دمشق- تُعد الحريات الإعلامية والمدنية والثقافية والسياسية ملمحا مهما من مؤشرات تقييم مرحلة انتقالية، على طريق بناء بلد مستقر واقتصاد متعافٍ ومجتمع متصالح. فكيف يبدو واقعها بعد عام على إعلان حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع انتصار الثورة؟

وتمثّل حرية العمل المدني الركيزة الأساسية لفعالية المجتمع في التعاطي مع قضاياه المستجدة، بعد سقوط نظام استبدادي حرم السوريين من تنظيم أنفسهم لأكثر من 5 عقود.

ويرى أحد مؤسسي مبادرة "خيم الحقيقة" واصل حمادة أن العمل المدني في سوريا يخطو حاليا خطواته الأولى، وأن الطريق لا يزال صعبا، ويعتبر ذلك مفهوما لأن هذا المجال كان يخضع لرقابة شديدة خلال عقود، مع ارتباط معظم مؤسساته بالنظام السابق.

بعد عام من التحرير.. هل حققت الحكومة السورية ما يكفي للسلم الأهلي والعدالة الانتقالية؟ pic.twitter.com/DsWSEIFTXw

— SyriaNow – سوريا الآن (@AJSyriaNow) December 4, 2025

تغييرات كبيرة

يقول حمادة للجزيرة نت إن المجتمع المدني اليوم يجب أن يكون مستقلا عن السلطة، ويتمتع بحرية التعبير والنقد والقدرة على الضغط باتجاه اتخاذ قرارات معينة، مضيفا أن الوصول إلى الوضع المثالي لم يتحقق بعد، وإنما هناك خطوات بهذا الاتجاه، مع صعوبات ترتبط بـ"خلفيات كوادر السلطة الحالية التي جاءت في معظمها من سياقات ثورية وعسكرية".

وتحدث عن "تغييرات كبيرة" مثل امتلاك السوريين -اليوم- حق التظاهر دون الحصول على موافقات رسمية مثل احتجاجات دمشق خلال أحداث السويداء في يوليو/تموز الماضي، بعد أن كانت في عهد نظام الأسد بمثابة مجازفة خطيرة. وقد عدّ ذلك مؤشرا على أن التغيير قائم، لكنه يتطلب عملا طويلا نظرا لـ"وجود خطاب تعبئة وطائفية متجذر يحتاج إلى اتخاذ إجراءات رادعة".

ومن جهته، أوضح عبد لله سلوم الناشط المدني في حراك كفرنبل أن أحد أبرز المكاسب المباشرة التي حققتها الثورة هو ترسيخ حرية التعبير. فبعد سقوط النظام لم يعد هناك اعتقال للصحفيين بسبب آرائهم السياسية "حتى أولئك الذين يعبّرون عن مواقف متطرفة أو انفصالية لا تخدم مصلحة الدولة، لا يتعرضون للمساءلة".

إعلان

واستشهد بالمظاهرات التي خرجت في الساحل السوري في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي للمطالبة بـ"الانفصال أو الفدرالية" والتي حمتها قوى الأمن الداخلي.

وتحتاج البلاد اليوم -وفق حمادة- إلى إدراك جماعي يقوم على فكرة عدم وجود منتصر أو مهزوم، بل وجود وطن منكوب يحتاج إلى تضافر الجهود لإعادة بنائه وتحقيق العدالة للكل، مشددا على ضرورة توسيع هامش الحريات السياسية بما يشمل ترخيص الأحزاب، والسماح بالتجمع والتظاهر، وحماية الفعاليات الاحتجاجية.

كما دعا إلى ضبط الخطاب "التحريضي" على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الواقع، ومحاسبة كل من يروج له، والإسراع في إغلاق ملفات العدالة الانتقالية والانتهاكات، سواء ما يتعلق بالمتورطين في الجرائم منذ عام 2011 وما قبلها، وصولا إلى المتورطين في أحداث الساحل والسويداء من أجل "الوصول إلى سوريا مستقرة، تسود فيها مفاهيم العدالة والحريات والتشاركية بعيدا عن الانقسامات".

