكمة أوروبية أو تحدّث إلى محققين غربيين.
وبينما تستمر أذربيجان في إبقائه داخل حدودها من دون أن تسمح بنقله إلى أي دولة، تظل القضية مفتوحة على احتمالات متعددة: امتناع باكو عن تسليمه لموسكو أو وارسو، ضغوط متزايدة من الدول الغربية، واحتمال أن يصبح ميخايلوف ورقة تفاوض مستقبلية في ملفات أكثر حساسية على مستوى العلاقات بين روسيا وأوروبا.
بهذا، يقول التقرير، إن ميخايلوف يتحول من مجرد عنصر عملياتي إلى نقطة تقاطع بين أجهزة الاستخبارات وصراعات النفوذ، ومؤشر على مدى تعقيد "الحرب الهجينة" التي تخوضها موسكو ضد خصومها في الغرب.