النظام الحزبي

ويعود سلوم، فيرى أن الحراك السياسي والمدني ما يزال غير منظم بسبب غياب البديل عن التمثيل القائم على الأسس "المناطقية والإثنية والعشائرية". ويعتقد أن بناء حياة سياسية فعالة يتطلب تأسيس أحزاب ونقابات ببرامج واضحة، قادرة على طرح المواقف ومناقشة السلطة وتشكيل حكومات منتخبة لاحقا.

وسيجعل الانتقال إلى نظام حزبي -برأيه- توزيع مقاعد المجالس قائما على قوى سياسية منظمة تتجاوز الاعتبارات الضيقة. كما يؤكد أن غياب الأحزاب يجعل التأثير السياسي الحالي عشوائيا، في حين يسهم وجودها في ضمان استمرار حرية التعبير وإدارة أفضل لشؤون البلاد.

ومنذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، سهلت الحكومة حصول عشرات الوكالات والوسائل الإعلامية العربية والأجنبية على تراخيص للعمل داخل البلاد، وهو ما اعتبره مراقبون تطورا لافتا على مستوى الحرية الإعلامية.

وهو ما يؤكده -للجزيرة نت- الصحفي السوري أحمد بريمو مؤسس منصة "تأكد" مشيرا إلى أن هناك تقدما واضحا في مستوى الحريات، وأن البلاد "لم تشهد وضعا مشابها منذ عقود".

وبصفته عضوا برابطة الصحفيين السوريين ومتابعا لملف القيود المفروضة على العمل الإعلامي، يوضح أنه لم يرصد أي حالات اعتقال أو تغييب قسري أو ملاحقة أمنية تستهدف صحفيين أو مؤسسات إعلامية بسبب عملهم أو نشر مواد تكشف حقائق أو قضايا فساد، ويرى أن هذا التحسن مرتبط بانتفاض السوريين عام 2011 رفضا للإخضاع بجميع أشكاله.

ويرى بريمو أن المشهد الإعلامي يشهد تقدما يأمل أن يكون دائما ومقننا، محذرا من أن غياب الضوابط القانونية للحريات قد يفتح المجال أمام انتشار خطاب الكراهية والطائفية والممارسات المنافية لمبادئ العمل الصحفي.

بعد 13 عاما من إغلاق مكتبها في دمشق.. الجزيرة تطل من العاصمة السورية كأول قناة عربية وعالمية تصل إلى هناك بعد إسقاط المعارضة لنظام الأسد، وبعد أن فقدت الجزيرة على مدى سنين الثورة ثلة من مراسليها وصحفييها خلال تغطيتهم الأحداث في #سوريا | تقرير: نسيبة موسى #الأخبار #الجزيرة_سوريا pic.twitter.com/v0cJk5iU02

— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 8, 2024

ضوابط وقوانين

ويقترح بريمو ضرورة استثمار هذا الواقع عبر إعداد مواثيق شرف إعلامية ملزمة تمنع تأجيج الصراعات وإعادة فتح جراح الحرب، مؤكدا أن انعدام المحددات يُستغل لتعميق الانقسام، وأن على الصحفيين والمؤسسات ووزارة الإعلام مسؤولية كبرى في تقنين هذا المجال لضمان الاستفادة من المكاسب المحققة بعد الثورة.

إعلان

وبما أن الإعلام يشمل كل من ينتج محتوى عبر منصات التواصل بمن فيهم المؤثرون، يرى مؤسس منصة "تأكد" ضرورة إخضاعهم أيضا لضوابط تحدد الحد الفاصل بين حرية التعبير والتحريض.

وشدد بريمو على أن تفعيل الدور الرقابي للإعلام على مؤسسات السلطة ضروري ليؤدي دور "السلطة الرابعة" موضحا أن تحقق ذلك يتطلب ممارسة إعلامية بعيدة عن الانحيازات السياسية، بما يخدم بناء الدولة ويمنع نشوء منظومات قمعية أو فاسدة مستقبلا.

وكانت منظمة مراسلون بلا حدود قد صنفت سوريا بالمرتبة رقم 177 من أصل 180 على سلم حرية الصحافة لعام 2025، معتبرة أن المشهد الإعلامي بالبلاد "ما يزال بعيدا عن التحول العميق المنشود بعد سقوط النظام السابق" نظرا إلى "استمرار التضييق على الصحفيين وغياب البيئة الملائمة لعمل إعلام حر ومستقل".

وقد شهدت سوريا، منذ ديسمبر/كانون الأول 2024، تشكيل عدد من الحركات والأحزاب السياسية، وإعلان أخرى بدء عملها.

ويرى أمين عام الحركة الوطنية السورية زكريا ملاحفجي أن واقع الحرية السياسية يشهد انفراجا ملحوظا، لكنه يحتاج قوانين تكفل حماية الحريات. وقال للجزيرة نت إن هذه السنة شهدت بروز تعددية حزبية وإعلامية واسعة بعد تراجع القيود الأمنية على العمل العام، إلى جانب ظهور مبادرات مدنية ومحلية تمارس دورها بحرية أكبر.

وأوضح أن هذه المكاسب تبقى غير مستقرة بسبب ما اعتبره غياب بنية دستورية مكتملة، وتفاوت سلطة المؤسسات بين منطقة وأخرى، وعدم تبلور منظومة قانونية واضحة لتنظيم الحياة السياسية الحديثة.

نشاط واسع

بدورها، تعتقد خديجة منصور نائبة الأمين العام للحزب الدستوري سابقا أن مرحلة "ما بعد التحرير" تشهد نشاطا سياسيا ومدنيا واسعا، ولفتت إلى أن الإعلان الدستوري يتضمن مواد تتعلق بسن قانون جديد للأحزاب لتنظيم العملية السياسية ضمن إطار قانوني، وأن السوريين متعطشون لهذا العمل وينتظرون صدور القانون.

كما يشمل الإعلان -وفقا لها- إضاءة قانونية مهمة تؤكد أن سوريا ستكون دولة مدنية وتعددية، وتعرب خديجة عن تفاؤلها في انتظار تشكيل البرلمان وإصدار قانون الأحزاب بالشكل الذي يلبي تطلعات الناس و"خصوصا أبناء الثورة الذين قدموا تضحيات كبيرة ليصلوا إلى هذه المرحلة".

وأضافت السياسية السورية -للجزيرة نت- أن السلطة لا تمنع الناس عن ممارسة العمل السياسي، لكن من الضروري الإبلاغ عن القيام بأي نشاط نظرا لحساسية المرحلة بعد الأحداث الأخيرة في الساحل والسويداء.

وبشأن واقع الحريات العامة، أكدت أن الفارق كبير مقارنة بالماضي، وأن الناس باتوا يعبرون عن آرائهم بشكل واضح، لكنها تشدد على ضرورة تنظيمها بقوانين تتيح محاسبة كل إساءة، مما يشكل خطوة نحو دولة المؤسسات والمواطنة التي يأمل السوريون الوصول إليها.

تحديات وتوصيات

ويعود ملاحفجي واصفا المشهد السياسي بأنه ينتقل من الاستبداد الصلب إلى حالة من الانفتاح تسمح بمساحات أكبر للحرية، لكنها "تفتقر إلى الضمانات القانونية التي تجعلها دائمة ومؤطرة" ملخصا أبرز التحديات في التالي:

غياب الإطار الدستوري النهائي الذي يحدد شكل النظام السياسي ويفصل السلطات ويضمن حقوق المشاركة، بما في ذلك صدور قانون الأحزاب المنصوص عليه في المادة 14 من الإعلان الدستوري.  تعدد مراكز القوة وبطء توحيد المؤسسات، ووجود مناطق تتمتع بسلطات محلية تفاوض الحكومة، وتنافس بين القوى السياسية والعسكرية المحلية، مما يقيّد قدرة المواطنين على ممارسة حرية سياسية حقيقية ويصنع بيئات متفاوتة لهذا الحق. ضعف الثقافة السياسية بعد عقود من الحكم الأمني، حيث ما تزال المشاركة الشعبية محدودة، ويغيب الوعي السياسي بأهمية المشاركة والتداول والمساءلة.

وأكد ضرورة اتخاذ عدة خطوات لتأمين استدامة الحريات السياسية، عبر:

إعلان تعزيز التشاركية وفتح باب المشاركة أمام الجميع. توحيد المؤسسات تدريجيا وبناء أجهزة دولة مدنية ومهنية، وإعادة هيكلة هذه الأجهزة لتعمل تحت إشراف قانوني. تعزيز الثقافة السياسية والمواطنة من خلال برامج تعليمية وورش عمل ومنصات إعلامية تعيد صياغة العلاقة بين المواطن والسياسة على أساس الوعي لا الولاء. العمل على وضع قانون عصري للأحزاب والجمعيات يسمح بالتعددية ويمنع الاحتكار السياسي، مع آليات واضحة للتمويل والشفافية. ضمان استقلال القضاء باعتباره الحامي الأخير للحقوق السياسية، ومنع أي جهة من فرض إرادة خارج القانون.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات حریة التعبیر للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «2-11»

بقلم: الدكتور عبد الله الفكي البشير [email protected] ختمت البروفيسور آمال قرامي تقديمها للطبعة الثانية التي ستصدر قريباً من كتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، قائلة: “يصدر المُؤلَف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المُؤلَف ملاذ الحائرين/ات والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟” البروفيسور آمال قرامي أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس صحيفة الرأي العام السودانية وسوء الفهم وسوء النية “محكمة الردة لم تكن إلا بداية المواجهة بيننا وبين الفقهاء. وطويلة المسألة وكان فيها مواجهة في محاضرات ومواجهة في الصحف “. محمود محمد طه، صاحب الفهم الجديد للإسلام قادت *صحيفة الرأي العام* السودانية على صفحاتها وضمن باب “الرأي العام: من يوم إلى يوم” حملة مستمرة على المحاضرة، وتابعت حملتها حتى بعد صدور حكم محكمة الردة. ففي إطار حملتها على المحاضرة قبل انعقاد محكمة الردة، نشرت العديد من الأخبار والمقالات، منها، على سبيل المثال، مقال جاء بعنوان: “حول عنوان محاضرة محمود محمد طه: عندما تهدد الحرية بالفتنة والاضطرابات”. وكتبت، قائلة: استفزنا عنوان محاضرة الأستاذ محمود محمد طه التي ألقاها بمعهد المعلمين العالي. وأضافت الصحيفة، قائلة: إننا لا نقر أن تصل حرية الأستاذ محمود حدود استفزاز الآخرين وتعريض الأمن للخطر، وتهديد البلاد بفتنة يلعن الله من يوقظها. رد ذو النون جبارة الطيب، عضو الحزب الجمهوري، على صحيفة الرأي العام، بمقال وأرسله للنشر إلا أن الصحيفة رفضت أن تنشره. أعاب ذو النون في مقاله، إطلاق الصحيفة حكمها على المحاضرة من مجرد العنوان، وأوضح بأن عدم توخي الدقة هو الذي أوقع الصحيفة في سوء الفهم وفي الخطأ. وقال: من ذا الذي قال بأن الاسلام لا يصلح لكل زمان ومكان؟ وأوضح بأن حتى العنوان الذي قالت الصحيفة فيه ما قالت لا يعطي ما ذهبت إليه، لأن الإسلام إن كان برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين، فالإسلام برسالته الثانية يصلح لإنسانية القرن العشرين، والقرون التي تليه، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وأضاف ذو النون، قائلاً: لقد أصدر الحزب الجمهوري، قبل ثلاثة أعوام كتاباً بعنوان: الرسالة الثانية من الاسلام، ولقد دار حوله نقاش مستفيض على صفحات صحيفة الرأي العام الغراء بيننا وبين الشيخ محمد محمود شاهين (مصر)، كنا نحسب أن فيه الغناء. ترتب على حملة صحيفة الرأي العام أن سعى رجال الدين، وبعض المسؤولين في الدولة لمنع المحاضرة، واستعداء السلطات، بينما كانت السلطات جزءاً من المؤامرة، كما سيأتي لاحقاً. قاضي القضاة يخاطب رئيس وأعضاء مجلس السيادة بشأن إقامة المحاضرة كان الشيخ عبد الماجد أبو قصيصة (1910- 1993) قاضي قضاة السودان (1965- 1969)، قد يسعي سعياً حثيثاً، وهو على رأس مجموعة من العلماء ورجال الدين، لمنع المحاضرة ولإثارة السلطات ضد الحزب الجمهوري، وكان يتوكأ على نقطة الأمن، ويظهر الحرص على الأمن. فقد بعث بخطاب إلى السادة رئيس وأعضاء مجلس السيادة، بصورة لوزارة التربية وسلطات الأمن، ينصح فيها بعدم تقديم المحاضرة المزمع تنظيمها في معهد المعلمين العالي يوم 11 نوفمبر 1968 خشية أن يكون فيها ما يثير المسلمين. لم يكن سعى قاضي القضاة لمنع المحاضرة منفصلاً عن التحركات لتدبير محكمة الردة، فقد كان هو جزءاً منها، إذ اتصل به المدعي الأول في القضية الأمين داؤد، قبل اسبوعين من انعقاد المحكمة. على الرغم من تدخلات قاضي القضاة ومراسلاته مع مجلس السيادة ووزارة التربية والتعليم وسلطات الأمن، وتحركات العلماء لمنع إقامة المحاضرة، فإن المحاضرة تحت اصرار الطلاب واستعداد المحاضر قد قامت في موعدها بمعهد المعلمين العالي. أدى قيام المحاضرة إلى تصعيد المواجهة بين الحزب الجمهوري وقاضي القضاة والعلماء ورجال القضاء الشرعي، فانتقلت المواجهة، والتي هي مواجهة فكرية، بسبب عجز العلماء الفكري، من ساحة الحوار إلى ساحة المحكمة الشرعية. المحكمة الشرعية وديوان النائب العام  في ظل الاصرار والاستمرار في تقديم المحاضرة بنفس العنوان: “الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين”، زادت تحركات العلماء ورجال القضاء الشرعي، الذين ظلوا يطرقون مختلف الأبواب من أجل إيقاف المحاضرة، ولمَّا فشلت تحركاتهم، قاموا من خلال المحكمة الشرعية بالاتصال بديوان النائب العام بحثاً عن سند قانوني يتم بموجبه إيقاف المحاضرة. فقد أوردت صحيفة السودان الجديد في 16 نوفمبر 1968، قائلة: “علمت السودان الجديد أن المحكمة الشرعية قد اتصلت بديوان النائب العام تستفسره عن نص قانوني يمكن الاعتماد عليه لإيقاف محاضرة الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري (الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين) التي قدمها بمعهد المعلمين العالي”. وأضافت الصحيفة أن ديوان النائب العام “أبلغ المحكمة الشرعية أن هذا غير ممكن لأن الندوة تقام في مكان خاص”. مع فشل كل هذه التحركات من قبل قاضي القضاة والعلماء ورجال القضاء الشرعي، كشفت صحيفة السودان الجديد ضمن تحرياتها، بأن هناك اتجاه “في المحكمة الشرعية بمقاضاة السيد محمود محمد حول الأفكار التي يدعو لها”. نسخ المؤامرة في ساحة مجلس السيادة السوداني من المؤسف حقاً أن يكون رأس الدولة أعلى سلطة سيادية ممثلاً في مجلس السيادة، وفي ظل نظام ديمقراطي، طرفاً في مؤامرة لعقد محكمة لتحكم بردة مفكر إسلامي. كان المجلس برئاسة السيد إسماعيل الأزهري، وعضوية كل من: السيد/ خضر حمد، والسيد/ داود الخليفة، والسيد/ الفاضل البشرى المهدي، والسيد/ جيرفس ياك. فقد أبرزت الوثائق أن رئيس المجلس وبعض أعضاء المجلس، اشتركوا على نحو ما في مؤامرة محكمة الردة. مجلس السيادة ونداء الأمين داود “إلى ولاة الأمر في السودان”، 1 أكتوبر 1968 كان المدعي الأول في قضية محكمة الردة الأمين داود، قد أتصل برئيس مجلس السيادة وأعضاء المجلس، قبل المحكمة، وكان قد وجه نداءً بعنوان: “إلى ولاة الأمر في السودان”، بشأن محمود محمد طه والجمهوريين، وذلك بتاريخ غرة أكتوبر 1968، قبل المحكمة بـ (48) يوماً. كما أرسل لهم نسخاً من كتاب كان ألفه بعنوان: نقض مفتريات محمود محمد طه. بيَّن الأمين داود بأنه تقدم بهذا النداء إلى ولاة الأمر في السودان، بإسم زملائه علماء السودان بل بإسم المسلمين جميعاً. وطالب الحكومة وولاة الأمر أن يقوموا بواجبهم تجاه الضالين المضلين، “كي لا يعم ضررهم ولا ينشر باطلهم. فهم باسم الإسلام يهدمون الإسلام وباسم الدين يقوضون صرح الدين”. تضمن نداء الأمين داود حكماً على محمود محمد طه والجمهوريين بالخروج عن الإسلام والردة. وطالب النداء بالآتي: 1. أن توصد نوادي الجمهوريين في الحال ولا يسمح بفتحها. 2. لا يسمح لأحد من هؤلاء الجهال أن يتحدث بإسم الدين أو أن يفسر آية من كتاب الله وذلك بعد أن بينا فهم رئيسهم السقيم لآيات القرآن وقلة درايته بالبراهين الواضحة وذلك لأن محمود محمد طه واتباعه خارجون عن الإسلام ومرتدون. وحكم المرتد شرعاً أن يستتاب ثلاثاً، فإن لم يتب قتل كفراً لا حداً، وذلك للأسباب الآتية: … إلخ ثم عدد ستة أسباب لذلك. ونحن في انتظار ما تقوم به الحكومة من عمل واجب عليها تحمد عليه عند هذا الشعب الذي اختارها، وإلا فهي تتحمل تبعة حصول مالا تحمد عقباه. أرسل الأمين داود هذا النداء مع نسخة من كتابه نقض مفتريات محمود محمد طه، وقد أوضح بأنه تلقى ردوداً مكتوبة من السيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة، ومن السيد الفاضل البشرى المهدي، عضو مجلس السيادة، كما سيرد في الحلقات القادمة. نلتقي في الحلقة الثالثة الوسومعبد الله الفكي البشير

مقالات مشابهة

  • أفكار حول الجذور العميقة للأزمة السياسية البنيوية
  • سوريا بعد عام: تفاصيل انتصار الثورة وتعقيدات المرحلة الانتقالية
  • حماة بين 1982 و2025: مدينة تستعيد حضورها في الذكرى الأولى لسقوط الأسد
  • احتفالات تعم سوريا في الذكرى الأولى لانتصار الثورة
  • السويداء تتعالى على جراحها وتعيش فرحة انتصار الثورة بذكراها الأولى
  • سوريا: القبض على عميد متورط بقمع مظاهرات حمص في بداية الثورة
  • مشاورات موسعة بين القوى السياسية المعارضة بتونس.. محامون يصعدون
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «2-11»
  • جيلٌ كبر مع الثورة.. كيف يرى سوريا بعد عام على الإطاحة بالأسد؟